الكتابة بوصفها عزاء

الحِبرُ حين يبقينا على قيد الحياة
عبير اليوسفي
August 9, 2024

الكتابة بوصفها عزاء

الحِبرُ حين يبقينا على قيد الحياة
عبير اليوسفي
August 9, 2024
.

حين كانت في التاسعة، شُخِّصت أناييس نين تشخيصًا خاطئًا دفعها إلى ممارسة الكتابة، منذ ذاك الحين تمسّكت بها في محاولة إنقاذ نفسها وهي طفلة، مثّلت كتابة اليوميات لها محاولةَ استنجاد من كآبةِ الواقع، وجرحٍ بدأ منذ الطفولة بتخلي والدها عن العائلة.

كانت الكتابة بشكلٍ ما، مصدرًا من مصادر الحياة للكاتب، فقد استطاع من خلاله أن يلفظ ما قد يقتله، وعلى حافة الورق الأبيض أسقط العديد من الأدباء فكرة الموت، ومنهم الشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي الذي قال عن الكتابة: "أنقذتني من مستشفى المجانين، من القتل ومن الانتحار. أنا في حاجة دائمة إليها. الآن ، غدًا. وحتى النَّفَس الأخير"، كان بوكوفسكي مهووسًا بالكتابة، عاش طيلة حياته وحيدًا برفقة آلته الكاتبة، وبينما كانت تجري الحياة في الخارج، حاول العيش من خلال ما يكتبه؛ تعرض لطفولة معنَّفة من والده، وللتهميش في مدرسته، ونتيجة تلك الصدمات التي عاشها، وُلد بداخله الكاتب الغاضب والكئيب، مغموسًا بالسكر ومتنقلًا بين الحانات.

أبقته الكتابة على قيد الحياة في كل مرة فكّر فيها بالموت، عن طريقها استطاع أن يُلقي بحزنه وغضبه في وجه الأدب، لينتج روايات وقصائد عُدّ من خلالها من أعظم شعراء أمريكا، يقول في إحدى رسائله المترجمة: "أولئك الذين يكتبون الأدب لم يدمجوا الحياة في نصوصهم، وأولئك الذين تستغرقهم الحياة يحسّون بأنهم مستبعدون من الأدب".

الصفحة الأولى للعزلة

الكتابة كما تراها آني إرنو: "قتل وإحياء"، فهي مهنة ليست بالسهلة، بينما يواجه الكاتب واقعَه وصعوبات الحياة، تنفرط سبحة الأفكار منه، ويتعثر النص على الورق؛ في ذلك قالت جوان ديديون في مقابلة لها حين تتبعثر منها الأفكار، تبدأ جلسة الكتابة بالعودة إلى الصفحة الأولى وإعادة كتابتها حتى تستردّ إيقاع الكتابة، بينما كانت ورقة بيضاء تثير رعب الأمريكي إرنست همنغواي ليقف في مواجهة حبسة الكتابة.

تصدرت رواية "بارتلبي وأصحابه" الحديث عن طيف حبسة الكتابة التي تمثّل أكبر عائق يواجه الكاتب، وبارتلبي هي شخصية آتية من رواية "بارتلبي النساخ" لهرمان ملفل، اشتهرت بانعزالها عن العالم وجملتها الشهيرة "أفضل ألا". في رواية بارتلبي وأصحابه للإسباني إنريكه بيلا ماتاس، كان البطل كاتبًا توقف عن الكتابة مدة خمسة وعشرين عامًا، وفي محاولاته لاسترداد لياقة الكتابة، يعود لتسجيل ملاحظات تدور حول كُتّاب هجرو الكتابة أو كُتاب "لا"؛ كما يسميهم الكاتب.

