دفعت الطالبة بلقيس ثمنَ انفصال والديها، بعد انتقالها إلى بيئة جديدة، رغمًا عن إرادتها ورغبتها، تاركة خلفها ذكريات العمر في مدرستها التي احتضنتها منذ الصغر مع زميلاتها وصديقاتها. وتمثّل الطالبة أنموذجًا لحالة نزوح عكسي إجباري، حيث أُجبرت على الالتحاق بأسرة والدها في مدينة تعز، عقب انفصال والديها.
وجدت بلقيس (اسم مستعار)، نفسها وسط بيئة ومجتمع جديد تجهله كليًّا، ولا تستطيع التكيف معه، وأناسٍ غير متفاهمين ومعقدين، بحسب وصفها، والمرأة عندهم تطبخ وتجلس في البيت.
تعرضت الطالبة، كما هو حال العشرات من طالبات التعليم الأساسي والثانوي في تعز، لصدمات نفسية لم تزل حتى اليوم رغم المحاولات التي يبذلها المختصون.
دعم نفسي اجتماعي مكثف
تقول الاختصاصية في مدرسة بلقيس الجديدة، في حديث خاص مع "خيوط"، إنه تم إخضاع الطالبة لجلسات مستمرة؛ للتقليل من التعسفات والصدمات النفسية، ودمجها وسط مجتمعها الجديد في المدرسة، وخلق صداقات مع طالبات في نفس سنّها، إضافة إلى تواصلها مع الطالبة عن طريق الواتس، وإدخالها في مجموعات المواهب؛ نظرًا لامتلاكها العديد من المواهب التي اكتسبتها عن طريق الإنترنت من كثرة حبسها في المنزل.
تتوزع حالات الصدمات النفسية ما بين الاكتئاب، والعدوانية، والخوف، والتبول اللاإرادي، وعدم التركيز، والنسيان، ويتم إشراك مثل هذه الحالات، في الأنشطة الصفية، ونشاط الكشافة والمرشدات، وقيادة الفصل، والبيئة والزراعة، وعمل الإذاعات المدرسية.
انطواء مدرسي مستمر
نوال (اسم مستعار)، طالبة تدرس في الصف الأول الثانوي، في إحدى مدارس البنات في مدينة تعز، تعاني من حالة انطواء شديدة، وترفض الكلام نهائيًّا مع زميلاتها ومعلماتها في المدرسة، وهي على نفس الحالة منذ التحاقها بالمدرسة في الصف السابع الأساسي. ومنذ دخولها من بوابة المدرسة حتى لحظة مغادرتها نهاية اليوم الدراسي، لا تتكلم مع أحد مطلقًا، لكنها تنجح في الامتحانات التحريرية، وفي المقابل تفشل في الامتحانات الشفوية وتكون درجاتها صفرًا.
تقول الاختصاصية النفسية في المدرسة، إنها فشلت معها العام الماضي، وأنها ردت عليها بصعوبة، بالقول: "أنا ما أتكلم مع أحد، لو سمحتوا اتركوا لي حالي"، وما زالت هذا العام على نفس الوتيرة والحالة، المعلمات متضايقات من حالتها، لدرجة أن إحدى المعلمات قبل أسبوع أصرت على أنه إذا لم تشارك معها الطالبة شفويًّا، فإنها لا تريدها بالفصل.
وكانت المفارقة العجيبة، بحسب حديث الاختصاصية النفسية، حين تم استدعاء والدتها إلى المدرسة، وقالت الأم إن حالة ابنتها طبيعية في البيت، وأنها أكثر واحدة من بناتها تتكلم و"تُشارع" بحسب وصفها، وما زالت حالتها معلقة، وفقًا لحديث الاختصاصية.
تشير اختصاصية دعم نفسي اجتماعي في إحدى مدارس البنات في مدينة تعز.
، إلى أنّ عددًا من الطالبات صغيرات السن وأخريات شابات، لا يعرفن أمهاتهن نهائيًّا، بسبب الانفصال، وزواج الأم، وعدم سؤالها عن أولادها أحيانًا، وهذا ما يضع بصمة سوداء على مدى الدهر في حياة الطالبة.
وتضيف الاختصاصية النفسية، أنها سألت إحدى الطالبات: "ما توحشك أمك؟"، فردّت عليها: "لا، ولا اشتي أشوفها"، ورغم أن والدتها تقوم بمراسلتها والاتصال بها تلفونيًّا، فإنها لا ترد عليها، ما يُظهر وجود فجوة عميقة في حياة تلك الطالبات.
