أزمة المثقفين التنويريين في اليمن

موقف صعب يتحدى وجودهم وتأثيرهم الفعال في المجتمع
د. إحسان شاهر
October 28, 2024

أزمة المثقفين التنويريين في اليمن

موقف صعب يتحدى وجودهم وتأثيرهم الفعال في المجتمع
د. إحسان شاهر
October 28, 2024
.

طريق المثقفين اليمنيين التنويريين طريقٌ طويل وشاق ومحفوف بالمخاطر الجسام، ما لم تحدث تطورات سياسية جديدة، يمكن أن تمهد الطريق لانتقال البلاد إلى حالة المجتمع المدني، على أسس متينة، تلبي حاجات التطور التاريخي اللاحق للمجتمع اليمني.

_____________

لا شك أنّ تعريف الثقافة أيسر بكثير من تعريف المثقف، حيث ما زالت كلمة «المثقف» إلى يومنا محفوفة بالغموض، ولهذا تعدّدت تعريفات هذه الكلمة، حيث إنه من الصعب تحديد سمة عامة مميزة للمثقفين، وتعليل ذلك هو تعدد الأفكار حول المثقفين بصفتهم مجموعة اجتماعية، واتساع نطاق نشاطهم، وتغير مهامهم بتغير الظروف الاجتماعية، وتأثير ذلك على بنية المثقفين.

إنّ أول من قدّم مصطلح الأنتليجنسيا (Интеллигенция) في روسيا، هو الكاتب بيوتر بوبوريكين في سبعينيات القرن التاسع عشر، وانتقل هذا المصطلح من اللغة الروسية إلى بعض اللغات الأخرى، وكان يعني -بنظره- الأشخاص الذين يتمتعون بـ"ثقافة عقلية وأخلاقية عالية". 

وفي الاتحاد السوفيتي، شكّل تعريف فلاديمير لينين للمثقفين أساسًا للعديد من التعريفات، حيث أدرجَ في فئة المثقفين: "جميع المتعلمين، وممثلي المهن الحرة، بشكل عام، وممثلي العمل العقلي (brain worker)؛ كما يقول الإنجليز، خلافًا لممثلي العمل اليدوي".

وفيما يتعلق ببنية المثقفين، قامت عالمة الاجتماع المعاصرة جالينا سيلاستي، بتقسيم المثقفين الروس في نهاية القرن العشرين إلى ثلاث فئات: كبار المثقفين- أصحاب المهن الإبداعية التي تعمل على تطوير العلوم والتكنولوجيا والثقافة والعلوم الإنسانية. والغالبية العظمى من ممثلي هذه الفئة يعملون في المجالات الاجتماعية والروحية، وأقلية في الصناعة (المثقفون التقنيون)؛ والمثقفون العموميون- الأطباء والمعلمون والمهندسون والصحفيون والمصممون والتقنيون والمهندسون الزراعيون وغيرهم من المتخصصين. ويعمل العديد من ممثلي هذه الفئة في قطاعات المجال الاجتماعي (الرعاية الصحية والتعليم)، وعدد أقل قليلًا (يصل إلى 40٪)، يعمل في الصناعة، والباقي يعمل في الزراعة أو التجارة؛ وشبه المثقفين- الفنيون والمسعفون الطبّيون والممرضون والموظفون ومساعدو المختبرات.

ويميل علماء الاجتماع في الغرب إلى تقسيم المثقفين إلى فئتين أساسيتين، ومن ثم هناك تعريف واسع للمثقفين، يستوعب هاتين الفئتين، وبموجبه فإن "المثقفين هم كل أولئك الذين يعتبرون بارعين ومنخرطين بنشاط في خلق الثقافة وتوزيعها وتطبيقها". ومن التعريفات الواسعة للمثقفين تعريف إدوارد شيلز (Edward Shils)، الذي ينص على أن "المثقفين هم مجموع الأشخاص في أي مجتمع يستخدمون في اتصالاتهم وتعبيرهم، بكثرة أعلى نسبيًّا من معظم الأعضاء الآخرين في مجتمعهم، رموزًا ذات نطاق عام ومرجعية مجردة، تتعلق بالإنسان والمجتمع والطبيعة والكون".

وفي الوقت نفسه، يؤكّدون على أهمية تمييز نخبة المثقفين، التي "ينصبّ تركيزها الرئيسي على الابتكار، وإعداد المعرفة، والفن، والصياغات الرمزية بشكل عام. وتشمل هذه المجموعة العلماءَ والباحثين والفلاسفة والفنانين والمؤلفين وبعض المحررين وبعض الصحفيين، بوصفها متميزة عن المجموعات الفكرية الثانوية، التي تنشر الثقافة، مثل أغلب المعلمين ورجال الدِّين والصحفيين والمهندسين والمهنيين الأحرار والقائمين بالأداء في الفنون، بما في ذلك أولئك الذين يطبقون المعرفة في سياق عملهم، مثل الأطباء الممارسين والمحامين والمهندسين".

