ارتبط المسرح الشعري في اليمن ارتباطًا وثيقًا بالرقابة السياسية، حيث أُرغم المسرحيّون في الثلاثينيات، بعد اشتباك رجال الدين بطاقم مسرحية "يوسف الصديق" من جهة، وحنق السلطة البريطانية من إحدى المسرحيات السياسية من جهة أخرى، على عرض النصوص المسرحية قبل تقديمها. ومن هنا ابتعد المسرح عن الواقعية، وأصبحت لغة الشعر هي اللغة السائدة في المسرح في جنوب اليمن. وبطبيعة الحال، كانت هذه القصص الغرامية والتاريخية، التي استمدها الكتاب من الكلاسيكيات العربية والإسلامية، وتروي مصارع ويقظات الأبطال، تأتي محملة بالرموز والدلالات التي تحث على القوة والصبر تحت الحكم البريطاني في مدينة عدن.
كان عقد الأربعينيات في تاريخ المسرح اليمني مرحلة تشكُّل الممثل والمؤلف والجمهور؛ فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يكن المؤلف المسرحي المحلي قد وُلد بعد، ومن ثمّ استعان المسرحيون الأوائل بالمسرحيات المؤلفة، وقد ظهرت العديد من المسرحيات الكلاسيكية؛ مثل أبي زيد الهلالي، ومجنون ليلى، وفتاة الأندلس، وروميو وجولييت، وشهداء الغرام، وحاتم الطائي، وعنتر بن شداد، وفتاة الغار، وغيرها، وإن كانت تشوبها الكثير من الأخطاء اللغوية والضعف الفني بسبب جهل معظم الممثلين بالفن المسرحي، أو على مستوى القراءة والكتابة، ولهذا كانوا يستوعبون النص المسرحي حفظًا وتلقينًا، ورغم ضعف أداء العديد من الممثلين الذين اعتمدوا على الإلقاء الخطابي، وانفعال اليدين والرجلين، حتى عندما لا يستوجب المشهد ذلك، فإن الجمهور الذي أخذ بمراكمة المعرفة إلى جانب هذا الشغف، كان كريمًا تجاه الممثلين، حيث يرمون زهور الفل تحت أقدامهم.
احتل الشعر مكانة كبيرة في النصف الأول من القرن الماضي في الحياة العامة في مدينة عدن، حيث برز في: الإعلانات، الستارات، الألواح الصغيرة، واللافتات التي توضع عليها أسماء المسرحيات وأبطالها، وتحمل أبياتًا على غرار هذين البيتين من الشعر، كما يورد العولقي: "في الروايات والتمثيل منفعة/ فيها لأهل النهي والعقل تأديب/ تبدو ظواهرها للناس مضحكة/ وفي بواطنها وعظ وتهذيب"، ومن شدة إقبال الجمهور على هذا المسرح -بحسب الأستاذ سعيد العولقي- استغلّ أحد أصحاب شركات تسجيل الأسطوانات، مسرحيتَي (صلاح الدين الأيوبي) و(شهداء الغرام)، وقام بتسجيلهما على أسطوانات بغير أصوات أبطالهما، ومع ذلك حقّقت الأسطوانات مبيعًا كبيرًا.
ظهرت اشتغالات مسرحيةٍ جديدة ومميزة في صميم التاريخ اليمني، لا لتقديمه بوصفه حدثًا تاريخيًّا، بل للمشاركة في إعادة صياغة التاريخ، وكانت الريادة للمبدع الراحل محمد الشرفي، في مسرحيتَي "أرض الجنتين" و"حريق في صنعاء"، إذ أظهر نضجًا ودرايةً في الأسلوب والكتابة الشعرية وإعادة تصوير التاريخ دراميًّا ومواجهة الواقع اليومي.
عرف المسرح في اليمن أشكالًا مختلفة من التجريب، وظهرت مدارس متنوعة بين الرومانتيكية والكلاسيكية والواقعية، ويتراوح المسرح الشعري بين الرومانتيكي والكلاسيكي، وتُعَدّ مسرحية بجماليون أول عمل مسرحي مطبوع ومتداول في اليمن، وهي مسرحية شعرية من تأليف الشاعر والكاتب علي محمد لقمان، عُرضت في أغسطس 1944، حيث قام جماعة من الشبان بتمثيل هذه المسرحية، وقد كتبت جريدة فتاة الجزيرة 6 أغسطس 1944، أنّ هؤلاء الشبان قد كشفوا عن استعدادٍ رائع للتمثيل بصورة يصح أن تكون نواةً لنهضة المسرح. ومن ثَمّ ظهرت طبعتها في العام ١٩٤٨، وتمثل أول عمل مسرحي جادّ في اليمن.
