تعاني الثلاثينية سمية أحمد (اسم مستعار)، من قلق ورهاب، إذ مرت بأزمة عاطفية بعدما قرر زوجها الزواجَ بامرأة أخرى غيرها. في بداية الأمر، تمالكت نفسها من أجل أولادها وعائلتها، ولم تظهر أي علامات على الانهيار أو حتى التأثر نهائيًّا.
إلا أنها بعد مضيّ فترة، عانت من آلام في الرقبة والظهر وقلة في النوم. تقول سمية، لـ"خيوط": "مررت بظروف صعبة أدّت إلى معاناتي من رهاب الموت، حيث أصبحت كلمة "الموت" أمرًا مزعجًا بالنسبة لي، ويثير مخاوفي أي سبب من المحتمل أن يؤدي إلى الوفاة، وكذلك إبلاغي خبر وفاة أحد من أقربائي".
منذ أكثر من ثمانية أعوام من اندلاع الحرب في اليمن، ما زال المواطن اليمني يتجرع آثار تلك الحروب أمنيًّا واقتصاديًّا ونفسيًّا. أصبحت المعيشة كل يوم أصعب من ذي قبل، استنزفت سنوات الحرب طاقات المواطن من الصبر مواسيًا نفسه؛ "لعلها تفرج قريبًا".
تبعات الحرب القاسية فتكت بكل جانب إنساني، لا سيما الجانب النفسي، الذي أظهر ارتفاع عدد المصابين بالاضطرابات النفسية الخفيفة والمتوسطة والأكثر شدة، فضلًا عن مستوى التدهور الذي وصل إليه الطب النفسي والمنشآت الصحية المختصة في اليمن، مما زاد من تفاقم المشكلة وعدم القدرة على احتواء هذا الأزمة.
أصبح القلق أمرًا طبيعيًّا ومنتشرًا، لا سيما في ظل الظروف التي تعيشها اليمن، بحسب ما قالته الاختصاصية الإكلينيكية جيهان، مؤكدةً أنّ ما يقارب 70% من الذين يزورون عيادتها يتم تشخيصهم باضطراب القلق.
في حين يذكر تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، أنه من بين 3,507 من المنشآت الصحية، تبقى "الخدمات المتعلقة بالأمراض النفسية غير سارية، وظروف الصحة النفسية غير متوفرة إلا في 21% من المنشآت الصحية"، كما أشار إلى نقص في عدد الأطباء النفسيين في اليمن منذ بداية النزاع.
تقول إيمان عبد الرحمن، لـ"خيوط": "نحن في حالة توجس دائم وانتظار لاستقبال الكوارث المتتالية علينا، حيث لم نعُد نشعر بالأمان"، مضيفةً: "إن كان هناك شيء عملت الحرب على تدميره نهائيًّا، فهي نفسيتنا؛ لم نعد نستطيع تحمل المزيد".
تتابع إيمان: "أصوات الطائرات ما زالت عالقة في ذاكرتي وتصيبني بالذعر. الأخبار المفزعة، الأزمات الاقتصادية؛ جميعها أدّت إلى فقدان الأمان"، مشيرةً إلى أن هذه الحالة بدأت لديها في العام الثاني للحرب، ومن ثم تفاقمت المشكلة وأصبحت في تزايد مستمر، تقول: "حتى وصل بي الحال إلى عدم النوم أيامًا متواصلة، شلل تام في سير حياتي اليومية، مخاوف تمكّنت مني أكثر فأكثر".
هكذا تعبر إيمان عن حالتها قبل ذهابها إلى إحدى عيادات الرعاية النفسية، وتواصل حديثها: "تحسنتُ بشكل ملحوظ، بعد فترةٍ استمرتْ حوالي عام ونصف من العلاج النفسي الدوائي والجلسات النفسية، مررت فيها بصعوبات وانتكاسات من فترة لأخرى".
مشكلة متضخمة وقلة مختصين
يتحدث أطباء عن تيارٍ مطردٍ من المرضى الذين يدخلون العيادة للحصول على العلاج والدعم، إذ يعاني كثيرون من القلق أو الاكتئاب والأرق المزمن أو اضطراب الإجهاد التالي للصدمة أو الوسواس القهري.
تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أنّه في النزاعات المسلحة على نطاق العالم، ستلحق بنسبة 10% ممن يتعرضون للصدمات، مشكلات صحية نفسية خطيرة، وأنّ نسبة 10% أخرى، ستصاب باعتلالات من قبيل الاكتئاب والقلق والأرق وآلام الظهر، تعوق قدرتهم على الأداء الفعال.