صفات أخلاقية وفكرية

من التعريفات الشائعة للمثقفين، يتضح أنّ الصفة الجوهرية للمثقفين بصفتهم فئة اجتماعية، هي إنتاج وإعادة إنتاج المعرفة، سواء كان ذلك الإنتاج إنتاجًا بسيطًا أو إنتاجًا موسعًا، وكذلك تطبيق المعرفة في الحياة من أجل الحفاظ على الإنسان ورفاهيته، وتماشيًا مع هذا التفسير يشمل تعريف المثقفين: نخبةَ المثقفين، والمثقفين العموميين، وأشباه المثقفين.

والأمر الآخر الذي يجب التركيز عليه، هو أن المثقفين ليسوا طبقة اجتماعية؛ لأن الطبقة الاجتماعية هي عبارة عن مجموعات كبيرة من الناس الذين يختلفون في مكانهم في نظام الإنتاج الاجتماعي المحدد تاريخيًّا، وفي علاقتهم بوسائل الإنتاج، وفي دورهم في التنظيم الاجتماعي للعمل، ومن ثَمّ، في طرق الحصول على تلك الحصة من الثروة الاجتماعية وحجمها.

إنّ المثقفين بالمعنى الدقيق للكلمة فئة اجتماعية؛ لأنهم ينحدرون من أصول طبقية مختلفة، ولكنهم يتوحدون على أساس صفات مشتركة، ناجمة من طبيعة عملهم ومهنتهم، وهذا هو الذي يفسّر لنا تباين مواقفهم السياسية والاجتماعية، وتشابه تكوينهم السيكولوجي والأخلاقي. 

يرى الباحث د. ك. بيكوف، أن المثقفين يتميزون بـ"الدهشة والشك، والتحليل والاستبطان، والتفكير في العالم وعلاقتهم به، والشعور بالرأفة والرحمة، والرغبة في التضامن والعدالة، والتساؤل عمّا يجب فعله للحفاظ على الشرف والضمير، دون مبادلة واجب الخدمة بالتملق، والحفاظ على موقف محترم تجاه المخالفين لآرائهم". 

وتؤكّد الكثير من الأدبيات، التي تتناول المثقفين، ميلَهم المتأصل إلى انتقاد المؤسسات القائمة من وجهة نظر المفاهيم العامة للمرغوب، المفاهيم المثالية، التي يُعتقد أنّها قابلة عمومًا للتطبيق. وعلى هذا فقد أكّد جوزيف شومبيتر أنّ «إحدى اللمسات التي تميز [المثقفين]... عن غيرهم من الناس... هي الموقف النقدي الذي يتخذه المثقفون». وقد زعم ريموند آرون «أن الميل إلى انتقاد النظام القائم هو -إذا جاز التعبير- مرض مهني يصيب المثقفين». وأشار ريتشارد هوفستاتر إلى أنّ «الفكرة الحديثة عن المثقف باعتباره يشكل طبقة، كقوة اجتماعية منفصلة، وحتى مصطلح المثقف نفسه، تحدّد بفكرة الاحتجاج السياسي والأخلاقي». 

المثقفون بالمعنى الدقيق للكلمة فئةٌ اجتماعية، لأنهم ينحدرون من أصول طبقية مختلفة، ولكنهم يتوحدون على أساس صفات مشتركة، ناجمة من طبيعة عملهم ومهنتهم، وهذا هو الذي يفسر لنا تباين مواقفهم السياسية والاجتماعية، وتشابه تكوينهم السيكولوجي والأخلاقي.

ولكن في الغالب، يُستعمل مصطلح «المثقفون» في الغرب فقط للإشارة إلى الأشخاص المنخرطين بشكل احترافي في النشاط الفكري، ولا يزعمون أنهم، كقاعدة عامة، حاملون للمُثُل العليا، ودون الإشارة إلى نمط تفكيرهم وسجاياهم النفسية، ومن ثَمّ فكل تلك العناصر لا تدخل في تعريف المثقفين. 

قد يبدو للقارئ بأنني أستعمل مصطلح «المثقف التنويري» مرادفًا لمصطلح «المثقف العضوي»، المقابل لمصطلح «المثقف التقليدي»، ولكن ليس الأمر كذلك حرفيًّا، ومن ثم لا بد أن نسلط الضوء على تقسيم غرامشي للمثقفين، إلى مثقفين تقليديين، ومثقفين عضويين. 

