لم تكن أسرة الشاب فتحي السامعي تتوقع أن تكون نهايته مأساوية عندما قرّر الانضمام إلى جبهات القتال على الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية. فتحي، الشاب العشريني، التحق بجبهة ميدي (شمال محافظة حجة)، حيث قاتل مدة أربع سنوات قبل أن يسقط قتيلًا بسبب مقذوف، ولم تتمكن عائلته حتى من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمانه.
تروي والدته بحزن: "اتجه فتحي إلى ميدي؛ لأنّ الراتب كان كبيرًا هناك، في وقت لم يكن هناك عمل في البلاد ولا في عدن. افتقدناه فترة طويلة ولم نعلم أين هو إلا عندما وصل إلى الحدود. قضى أربع سنوات هناك، وعاد إلى القرية مرة واحدة فقط، لكنه عندما عاد إلى ميدي من جديد، كانت تلك المرة الأخيرة، لم نتمكن حتى من زيارته أو دفنه جوار أهله".
تراجع سياسي
شهدت اليمن تراجعًا شديدًا في مشاركة الشباب في الحياة السياسية بعد سيطرة جماعة الحوثي على أجزاء واسعة من البلاد، ممّا أدّى إلى تجميد المسار الانتقالي والسلمي؛ هذا التراجع فتح الباب أمام تجنيد الشباب قسريًّا لصالح الجماعات المسلحة، حيث أصبحوا أهدافًا سهلة لأموال هذه الجماعات، في ظلّ تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لمعظم الأُسَر.
الشباب والأطفال هم الفئة الأكثر عرضة للتأثر بالأفكار المتطرفة والمذهبية، وفي ظل تفشي الفقر والبطالة، أصبحت هذه الفئة الأكثر تضررًا، حيث أجبرتهم الظروف على البحث عن مصادر دخل تسدّ رمقهم ورمق أُسَرهم، وجدت الجماعات المسلحة في هذا الوضع فرصة لاستغلالهم، عبر إغراءات متنوعة، لكنها ساقتهم نحو الهاوية.
أجبرت الأوضاع المتدهورة الكثيرَ من الشباب على ترك التعليم والتدريب المهني، والتخلي عن النشاط السياسي والثقافي، في ظلّ غياب الفرص الوظيفية والخدمات الحكومية، لتنحصر خياراتهم داخل فكرة الموت ذاتها؛ إما على جبهات القتال، أو الموت جوعًا في المنازل، فاختار أكثرهم الخيار الأول بمتاحه المالي وتسخيرات الأقدار في الحياة من عدمها.
خلال عقد كامل، وجد الشباب في اليمن أنفسَهم وقودًا لحرب عبثية، ليس في الأفق ما يشير إلى قرب انتهائها، حيث يتقاسم المتحاربون الغنائم والمكاسب والمناصب، بينما يتقاسم الشباب القهر والفقر والموت والإعاقة.
تعرض لإصابة خطيرة بعد انهيار جدار كانوا يختبئون خلفه من عاصفة قوية، وبعد نقله إلى المستشفى، تأخر علاجه كثيرًا؛ ممّا أدّى إلى تدهور حالته الصحية وإصابته بالشلل.
عاد معاقًا
عبداللطيف حُمَّنة، هو واحد من الشباب الذين دفعوا الثمن غاليًا حينما حاول الالتحاق بقوات "حراس الجمهورية" التابعة لطارق صالح، عضو مجلس القيادة الرئاسي المعترف به دوليًّا، لكنه عاد مشلولًا قبل أن يتجنّد أصلًا.
ففي منطقة الخوخة، التابعة لمحافظة الحديدة، وأثناء تجمع الشباب للتجنيد، وهو واحد منهم، تعرض لإصابة خطيرة بعد انهيار جدار كانوا يختبئون خلفه من عاصفة قوية، وبعد نقله إلى المستشفى، تأخر علاجه كثيرًا؛ ممّا أدّى إلى تدهور حالته الصحية وإصابته بالشلل.
عمل عبداللطيف قبل محاولة التحاقه بقوات طارق، في مهنة الرنج والدهانات، وكان يعتمد في تأمين قوته وقوت أسرته على أعمال حرة أخرى، لكن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، وجد نفسه مضطرًا للانضمام إلى القوات المدعومة من الطرف الثاني في التحالف العربي (الإمارات العربية المتحدة).