تواصل اختصاصية الدعم النفسي حديثها لـ"خيوط": "عند الجلوس مع هذه الحالات، نحاول إدخال العاطفة إلى قلوبهن، والتقليل من المآسي كي يكبرن بشكل طبيعي"، وحول التدخلات التي تقوم بها المدرسة والاختصاصية الاجتماعية والنفسية، تقول الحروي، إنها تتنوع ما بين تدريبات ودعم نفسي، وجلسات مستمرة، ومشاركة ألعاب الجري، وشدّ الحبل، والتمارين الذهنية، إضافة إلى كتابة القصص، وممارسة الهوايات، وحضور محاضرات دينية، إلى جانب الاحتواء العاطفي، والجلوس مع أسرهن، والزيارات الميدانية.
وحدات دعم تحتاج إلى تأهيل
وقالت عائدة الحروي وهي اختصاصية دعم نفسي ومسؤولة أنشطة في مدرسة زيد الموشكي للبنات أن المدرسة ينقصها الكثير في جانب توفر وحدة مؤهلة للدعم النفسي الاجتماعي المتخصص، ووفقًا للحروي، فإنّ المدرسة بحاجة إلى وجود قاعة للدعم النفسي، والألعاب، والأنشطة، إلى جانب توفر الألعاب الداعمة، والحوافز، والهدايا، والكاميرا، والفلاشات، وشاشة العرض، ومنظومة لتشغيل أجهزة الحاسوب، وقاعة خاصة للجلسات الفردية، إلى جانب أهمية وجود صالة بعيدة عن ساحة المدرسة تتوفر فيها كل المتطلبات، وتكون بعيدة عن الإزعاج داخل حوش المدرسة، فذلك يساهم في تطبيق الدعم النفسي الاجتماعي السليم، وإخراج الطاقات السلبية.
وتتوزع حالات الصدمات النفسية ما بين الاكتئاب، والعدوانية، والخوف، والتبول اللاإرادي، وعدم التركيز، والنسيان، ويتم إشراك مثل هذه الحالات، في الأنشطة الصفية، ونشاط الكشافة والمرشدات، وقيادة الفصل، والبيئة والزراعة، وعمل الإذاعات المدرسية.
وفي نطاق واحدة من أكبر مدارس الفتيات في مدينة تعز، التي يبلغ عدد طالباتها 2800 طالبة، بحسب إحصائية حصلت عليها "خيوط"، فإن ثمة 50 حالة لطالبات معنفات داخل المدرسة، إلى جانب طالبات متضررات نفسيًّا بسبب الانفصال الأسري، ويشير عرض نموذج لطالبة معنَّفة في إحدى مدارس البنات في مدينة تعز، التي تدرس في الصف السادس الأساسي، إلى وجود صدمة عنيفة في طفولتها المبكرة، حيث شهدت مقتل والدتها على يد والدها، وهي طفلة صغيرة؛ الأمر الذي انعكس على سلوكها عندما كبرت، وهي الآن تتعصب بعنف على زميلاتها في المدرسة، وبدأت تأثيراتها تظهر بشكل لافت، وبحسب وصف الاختصاصية للطالبة، بأنها "عنيفة وتُضارِب"، وتم إخضاع الطالبة لدراسة فردية، ومحاولة إشغالها بقيادة الفصل، وممارسة بعض المهارات الفنية، وثمة استجابة مبدئية.
واقع الصحة النفسية والعقلية
وفي حديث خاص مع "خيوط"، عن واقع الصحة النفسية والعقلية لدى طالبات المدارس الحكومية في مدينة تعز، تحدثت الأستاذة، أفراح ثابت، وهي مديرة مدرسة الشهيد زيد الموشكي للبنات في مدينة تعز، التي تقع بالقرب من مناطق التماس في الجهة الشرقية من المدينة، بالقول: "من المؤكّد بهذه الأوضاع التي تمر بها مدينة تعز من حصار عسكري واقتصادي خانق، أن توجد طالبات يعانين من ضغوطات نفسية وعقلية، حيث يتراوح عددهن بين 30 و40 طالبة في المدرسة".
وتشير ثابت، إلى أنّ الصدمات النفسية كانت كثيرة أيام الحرب الفعلية، وبدأت تقل شيئًا فشيئًا في فترة الهدنة الحالية، وأنّ عددها يصل حاليًّا إلى 100 حالة تقريبًا في نطاق المدرسة.
دور مدرسي إيجابي
وعن دور المدرسة في مواجهة تلك الحالات الخاصة، تقول ثابت أنّ دور المدرسة يتوزع ما بين التوعية المستمرة للطالبات، سواء في الفصول الدراسية، أو في الإذاعات الصباحية، إلى جانب الجلسات المستمرة مع الاختصاصيات الاجتماعيات في المدرسة، حيث يوجد لكل مرحلة اختصاصية خاصة بهذا المجال، بالإضافة إلى إشراكهن في الأنشطة الفنية، والرياضية، والفكرية، بشكل مستمر، وكذا عمل دورات وورش عمل على مدار العام الدراسي؛ إما عن طريق بعض المنظمات المجتمعية، أو من قبل معلمات المدرسة.