بحسب غرامشي، ينتمي المثقفون التقليديون، تاريخيًّا، إلى المرحلة التاريخية التي تسبق ظهور الطبقة الجديدة، أي لا يرتبطون بأسلوب إنتاج معين؛ ولذا لا يتخذون موقفًا محدّدًا تجاه فئات اجتماعية معينة؛ ولذا يظنون بأنهم فوق الطبقات.

وفي المقابل، هناك المثقفون العضويون، الذين هم على اتصال مباشر بطبقة اجتماعية معينة، مرتبطة بأسلوب إنتاج معين، ويتخذون مصالحها الطبقية على أنها مصالحهم الخاصة، ويستطيعون صياغتها وتحويلها إلى برنامج للنضال السياسي.

انطلاقًا من ظروف بلادنا التاريخية، التي ما زالت تعيش في مرحلة انتقالية بين المجتمع التقليدي والمجتمع المدني، نعني بالمثقفين التنويريين فقط أولئك الذين يناضلون في الميدان السياسي والثقافي من أجل نقل البلاد إلى حالة المجتمع المدني، ونعني بالمثقفين التقليديين أولئك الذين يَدَّعُونَ الحياد في الصراع بين المثقفين السلطويين والمثقفين التنويريين، ويعيشون حالة من تضارب المصالح، ويتماهون أحيانًا مع مصالح الطبقة الحاكمة.

أسباب الأزمة الرئيسة 

إنّ الإقرار بأزمة المثقفين اليمنيين التنويريين، يتضمن الإقرار بوجود موقف صعب يتحدى وجودهم وتأثيرهم الفعّال في المجتمع، وترجع البداية الفعلية لمثل هذا الموقف إلى أواخر العقد السابع من القرن الماضي، وما زال هذا الموقف قائمًا حتى وقتنا الحالي، وإن شهدت الفترة الممتدة من 1990 إلى 1993 شيئًا من الانفراج، الذي سرعان ما بدّدته حرب صيف 1994.

ولّدت مرحلة ما بعد 7 يوليو 1994، شرخًا اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا في اليمن، حيث لم يقبل الجنوبيون استبعادهم السياسي من خلال إحالة الحكومة في صنعاء للآلاف من الموظفين والعسكريين الجنوبيين إلى التقاعد القسري، فشعروا أن ليس لهم في الوحدة لا ناقة ولا جمل. 

وكانت نتيجة ذلك تشكُّل الحراك الجنوبي، الذي بدأت ولادته بتشكيل جمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين المسرّحين من أعمالهم، وطالَبَ الحراكُ الجنوبي النظامَ الحاكم بالمساواة وإعادة المسرّحين العسكريين والمدنيين إلى وظائفهم وأعمالهم السابقة؛ وبسبب رفض النخبة الحاكمة لتلك المطالب، بدأ الحراك الجنوبي منذ 2007، يطالب بانفصال الجنوب عن الشمال. 

وكان من الطبيعي أن يولِّد هذا الوضع السياسي خطابًا انفصاليًّا، حيث كرّس الكثيرُ من المثقفين الجنوبيين أنفسَهم لتبرير الانفصال، والتعبير عن ذلك جهرًا من خلال الصحف والقنوات الفضائية، وقلّما ظهر خطابٌ بين المثقفين الجنوبيين معارِضٌ للانفصال.

وقد ترتب على ذلك، دوران غالبية المثقفين الشماليين والمثقفين الجنوبيين في مدارات مستقلة متضادّة؛ الأول يؤكّد الوحدة ويصرّ على أنه يمكن حل مشاكل الوحدة في إطار الوحدة، والثاني يؤكد ضرورة الانفصال، ويشدّد على الهُوية الجنوبية، التي لا تتماهى مع هُوية الشمال.

وقد شكّلت هذه الحالة ضربةً قوية لوحدة المثقفين اليمنيين التنويريين، الداعِين إلى خلق الدولة الحديثة بمجتمعها المدني، حيث لم تعُد هذه القضية هي القضية المركزية المشتركة الجامعة لكل المثقفين التنويريين في الشمال والجنوب. 

وبقولنا هذا، لا ننفي بالمرة بعض الإسهامات الفكرية لقليلٍ من المثقفين التنويريين الجنوبيين حول بناء المجتمع المدني، ولكنها بدأت تتراجع كمًّا وكيفًا بقدر اتساع رقعة الحراك الجنوبي، وتضاءلت بشدة في الفترة الممتدة من 2014 إلى وقتنا الحالي.

