ما إن أتوقف عند موضوع "الجندرية" وأتفكر مليًّا فيما تقوم به النساء العاملات في مجال حقوق المرأة ومحاولاتهن المستميتة في فرض حقوقهن بواسطة خطاب المساواة بالرجل، كثيرًا ما يدور في خَلدي هذا التساؤل:
ما هو الأَولى بالمرأة: السعي وراء تحقيق مكاسب المساواة بالرجل؟! أم أنّ الأجدر بها تعزيز فكرة وجودها ككيان له قيمته الإنسانية العالية خُلِق ليعيش في هذا الكوكب مكملًا لضلع الوجود الأزلي؟
من خلال متابعاتي ومعايشتي للظواهر في محيط العائلة البعيد والقريب أو من خلال معايناتي المهنية بالجامعة أو بمقر عملي السابق في المستشفى أو الوزارة أو حتى المنظمات، وجدت أن النظرة الدونية للمرأة لم تزل حاضرة في الوعي الجمعي، مع التفاوت النسبي في حالة التعبير عنها.
المنظمات الأممية العاملة في اليمن، ومن خلال موظفيها، تحاول على الدوام الظهور بمظهر المناصر لقضايا المرأة، وهذا يعتمد بالطبع على أشياء عديدة؛ أهمّها الخلفيات الثقافية للموظفين فيها، سواء كانوا عربًا أم أجانب؛ والفرق أنّ الأجنبي يعي ويخاف تبعات القانون الذي تربّى عليه في بلاده، عن مشاركة المرأة واحترامها وإثبات وجوديتها. ورغم ذلك، ما زالت المرأة الغربية تعاني من تفاوتات، مثل التفاوت الواضح في نسبة الأجور مثلًا.
أما إذا تحدّثنا عن المشتغلين اليمنيين في هذا الجانب، فالكثير منهم لم ينشأ ويتربى على هذه القوانين؛ حيث لا قوانين ولا ثقافة مبذورة في وعيهم، غير أنّ البيئة الوظيفية الجديدة تضغط عليهم دومًا وتذكّرهم بذلك، وتحاول تثقيفهم بما يُملى عليها من إرشادات دورية دولية عمّا يسمى بالتثقيف الجندري.
ما أنا بصدده في هذه المقالة القصيرة، هو ما يلفت انتباهي دومًا عند مشاركاتي في لقاءات ومؤتمرات من هذا النوع؛ وهو المحاولات الحثيثة لـ"بعض" المشتغلين بهذه القضايا، الذين تراكمت خبراتهم بالتعلم، حين يظهرون بمظهر النخبة المستنيرة والمتحررة من القيود البالية، وهذا قد يكون أحيانًا صدقًا وإيمانًا بدور وأهمية هذا السلوك، لكن في أحايين كثيرة، يكون المشغل الفاعل والمستبطن هو ما تراكم في وعيهم من موروثات (قيدية) بالية، حيث تراهم في الواقع الفعلي يتصرفون بعكس منبريتهم ونقاشاتهم دون أن يشعروا، وأن بعضهم يقومون بممارسات هي أخطر -من وجهة نظري- تمتهن وتنتقص مكانة المرأة المتعلمة وغير المتعلمة أيضًا.
يحاول المثقف اليمني أن يظهر في المجتمع المحيط به، بأنه يؤمن بمبدأ المساواة، وأنه عصراني ومتحرر من كل الثقافات الرجعية التي تحظر وتلغي دور المرأة الجوهري في بناء مجتمعها؛ لذا تجده يذكر افتخارًا واستعراضًا مبدأ "الجندرية" محاولًا إيجاد شكلًا ذرائعيًّا لصورة المرأة، تلميعًا وتكميلًا وصقلًا لمظهره المتحرر أمام الآخرين وأمام المنظمات الدولية فقط.
على سبيل المثال، يظهر الناشط في حديثه وبنبرة لافتة وقوية في ظاهرها مناصرًا ومدافعًا، لكنها كما تتضح لي ساخرة في باطنها، وتقول بما معناه: "لا بد أن نأتي بامرأة معنا لأنّنا نعزز "الجندر"، وحتى نظهر بمظهر العصريين المثقفين، لأننا في الأصل مع حقوق المرأة"، وإلى غير ذلك الكلام المصطنع.
