هل عرف قدامى اليمنيين الفلسفة؟

"إرنست رينان" و"صاعد الاندلسي" يجيبان
أحمد عبدالله الصعدي
September 11, 2024

هل عرف قدامى اليمنيين الفلسفة؟

"إرنست رينان" و"صاعد الاندلسي" يجيبان
أحمد عبدالله الصعدي
September 11, 2024
.

تقوم وجاهة هذا السؤال، الذي يعرضه عنوان المقال، على أساس تمثيلات المنتوج المعرفي للحضارة التي عرفها اليمن القديم، فهل كان لبناة تلك الحضارة وللأجيال اللاحقة من اليمنيين رؤيتهم الفلسفية المكملة للجانب المادي من حضارتهم؟

في السطور التالية، نعرض وجهتَي نظر مهمتين بهذا الشأن؛ إحداهما تعود للفيلسوف الفرنسي إرنست رينان، والأخرى للمؤرخ والقاضي صاعد الأندلسي.

تجلت العبقرية العربية الحقيقية في نظم القصائد، وبلاغة القرآن تقضي بوجود تنافر بينها وبين الفلسفة اليونانية، ولا عجب، فبما أن أهل جزيرة العرب قد حُصِروا، كجميع الأمم السامية، ضمن دائرة ضيقة من الشعر الغنائي والكهانة، فإنّه لم تكن عندهم أدنى فكر عما يمكن أن يطلق عليه اسم العلم أو المذهب العقلي.

وجهة نظر إرنست رينان 

وردت أهم آراء الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان (1823-1892) في كتابه (ابن رشد والرشدية)، الذي صدرت طبعته الأولى بالفرنسية عام 1852، وصدر باللغة العربية في القاهرة عام 1957 (ترجمة: عادل زعيتر). يربط رينان عجز العرب عن الإبداع الفلسفي والعلمي بأصلهم السامي، بعد أن حصر العنصر السامي بالعرب وحدهم، كما يلاحظ جورج قرم في كتابه (تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب).

يقول رينان إنّ العِرق السامي ليس هو ما ينبغي أن نطالبه بدروس في الفلسفة. وإذا احتاج لذكر الفلسفة العربية الإسلامية -واضعًا إياها بين قوسين في أغلب الحالات- فيقرر أنّ الفلسفة "لم تكن لدى الساميين غير استعارة خارجية صِرْفة خالية من كبيرٍ خِصب، وغير اقتداء بالفلسفة اليونانية". ويستمر رينان في النسج على هذا المنوال، فيؤكد أن الشرق السامي والقرون الوسطى مدينان لليونان بكل ما عندهما من الفلسفة، وأن اليونان وحدها تملك الحق في إلقاء دروس فلسفية علينا. 

وعندما يقترب رينان من جزيرة العرب على وجه التحديد، حيث يكون اليمنيون معنيين بصورة مباشرة، تصبح فكرته أكثر وضوحًا وحسمًا، فيقول: "وكانت العبقرية العربية الحقيقية التي تجلت في نظم القصائد، وبلاغة القرآن تقضي بوجود تنافر بينها وبين الفلسفة اليونانية، ولا عجب، فبما أن أهل جزيرة العرب قد حُصِروا، كجميع الأمم السامية، ضمن دائرة ضيقة من الشعر الغنائي والكهانة، فإنه لم تكن عندهم أدنى فكر عما يمكن أن يطلق عليه اسم العلم أو المذهب العقلي".

إنّ آراء إرنست رينان التي ترى الفلسفة معجزة العقل اليوناني حصرًا، وتنفي عن الشرقيين، ومنهم العرب خاصة، القدرةَ على التفكير الفلسفي، وتحصر فكر أهل جزيرة العرب -بوصفه فكرًا ساميًا- بالشعر والكهانة، قد وصفت بالعنصرية، وبالترويج لنزعة "المركزية الأوروبية" التي لخص مضمونها الأساسي الفيلسوف والمفكر العربي أبو بكر السقاف (انظر إن شئت: أبو بكر السقاف، دراسات فكرية وأدبية، دار العودة، بيروت 1977، ص 218-219).

لم تكن ملوك حمير معنية بأرصاد الكواكب ولا باختبار حركاتها ولا بإثارة شيء من علوم الفلسفة، وكذلك كان سائر ملوك العرب في الجاهلية، لم يبلغنا عن أحد منهم كتب عن شيء من ذلك. وأما سائر عرب الجاهلية بعد الملوك منهم، فكانوا طبقتين: أهل مدر، وأهل وبر.