الشرفي والمسرحيات الشعرية
شهدت فترة الخمسينيات في اليمن تصاعد الوعي الثوري في الشعر والغناء والمسرح، بحسب عبدالله البردّوني، لكن هذه الموجة بدت أقل حضورًا في المسرح في شمال اليمن، ولعل سبب ذلك غيابُ المسرح. وكان من آثار هذا الخطاب السياسي أن ظهرت بعد تحقيق ثورتَي سبتمبر وأكتوبر في شطرَي البلاد، العديدُ من الأعمال المسرحية التي تناولت الأحداثَ السياسية وتحولاتها في المجتمع، وإن كان بشكل مباشر ويميل إلى الخطابية، واتجهت الاهتمامات المسرحية الجديدة إلى الواقعي أكثر منه إلى الملحمي أو التاريخي؛ ويُظهر هذا التحول رفضًا ليس للأساليب الفنية القديمة، وإنما للسلطة السياسية نفسها، إذ تختلف المسرحية التي تستمد حوارها ومضمونها وأحداثها من التراث عن الأخرى التي تستمد أحداثها ومضمونها من الواقع المَعيش.
مع ذلك، ظهرت اشتغالاتٌ مسرحية جديدة ومميزة في صميم التاريخ اليمني، لا لتقديمه بوصفه حدثًا تاريخيًّا، بل للمشاركة في إعادة صياغة التاريخ، وكانت الريادة للمبدع الراحل محمد الشرفي في مسرحيتَي "أرض الجنتين" و"حريق في صنعاء"، إذ أظهر نضجًا ودرايةً في الأسلوب والكتابة الشعرية وإعادة تصوير التاريخ دراميًّا ومواجهة الواقع اليومي.
يُعدّ الشرفي من أوائل الشعراء الذي كتبوا المسرح الشعري بالشكل الناضج، سواء من حيث الحدث والبناء المسرحي أو النظم والقافية والقواعد الشعرية الكثيرة، وبجواره ظهرت خمس مسرحيات شعرية للشاعر محمد عبده غانم، ومسرحية للشاعر عبدالرحيم القرشي، وكذلك مسرحية شعرية أخرى سيعود بها محمد علي لقمان في منتصف الستينيات وهي سمراء العرب. ومن ثم تقاطَرَ العديد من الكتّاب المسرحيين والشعراء إلى المسرح، حيث ظهرت محاولات لكلٍّ من: القاص محمد الزرقة، والشاعر إسماعيل الوريث، والشاعر حسن اللوزي، والكاتب عبدالكافي محمد سعيد، وعبدالله الحيفي، ومن المدهش أنّ العديد من المسرحيين الذين بدَؤُوا من المسرح الشعري، انتهوا بالمسرح النثري أو الرواية، كما في حالة الشاعر محمد الشرفي.
انحسر تمثيل المسرحيات الشعرية الغرامية والتاريخية إلى عروضٍ شبه كاريكاتورية، وغاب المسرح الشعري لأسباب تتقاطع مع ظروف اختفاء المسرح ذاته، من حيث الإهمال والتهميش وانصراف الدعم الحكومي، ولكنّ هنالك أسبابًا أخرى، لا تقل أهمية بدورها، وهو أن المسرح الشعري في اليمن لم يستطع أن يخلق علاقة تواصل بالجمهور، خصوصًا أنّ هذا الجمهور يميل إلى التبسيط والمباشرة؛ ولذا فإن هذا المسرح، الذي كان يقدّم مجموعة من الشعراء يتبارون في إلقاء مقطوعات من الشعر المنظوم أو غيره، لم يعُد يُرضِ الجمهور، كما أنّ المناخ القمعي الذي ساهم بظهور هذا الشكل المسرحي في اليمن، انتهى بلا رجعة، وباعتبار أن الظروف السياسية أصبحت مواتية لمسرح يجسد الحياة اليومية بلا استعارات أو مجاز، وبدت الحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى، وقد رعت وزارة الثقافة فكرة إنشاء مسرح نثريّ بدلًا من الشعري.
وبحسب الشاعر عبدالعزيز المقالح، في معرض حديثه عن المسرح الشعري، كما يورد في كتاب أوليات المسرح في اليمن: كان الشاعر محمد الشرفي في لقاء مع صديق الأدب والأدباء الأخ يحيى حسين العرشي، وكان يومئذٍ وزيرًا للإعلام والثقافة، وكان الأستاذ يحيى قد استقدم المخرج التلفزيوني السوري المعروف علاء الدين كوكش مع بداية البث التلفزيون في البلاد، وقد دار في اللقاء حديث عن المسرح والإخراج، انتهى على النحو التالي: "قال الأخ الوزير يحيى العرشي: اكتب أي مسرحية، ولتكن نثرية، وأمامك فرصة ثلاثة أشهر، اختر الموضوع الذي تريده، واكتبه ولا تخف أن يذهب جهدك هباء، قدرتك على الكتابة معروفة، ومواضيعك مقبولة في كل ما كتبت من مسرحيات"، ورغم اعتراضات الشرفي على المقترح بالقول: "ولماذا لا تأخذون مسرحية شعرية من مسرحياتي الشعرية المطبوعة؟"، فقد اعتذر الوزير بعدم كفاءة الممثلين ووسائل الإخراج، وانتهى الحوار بالاستجابة لطلب يحيى العرشي، وكتب الشرفي مسرحيته النثرية الأولى "الطريق إلى مأرب"، وهي أول مسرحية يؤرخ بها بداية المسرح في صنعاء.