الموضوع لا يحتاج استعراضات بلاغية وخطابية كلما سنحت الفرصة أمام الكاميرا ولقاءات الشركاء الدوليين، ولا يحتاج تذكير المحيط بدور المرأة في الحياة، بل يحتاج خطوات عملية لتعزيز هذا الجانب على أرض الواقع يبدأ من داخل الأسرة ذاتها، وإذا كنّا لا نشعر بها ككائن موازٍ له حضوره ووزنه وثقله، فلا داعي لاستحضارها شكلًا ديكوريًّا لتلميع حضورنا به. باختصار؛ لا نحتاج نحن النساء لممارسات وثقافات كهذه وتأطيرات مكملة لدور الرجل الاستعراضي.
إن لم يكن هذا المخلوق الإنسان (المرأة) كفؤة قادرة على أداء دورها الفاعل المنتج في الحياة وبكفاءة مثلى، فلا داعي لأن يُسدّ بها فراغ استعراضي، حتميته في نهاية المطاف ضعيف المحتوى، مثلها مثل أي رجل ضعيف.
نحن النساء لا نحتاج لمثل هذه "الصدقات"؛ فحقّنا واضح، حق بديهي بالتعايش المتساوي والمتوازن وأداء الحقوق والواجبات وتبادلها مع الرجل وبقية أفراد المجتمع. وموكول إلينا الحق في أن نناله بدون مَنٍّ، مثلنا مثل الرجال، وشرط كفاءة الواحدة منها وثقافتها تحدّد وجودها ومشاركتها بدرجة رئيسية؛ فإن نفعت حضرت وإن لم تكن على قدر الحضور والنفع فلا داعي أن تكون مكملًا ديكوريًّا وموضوعًا للمزايدة والاستعراض.
رأيٌ مثل هذا قد يؤلم الكثير من النساء؛ لأنه يبدو لهن أنه ضد مبدأ المناصفة، لكن أنا هنا أعزز مبدأ الكفاءة قبل المناصفة لأي كائن كان ذكرًا أم أنثى، وإن كنت أرى أنّ المناصفة هي موضوع آخر وقد أشبع نقاشًا، وأنّ المرأة في اليمن حتى اليوم لم تجد حقّها الكافي من الظهور وعرض قضايا المجتمع بدون وصايا.
المناصفة لن تأتي إلّا إذا تم تعزيز مبدأ: أهمية رأي المرأة وحضورها الفاعل في كل الأحوال والأعمال والقرارات، وستكون المناصفة عادلة وبديهية إذا تم تثبيت حق القَبول بها في الوجود أولًا، والأهم أن يقبل المجتمع بوجودها كيفما تكون، حتى وهي عديمة الكفاءة مثلها مثل الكثير من الرجال، أو بمعنى أدقّ مثلها مثل العمالة المفروضة على المجتمع من ذكور اعتلَوا المناصب بدون أيّ كفاءة أو تعليم أو ثقافة.
دعونا نرتقي بصدق ونحاول تفكيك الموروثات العقيمة المتوارثة بعقولنا والمتغلغلة بـ(كروموسوماتنا) أولًا؛ لأنّ هذه الموروثات هي من شوّهت ومسخت ثقافتنا وأنتجت في وعينا مثل هذه النظرة الدونية والاحتقارية لهذا الكائن الإنساني.
لي تحفظاتي الخاصة حيال توظيف مصطلح "الجندر" كلما أردنا تجميل المكان والزمان بصورة المرأة في الندوات والمؤتمرات، لأنّي مؤمنة بأن لكل كائن وظيفة محددة بحسب الكفاءة ومستوى التعليم ومخرجاته وعطائه فقط، ويختلفان (المرأة والرجل) في وظائفهما البيولوجية؛ وكلٌّ له حق وعليه واجب حين يؤدّي وظائفه في المجتمع.
دعونا نرشِّد من استخدام المصطلح البراق، وتوظيفاته اللامعة، ونتذكر فقط الوجودية الملحة للتكامل والإنتاج ثم الكفاءة والمناصفة للكائن الانساني المشطور إلى رجل وامرأة.
استدراك
قضية 30% "كوتا"، هي موضوع آخر، وأراه استغلالًا آخر وهضمًا لوجود نصف مجتمع فاعل حُصر فقط بـ(30%).
المرأة بكل مراحل عمرها هي نصف مجتمع، ويستحق الوجود!