يقول عبداللطيف: "الأعمال لم تعُد كما كانت قبل الحرب، والحياة أصبحت صعبة، فدفعتني الظروف إلى الالتحاق بهذا الفصيل العسكري تأمينًا لمعيش أسرتي إلى جانب رغبتي أيضًا في الانضمام إلى قوات المقاومة، كما فعل زملاء وأصدقاء قبلي".
لكن عبداللطيف لم يكن يعلم أنّ هذا القرار سيغير حياته إلى الأبد، فبعد إصابته، تم نقله إلى المستشفى الميداني التابع لقوات طارق صالح، حيث مكث ثلاثة أيام دون تلقي العلاج اللازم، وبعد تشخيص حالته، تبيّن أنه يعاني من كسر في الفخذ الأيمن، لكن العلاج تأخّر؛ ممّا أدّى إلى تفاقم حالته وإصابته بالشلل النصفي.
تحدث عبداللطيف عن معاناته بعد الإصابة، حيث يقول: "تم نقلي إلى عدن لتلقي العلاج، لكني واجهت صعوبات كبيرة في الحصول على الرعاية اللازمة، وبعد إجراء أشعة مقطعية، تبيّنَ أني أعاني من كسر في العمود الفقري وضغط على الحبل الشوكي؛ ممّا استدعى نقلي إلى القاهرة لإجراء عملية جراحية لتثبيت الفقرة المصابة، ورغم تحسن حالتي قليلًا، اضطررت للعودة إلى اليمن قبل استكمال علاجي في الخارج".
يختتم عبداللطيف بمرارة: "ذهبت للالتحاق بقوات طارق صالح مشيًا على قدمي، وعدت مشلولًا وعاجزًا عن الحركة، وبعد معاناة طويلة، عُدت إلى منزلي في مدينة حيس، لكن حالتي الصحية تدهورت، وأصبحت أعاني من تقرحات جلدية وتدهور مستمر".
الجماعات الدينية والجهوية والقبَلية ترى في الشباب خزانًا بشريًّا يمدّها بالمقاتلين والأنصار؛ ولذلك تحرص على استقطابهم للانضمام إلى صفوفها.
الأكثر استهدافًا
عبداللطيف ليس وحده في هذه المعاناة، فهناك الكثيرون مثله، ومن بينهم: نزار العبسي، الشاب العشريني الذي اختطفته جماعة الحوثي مرتين من أحد نقاطها في تعز. تشير والدته إفتكار العبسي إلى أنّه ابنها كان ضحية حربٍ لم يكن له أيّ علاقة بها، زُجّ به في سجون مدينة الصالح في الحوبان، وخرج منها مصابًا بحالة نفسية شديدة، نتيجة للتعذيب والمعاناة التي تعرض لها.
نزار هو واحدٌ من العديد من الشباب الذين دمّرت الحرب أحلامهم، وجعلتهم مشرّدين، أو تائهين، أو جنودًا في صفوف أطراف الصراع.
الباحث الاجتماعي، عيبان السامعي، يوضح أنّ الشباب هم الفئة الأكثر تأثيرًا وحضورًا في المجتمع اليمني، ومن ثمّ هم الأكثر استهدافًا من قبل الجماعات المسلحة. يشير السامعي إلى أن الجماعات الدينية والجهوية والقبَلية ترى في الشباب خزانًا بشريًّا يمدّها بالمقاتلين والأنصار؛ ولذلك تحرص على استقطابهم للانضمام إلى صفوفها.
يؤكّد السامعي أنّ الشباب، وخاصة الذكور، هم الأكثر انخراطًا في الحرب والأكثر تأثرًا بها، الحرب حوّلت الكثير من الشباب إلى وقود لها، ممّا أدّى إلى ارتفاع معدلات القتلى والمصابين والمعاقين حركيًّا بينهم.
ويُلفت السامعي إلى أنّ الحل الوحيد لإنهاء هذا النزيف واستغلال الشباب هو وقف الحرب، وإيجاد فرص عمل لائقة تتناسب مع قدراتهم ومؤهلاتهم، ويجب أن يكون للشباب اليمني دورٌ في بناء مستقبل بلادهم، بعيدًا عن الصراعات التي حوّلتهم إلى ضحايا، ووضع حدٍّ لهذه المأساة، والعمل على توفير بيئة آمنة ومستقرة للشباب تحقّق طموحاتهم وأحلامهم.