من العناصر الأساسية لعمل المنظمة في اليمن، تقديم الدعم الخاص بالصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي للمرضى والعاملين الصحيين، في حين لا يوجد في اليمن حاليًّا سوى 40 اختصاصيًّا نفسيًّا، ويوجد معظمهم في العاصمة صنعاء. وللمساعدة في هذا الصدد، تؤكّد "الصحة العالمية" أنها تقوم بتدريب العاملين الصحيين والمجتمعيين خارج العاصمة، على كيفية التدبير العلاجي بواسطة دليل المنظمة لتدخلات برنامج العمل على سد الفجوة في الصحة النفسية، من أجل تعزيز خدمات الصحة النفسية في جميع أنحاء البلد.
بالمقابل، تذكر بيانات صحية صادرة قبل الحرب، وجود أربع مستشفيات للصحة النفسية في اليمن، و0.21 طبيب نفسي و0.17 أخصائي نفسي، لكل 100,000 يمني.
الإخصائية الإكلينيكية بمؤسسة الإرشاد النفسي، جيهان دلال، تلفت في حديثها لـ"خيوط"، إلى تعدد أنواع وتسميات وتدرجات الأمراض النفسية؛ فمنها ما هو ذهاني، وهو النوع الذي يصعُب أو تطول مرحلة علاجه، مثل الشيزوفرينيا (الفصام) وغيره، وذلك مقارنة بالأمراض العصابية التي قد تصيب شريحة واسعة من المجتمع، مثل: الاكتئاب أو القلق والتوتر أو مخاوف ووساوس.
بيئة قلقة
أصبح القلق أمرًا طبيعيًّا ومنتشرًا، لا سيما في ظل الظروف التي تعيشها اليمن، بحسب ما قالته الاختصاصية الإكلينيكية جيهان، مؤكدةً أن ما يقارب 70% من الذين يزورون عيادتها، يتم تشخيصهم باضطراب القلق.
اضطراب القلق أو ما يطلق عليه (Anxiety Disorder)، أكثرُ الاضطرابات النفسية شيوعًا في الآونة الأخيرة، حيث تحدث زيادة إفراز لهرمون الأدرينالين، وقد أظهرت الأبحاث مؤخرًا نشاطًا ملحوظًا في منطقة اللوزة الدماغية (Amygdala) لدى المصابين باضطرابات القلق.
تضيف جيهان أنّ انقطاع المرتبات والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وتدهور الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية وفارق الصرف بين المحافظات، إضافة إلى البطالة وعدم توفر الوظائف، وأزمة المشتقات النفطية؛ جميع هذه العوامل جعلت الجميع يعيشون حالة من القلق الطبيعي لتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة الضرورية، فهناك وفق تقارير منظمات أممية نحو 17 مليون يمني بحاجة لمساعدات غذائية، منهم 6,8 ملايين شخص في حالة طوارئ غذائية في ظل فقدان ملايين من اليمنيين لمصادر دخلهم.
إضافة إلى عدم استقرار السكن، وموجات النزوح الكبيرة، التي كان لها أيضًا دورٌ كبير في عدم الاستقرار النفسي للفرد والمجتمع، حيث بلغ عدد النازحين نزوحًا داخليًّا من محافظة إلى أخرى، حوالي ثلاثة ملايين شخص بنسبة 11% من مجموع السكان، فضلًا عن فقدان الكثير من الأسر العائلَ لهم؛ مما ترك الكثير من النساء والأطفال يواجهون مصيرهم بمفردهم في ظل ظروف قاسية.
الخوف من العلاج
في السياق، يعدّ الخوف من الأدوية موضوعًا شائكًا لدى الكثير، من حيث مدى أمان استخدامها وفعاليتها، والخوف من الوقوع في فخ الإدمان، حسب اعتقادهم. في حين أنّ أهم سبب لنزوح العديد من الأشخاص ونفورهم من دور الرعاية النفسية، هو تلك النظرة التي شكّلها المجتمع منذ القدم، عن المصحات النفسية، بأنها تعمل على تردي صحة المريض وتدهور حالته؛ وذلك بسبب خوفهم الشديد واعتقادهم بتأثير الأدوية سلبًا على الجسم، وأنهم قد يصبحون مدمنين عليها ولا يستطيعون العيش بدونها.
وصلت الأزمة وهذه الاضطرابات إلى الفئة التي يعلق الجميع الأمل عليها للخروج من هذا الواقع السوداوي، بل إن تعرض الأطفال في سن مبكرة لعدة صدمات نفسية، قد تجعل من حلول علاجه مستقبلًا، أكثر تعقيدًا إذا ما تم تجاهل الأمر في الصغر، وعدم أخذ الوالدين وأهل الطفل الأمرَ على محمل الجد.