طبيعة المرحلة السياسية
ورغم أنّ السلطة والجمهور لم يشجّعا استمرارَ المسرح الشعري، فإنّ الشرفي لم يقاوم الإغراء الشعري، كونه شاعرًا أولًا وأخيرًا، حيث ترك المسرح النثري بعد مدة غير طويلة، وجاءت مسرحيته الغنائية (الشعراء يموتون كل يوم) مزاوِجةً بين الشعر والنثر. ويعلل المقالح هذه العودة على خلفية انقطاع الدعم الحكومي عن المسرح، وكذلك غياب خشبة المسرح، باعتبار أنّ الشعر بمقدوره أن يرسم صورة مشهدية، ويعوض فقدان عناصر التمثيل اللازمة على خشبة المسرح. ومهما يكن من أمر، فإنّ هذا المسرح، مثل غيره من الأنواع المسرحية، سيطويه النسيان.
ومن المفارقة أنّ المسرح الشعري سيعود مجددًا في العام 1995، بعد عامٍ واحد من انقلاب علي صالح على شريكه البيض والحزب الاشتراكي، ومِن ثَمّ اجتياح قوات صالح جنوب اليمن، رفقة حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين) في صيف 1994، وقبل هذا العام بسنوات قليلة، كانت هناك أكبر تظاهرة مسرحية تشهدها اليمن في تاريخها الطويل، حيث احتضن المسرح في المهرجان الأول في العام 1990، ثلاث عشرة فرقة مسرحية من مختلف محافظات الجمهورية اليمنية، وقدّمت خمسة عشر عملًا مسرحيًّا، بضعةُ أعمالٍ منها امتازت بالجرأة السياسية.
وجدت المسرحيات الشعرية التي تُعبِّر بالرمز عن المتغيرات السياسية والاجتماعية، أرضيةً تقوم عليها في المهرجان الثالث الذي حمل اسم المسرحي اليمني علي أحمد بأكثير، وهكذا ظهر المسرح الشعري مجددًا، وإن كان سيتم تكميمه وترويضه لاحقًا تحت رقابة المخابرات، كما هو الحال مع المسرح اليمني بشكل عام؛ لكن هذا التقليد لن يستمر في جميع فترات الأزمات السياسية ودورات العنف.
واستندت جرأتها إلى طبيعة المرحلة السياسية، بعد قيام الوحدة بين الحزبَين الحاكمَين في شطرَي البلاد في مطلع التسعينيات، ممّا أتاح ظهور قدرٍ كبيرٍ من الحرية في النشاط الفني والسياسي، ومِن ثَمّ عُرض المهرجان المسرحي الثاني في العام 1993، وجمع ثلاث عشرة فرقة مسرحية في مسرح قاعة الثقافة في صنعاء، وقد عرضت ثلاثة وعشرين عملًا مسرحيًّا متنوعًا، وتراوحت مستويات هذه العروض بين الاجتماعي والسياسي، ولم تتردد بعضها في مناقشة قضايا الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي، ولكن بعد انقلاب نظام صالح في العام 1994، توقف المسرح السياسي.
صحيح أنه لم يوقف النشاط الفني، حيث سمح بقيام مهرجان واحد في العام 1995، وكان أشبه بمناورة سياسية ماكرة من نظام علي صالح، لإخبار العالم أنه يدعم الحريات ويسمح بإقامة الأنشطة الفنية، ومن ثمّ ظهرت في ذلك العام الكثير من الأعمال المسرحية الكلاسيكية الغربية والعربية.
من هنا وجدت المسرحيات الشعرية التي تُعبِّر بالرمز عن المتغيرات السياسية والاجتماعية، أرضيةً تقوم عليها في المهرجان الثالث الذي حمل اسم المسرحي اليمني علي أحمد بأكثير، وهكذا ظهر المسرح الشعري مجددًا، وإن كان سيتم تكميمه وترويضه لاحقًا تحت رقابة المخابرات، كما هو الحال مع المسرح اليمني بشكل عام.
ولئن ارتبط المسرح الشعري بالقمع في شطرَي البلاد، سواء المسرحيات الدينية الشعرية تحت حكم الأئمة، أو المسرحيات الشعرية الكلاسيكية تحت الحكم البريطاني، فإنّ هذا التقليد لن يستمر في جميع فترات الأزمات السياسية ودورات العنف، ومن المهم هنا التذكير أنّ اختفاء هذا المسرح لا يدل على انتهاء الرقابة السياسية، بل لأن كل مرحلة كانت تخلق أدواتها التعبيرية الخاصة بها، وهو ما سنعود إليه في حديثٍ آخر عن المسرح السياسي في اليمن.