والظرف التاريخي الآخر الذي عمّق أزمة المثقفين اليمنيين التنويريين هي حروب صعدة الست (2004-2010)، التي أذكَت الصراع الديني بين حركة أنصار الله الزيدية والقوى السلفية، وفي الوقت ذاته بيّنت، بوضوح تام، رفض تلك القوى المتصارعة لفكرة التسامح الديني، فضلًا عن الحديث عن فكرة المجتمع المدني.

بدأ الحراك الجنوبي منذ 2007، يطالب بانفصال الجنوب عن الشمال. وكان من الطبيعي أن يولّد هذا الوضع السياسي خطابًا انفصاليًّا، حيث كرس الكثير من المثقفين الجنوبيين أنفسهم لتبرير الانفصال والتعبير عن ذلك جهرًا، وقلّما ظهر خطابٌ بين المثقفين الجنوبيين معارضٌ للانفصال.

كما سرّعت الحرب القائمة التي بدأت في عام 2014، وما زالت رحاها تدور هنا وهناك بين الحين والآخر حتى الآن، ازديادَ الاستقطاب المذهبي في البلاد بوجه عام، وبتجذر الوعي غير الوحدوي في الجنوب، الذي يطالب أصحابه بتقرير المصير، وصَعَّبَ هذا الوضع عملَ المثقفين التنويريين بين الجماهير، التي شُغِلت بقضايا بعيدة كل البعد عن مشكلة بناء الدولة المدنية بوصفها المدخل الحقيقي لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد.

ويُلحَظ أنّ الظروف السياسية الراهنة، التي تتسم بوجود كيانات سياسية عديدة قائمة على أسس جهوية وطائفية، أثّرت تأثيرًا كبيرًا على المواقف السياسية والاجتماعية للمثقفين اليمنيين، فبعضهم تماهى مع الشعارات الفكرية والسياسية لتلك الكيانات السياسية بغية الحصول على بعض الامتيازات، وفضّل بعضهم الانسحاب من عالم السياسية، وإلى جانب هاتين المجموعتين هناك مجموعة ثالثة ما زالت تشارك في الحياة السياسية من خلال النقد الجوهري للنظام الاجتماعي والسياسي القائم، والأفكار المدافِعة عن وجوده، وتطالب بإقامة دعائم المجتمع المدني.

وهكذا، أدّت التغيرات السياسية، التي شهدتها اليمن على امتداد نصف قرن من الزمان، إلى تزايد نفوذ المثقفين السلطويين والتقليديين في الدولة والمجتمع على حساب نفوذ المثقفين التنويريين، الذين يواجهون صعوبات قوية في إقناع الطبقات الشعبية بسدادة خطاباتهم، الداعية إلى بناء المجتمع المدني.

إنّ أبرز الصعوبات التي تقف أمام المثقفين التنويريين في اليمن، هي: وجود بنية تقليدية صلدة، شديدة المقاومة للتطور الاجتماعي؛ وغلبة الوعي القبَلي والمحَلّي على الوعي الوطني والوعي المدني، وضعف التفكير العقلاني؛ واحتكار النخب الحاكمة لإمكانيات الدولة الاقتصادية والسياسية والإعلامية، وتحالفها المتين مع المثقفين التقليديين؛ ووصول اليمن إلى حالة اللادولة؛ وضعف مؤسسات المجتمع المدني، التي يفترض أن تكون السند المادي والاجتماعي للمثقفين التنويريين. 

ينبغي للمثقفين التنويريين تحليل هذه الصعوبات، وغيرها من الصعوبات التي لا يتسع المجال لذكرها في هذه المقالة، وعلى ضوء ذلك عليهم أن يعيدوا النظر في طرق وأساليب عملهم الفكري، بحيث تتناسب مع المستويات الثقافية المختلفة للناس، وجعله قدر المستطاع عملًا مؤسساتيًّا، وكذلك المشاركة النشِطة في مؤسسات المجتمع المدني، وبدون ذلك لن يخرجوا من أزمتهم.

وفي الختام، نؤكّد أنّ طريق المثقفين اليمنيين التنويريين طريقٌ طويل وشاق ومحفوف بالمخاطر الجسام، ما لم تحدث تطورات سياسية جديدة، يمكن أن تمهّد الطريق لانتقال البلاد إلى حالة المجتمع المدني، على أسس متينة، تلبّي حاجات التطور التاريخي اللاحق للمجتمع اليمني.

•••
د. إحسان شاهر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English