يؤكّد الدكتور الصيدلاني، أحمد الحسامي، لـ"خيوط"، عدمَ وجود أي مشكلة نهائيًّا من استخدام الأدوية النفسية بشكل عام عند الحاجة إليها إذا كانت باستشارة الطبيب المعالج ومتابعته، مفيدًا بأنّ جسم الإنسان الطبيعي يكون في حالة توازن؛ يفرز موادًّا تسبب القلق وموادًّا تهدئ ذلك القلق، ويتم اللجوء إلى استخدام الأدوية عندما يحصل اضطراب في ذلك التوازن، ويرتفع معدل إفراز المواد المسبِّبة للقلق، فتعمل هذه الأدوية على إعادة ذلك التوازن، وتعوض النقص الحاصل من مفرزات الجسم، وتعيد حالة الإنسان إلى وضعه الطبيعي.
أهمّ ما نبّه عليه الدكتور الحسامي، ضرورة الالتزام بالخطة العلاجية التي يتابعها الطبيب المعالِج بكيفية البدء بالعلاج والتوقف عنه بالتدريج؛ لكيلا يحصل للجسم صدمة، وذلك لأن الأدوية تحل محل مفرزات الجسم، مما يجعل الجسم يستغني عن مفرزاته الطبيعية ويعتمد عليها.
لذلك يجب سحب الأدوية بعد التعافي تدريجيًّا -وفق الحسامي- لكي يحصل انتباه للجسم، ويعمل على تنشيط مفرزاته بعد أن كانت في حالة خمول، موضحًا أن المشكلة في الأدوية ليست باستخدامها، ولكن سوء استخدامها بدون متابعة الطبيب تعتبر مشكلة حقيقية.
الأطفال قنبلة موقوتة
وصلت الأزمة وهذه الاضطرابات إلى الفئة التي يعلق الجميع الأمل عليها للخروج من هذا الواقع السوداوي، بل إن تعرض الأطفال في سن مبكرة لعدة صدمات نفسية قد تجعل من حلول علاجه مستقبلًا، أكثر تعقيدًا إذا ما تم تجاهل الأمر في الصغر وعدم أخذ الوالدين وأهل الطفل الأمرَ على محمل الجد.
أكثر ما يحتاجه الطفل في سنوات حياته الأولى هو الأمان، حيث يشكّل الاحتياج الأكبر لديه، وتبدأ أولى مخاوفه من "قلق الفطام"- كما يطلق عليه بعضُ الاختصاصيين، مرورًا بأزمات قد يواجهها، مثل فقدان أحد والديه وصعوبة التكيف على العيش من دونهما.
في حين أظهرت دراسة لمنظمة يمن لإغاثة الأطفال، أنّ أطفال المناطق التي شهدت صراعًا مكثفًا في الفترة الأخيرة، عانوا من ارتفاع مؤشر الخوف لديهم وانعدام الأمن والقلق والغضب. وأفاد الآباء أنّ 5% من الأطفال يعانون من التبول اللاإرادي، و2% عادوا إلى التَّأْتاة، بينما 47% يعانون من اضطرابات النوم، و24% لديهم صعوبة في التركيز.
سماح يعيش، اختصاصية أطفال، تقول لـ"خيوط"، إن السبب الرئيسي لاكتساب الأطفال القلقَ بعد الأزمات التي تشهدها اليمن، يعود إلى الوالدين، حيث يؤثِّرون تأثيرًا كبيرًا في أبنائهم دون أن يعلموا أنّ هذا سلوك خاطئ في حقهم، فكثرة الحرص على الأبناء والخوف الشديد عليهم من أي شيء، وحرمانهم من الخروج من المنزل بدافع الخوف عليهم، تجعل الطفل ينشأ ومحفزات الخوف لديه كبيرة، إذ يكتسب عن طريق والديه القلقَ والخوف من أي شيء، من خلال مشاهدة تصرفات الوالدين في الحياة اليومية بقلق مفرطٍ غير طبيعي.
وتوضح يعيش أن الخوف والقلق لا ينفصلان عن بعضهما، فالإنسان لا بد له أن يقلق، وهذا شيء طبيعي، لكن المبالغة فيه يعتبر قلقًا مرَضيًّا.
تدعو سماح الآباءَ بشكل خاص، إلى تخصيص وقت محدد للجلوس مع أبنائهم ومحاورتهم والتقرب إليهم، إذ إن حاجتهم لا تقتصر على الأشياء المادية وتوفير مستلزمات الحياة لهم، فالجانب النفسي والمعنوي أيضًا مهم جدًّا في جميع مراحل الطفل، وتنصح بمتابعة الأساليب الحديثة في التربية، وعدم إسقاط تجاربهم الماضية الأليمة على أبنائهم، وجعلها نموذجًا للتربية، بل يجب الاستفادة من أخطاء الماضي وتجنبها في أبنائهم.