وجهة نظر صاعد الأندلسي

ممّا يلفت الانتباه في هذه المسألة هو أن بعض آراء إرنست رينان التي نصفها بالعنصرية، قد سبقه إليها فقيه وقاض وعالم ومؤرخ مسلم، هو أبو القاسم صاعد بن أحمد بن عبدالرحمن بن محمد بن صاعد التغلبي، المعروف بصاعد الأندلسي (1029-1070) في كتابه (طبقات الأمم).

يقسم صاعد الأندلسي الأمم القديمة إلى سبع، ثم يذكر أن تلك الأمم تشعبت بعد أن تشعبت لغاتها وتباينت أديانها، وانقسمت قسمين أو طبقتين؛ طبقة عنيت بالعلوم وتضم ثماني أمم، هي: أهل الهند، والفرس، والكلدان، واليونان، والروم، وأهل مصر، والعرب، والعبرانيون. أما الطبقة التي لم تعنَ بالعلوم ولم ينقل عنها فائدة حكمة، ولا دونت لها نتيجة فكرة، وضمن هذه الطبقة يذكر صاعد الأندلسي الصين ويأجوج ومأجوج والترك والروس وأصناف السودان من الحبشة والنوبة والزنج وغانة وغيرها. ودون الدخول في تفاصيل وصف الأمم المذكورة، نكتفي بأهم ما وصف به صاعد الأندلسي اليونان والعرب واليمنيين، خاصة من حيث ما لهم من نصيب في الفلسفة والعلم، فمما ذكره عن اليونان: "ولغة اليونانيين تسمى الإغريقية، وهي من أوسع اللغات وأجلها... وكان علماؤهم يسمون (فلاسفة)، واحدهم فيلسوف، وهو اسم معناه باللغة اليونانية (محب الحكمة). وفلاسفة اليونان من أرفع الناس طبقة وأجل أهل العلم منزلةً؛ لما ظهر منهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة من العلوم الرياضية والمنطقية والمعارف الطبيعية والإلهية والسياسات المنزلية والمدنية"، وبعد أن يأتي على ذكر فلاسفة اليونان وعلمائهم يمتدحهم بالقول: "فهؤلاء شموس اليونانيين ومشاهيرهم في الأزمان الذين انتفع الناس بآثارهم، واستضاءوا بأنوارهم، واهتدوا بأعلامهم". في الواقع إن صاعد الأندلسي لا يكتفي بتعظيم فلاسفة اليونان والانبهار بهم، بل يحصر الفلسفة بهم ويميزهم بها، وهو بذلك يختط الطريق الذي واصله إرنست رينان في القرن التاسع عشر. 

أمّا اليمنيون فيقول عنهم: "ولم تكن ملوك حمير معنية بأرصاد الكواكب ولا باختبار حركاتها ولا بإثارة شيء من علوم الفلسفة، وكذلك كان سائر ملوك العرب في الجاهلية، لم يبلغنا عن أحد منهم كتب عن شيء من ذلك. وأما سائر عرب الجاهلية بعد الملوك منهم، فكانوا طبقتين: أهل مدر، وأهل وبر، أما علم العرب الذي كانت تفاخر به وتباري فيه، فعلم لسانها وأحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب".

وفي مكان آخر يعود صاعد الأندلسي إلى نفي صلة العرب بالتفكير الفلسفي بالقول: "فأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله تعالى شيئًا منه ولا هيّأ طباعهم للعناية به، ولا أعلم أحدًا من صميم العرب شهر به إلا أبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، وأبا محمد الحسن بن أحمد الهمداني". (انظر إن شئت: طبقات الأمم، تحقيق: حياة العيد بو علوان، دار الطليعة، بيروت 1985). مرة أخرى نجد جذرًا لآراء إرنست رينان لدى صاعد الأندلسي في القرن الحادي عشر الميلادي.

بودّنا الاعتراض على موقفَي الرجلين بشأن غياب الفلسفة قديمًا لدينا -اليمنيين والعرب- ولكن ليس لدينا في تراثنا القديم موارد فلسفية نتسلح بها، أما الأسباب التي أورداها فمن الممكن مناقشتها في سياقات ثقافية متعددة.

(*) أستاذ الفلسفة في جامعة صنعاء.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English