تتناول الرواية رحلة البطل المعزول عن عالمه، يعمل نساخًا مثل بارتلبي، يتقصى أثر العديد من الشخصيات الأدبية المشهورة التي هجرت الكتابة وأصابها ما أسماه (داء بارتلبي)، وهو رفض الواقع، ومنهم الشاعر رامبو الذي هجر الشعر ولاذ في الصمت الأدبي مفضِّلًا خوض المغامرة على مواصلة الكتابة حتى انتهت حياته. ودّع رامبو وهو في التاسعة عشرة الكتابةَ في عمله الأخير؛ "فصل في الجحيم" بنص قصير، عنوانه: "الوداع الأخير"، لم يكتب بعدها مطلقًا.

الزهد في عوالم العيش

قد يستمد بعض الكُتّاب العزاء من الكتابة، كما فعل الصحفي الهولندي بيتر شتاينس حين شُخِّص بمرض التصلب الجانبي الضموري، لم يجد عزاءَه إلّا بالكتابة كما قال، ظلّ ينشر مقالات أدبية تحدّث فيها عن الكتب التي قرأها، وعن تطور مراحل مرضه الذي أفقده القدرة على التنفس دون أجهزة. أطلق كتاب بعنوان "مغزى القراءة"؛ يقول بيتر: "قد لا تُعطي الكتبُ إجابةً مُحَدَّدةً عن إمكانيةِ منحِ الأدب العزاءَ في المواقف الصعبة، لكن بالنسبة لي على الأقل، قد ثبت بالتأكيد أنَّ الكتابةَ عن الأدب مُعزِّيةٌ للغاية". 

بالمقابل، تجد مخاوف الراحل بول أوستر من الموت، في كتابه: "كيف أصبحتُ كاتبًا"، قبل إكمال روايته الشهيرة "1234"، وكان يرى أنّ "اليوم الذي يتسم بالإنجاز هو الذي أعمل خلاله مدة ثماني ساعات، وتكون حصيلته تقريبًا، صفحة واحدة مطبوعة، نعم، صفحة واحدة فقط! إن تمكّنت من كتابة صفحتين، فسيكون ذلك رائعًا، أما إنجاز ثلاث صفحات، فذلك أقرب إلى المعجزة، وهو أمر، إن حصل، لا يتكرر إلا أربع مرات في السنة الواحدة تقريبًا".

أمام غزارة الكتابة لدى بعضهم، نجح الروائي المكسيكي خوان رولفو في أن يصبح من رموز الأدب اللاتيني والواقعية السحرية من خلال "السهل المحترق" التي نشرت عام 1953، وروايته الشهيرة "بيدرو بارامو" التي حققت نجاحًا واسعًا، ورغم قلة إصداراته، لمع اسمه في الوسط الأدبي، وكان مصدر إلهام للكاتب غابرييل ماركيز. وفي كل مرة، واجه أسئلة الفضوليين عن زهده في الكتابة بعد النجاح الذي حقّقه كان يجيب بأنه: "يكتب عندما تأتيه الهواية"؛ لذا إن فقد قدرته على الكتابة، فيعني هذا أنه لا شيء لديه ليقدمه أكثر.

بالعودة إلى أناييس نين، نجد أنها لم تنقطع عن صياغة يومياتها، التي نشرت تحت عنوان اليوميات: مختارات ترجمة لطيفة الدليمي. تتساءل أناييس في كتابها "تقديرًا للرجل الرهيف ومقالات أخرى": "لِمَ يكتب المرء؟"، سؤال يمكنني الإجابة عنه بسهولة، فكثيرًا ما سألته لنفسي. أؤمن أنّ المرء يكتب لأن عليه أن يخلق عالمًا يمكنه العيش فيه. فأنا لم أتمكن من العيش في عوالم قدمها الآخرون لي– عالم والدي، عالم الحرب، عالم السياسة، فكان عليّ خلق عالمي الخاص، ليكون لي مناخًا، ووطنًا، وهواء أستطيع التنفس فيه، والتحكم به وأستعيد نفسي عندما تحطمها الحياة. هذا في رأيي سبب وجود أي عمل فني.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English