العديد من الطلاب الذين يعانون من صدمات نفسية وعقلية عنيفة، معظمهم ممن فقدَ أبواه أو أخًا أو قريبًا له أثناء الحرب، ومنهم من أصيب جراء سقوط قذيفة، أو مقذوف ناري، إضافة إلى وجود ما يقارب 200 حالة لطلاب يعانون من ضغوطات نفسية في إطار المدرسة.
مدارس مقصوفة بالقرب من مناطق التماس
وفي اتجاه موازٍ، تحدث سمير علي قاسم، وهو مدير مدرسة باكثير للبنين، الواقعة في نطاق حي الروضة، الذي كان من أكثر المناطق التي تعرضت للقصف والدمار، والقريبة من مناطق التماس، حيث توجد قوات ميليشيات الحوثيين في الجهة المقابلة في منطقة كلابة والجبال المحيطة بها.
وأشار قاسم في حديث خاص مع "خيوط" إلى أنّ مدرسة باكثير للبنين، تعرضت للقصف أكثر من مرة، أثناء سير العملية التعليمية في بداية الحرب، واندلاع المواجهات المسلحة في منطقة الروضة التي تقع في نطاقها المدرسة.
ولفت قاسم، إلى وجود العديد من الطلاب الذين يعانون من صدمات نفسية وعقلية عنيفة، معظمهم ممن فقدَ أبواه، أو أخًا، أو قريبًا له أثناء الحرب، ومنهم من أصيب جراء سقوط قذيفة، أو مقذوف ناري، مشيرًا إلى وجود ما يقارب 200 حالة لطلاب يعانون من ضغوطات نفسية في إطار المدرسة.
طالبات بأحذية ممزقة وأزياء مهترئة
نهاية يناير الماضي، نشرت أشواق عبدالجليل، وهي وكيلة مدرسة الميثاق للبنات في الجهة الغربية من مدينة تعز، الواقعة بالقرب من مناطق التماس غربًا، حالةً لطالبة، قالت إنها تعدّ أنموذجًا لحالات منتشرة بكثرة في إطار مدرستها.
وقالت عبدالجليل في منشور فيسبوكي، تعليقًا على صورة حذاء ممزق لطالبة أرفقته بمنشورها، إنه ليس الحذاء الوحيد الذي يبدو بهذا السوء، بل إنّ العشرات من الطالبات ينتعلن أحذية ممزقة، ويمشين مسافات ليست بالقصيرة يوميًّا، ذهابًا وإيابًا إلى المدرسة، وأوضحت أنّها وزميلاتها يقمن باستمرار، بمواجهة حالات محزنة كهذه، عن طريق توفير أحذية مستخدمة أو جديدة للطالبات اللواتي تعاني أسرهن من ظروف معيشية قاسية.
لاقى المنشور تفاعلًا وتعاطفًا كبيرين من قبل جمهور عريض داخل وخارج اليمن، وحسب عبدالجليل، فإنها تلقّت عروضًا ومناشدات لفتح حساب بنكي خاص لتلقي مساعدات لمواجهة حالات إنسانية صعبة كهذه في مدرستها، وقالت إن ما يزيد على 400 طالبة، تعيش أسرهن ظروفًا صعبة للغاية، تجعلها عاجزة عن مواجهة أبسط المتطلبات المدرسية الضرورية لأبنائها الطلاب.
وختمت عبدالجليل منشورها، بالقول: "أنا والطالبات بحاجة لجلسات دعم نفسي بعد كل هذا، وإلا فمكاني خارج السلك التربوي".
وفي ذات الزاوية، تقول عائدة الحروي، من مدرسة زيد الموشكي، إنهن -المعلمات- يقمن سنويًّا بمواجهة عشرات الحالات التي تعاني عجزًا دائمًا في هذا الجانب، وإن إدارة المدرسة بتعاون المعلمات وبعض فاعلي الخير، يتكفلون بتوفير الزي المدرسي والأحذية والمستلزمات الدراسية إلى جانب توفير مصروف يدوي للطالبات الفقيرات.
خوف وقلق وانطواء
وحسب دراسة سابقة أجرتها منظمة CARPO الألمانية، عن تأثير الحرب على الصحة النفسية للأطفال اليمنيين في مدارس مدينة صنعاء (شمال اليمن)، قالت إنّ 79% ممن شملهم الاستطلاع يعانون من مظاهر خطيرة لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وفي دراسة مماثلة أجراها الصندوق الاجتماعي للتنمية في محافظة تعز في العام 2018، استهدفت 10232 طالبًا وطالبة؛ 6071 من الذكور، و4161 من الإناث، موزعين على 15 مدرسة في مديريات مدينة تعز، ووجدت أن 6533 من الذكور و2720 من الإناث، يعانون من اضطرابات نفسية مختلفة، وردود الفعل السلوكية التي ظهرت على الطلاب المستهدفين، هي: العدوان، والخوف، والقلق، والانطواء، وعدم التركيز.