منذ بَدء الحرب الدائرة في اليمن منذ العام 2015، ارتكبت جميع أطراف الصراع في عموم اليمن انتهاكات للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان في ظل غياب المساءلة، وعانى المدنيون من مختلف الانتهاكات بما فيها الآثار الكارثية للأسلحة المتفجرة، كما أصبحت اليمن تعرف بأسوأ أزمة إنسانية –من صنع الإنسان– في العالم.
وتستمر الحرب في ترك آثارها البالغة في مفاقمة معاناة اليمنيين، مخلفةً ملايين الجوعى والمرضى ومبتوري الأطراف من ذوي الإعاقة باعتبارهم من أكثر الفئات تضررًا من هذا النزاع الذي لا يلوح في الأفق أيُّ مؤشرات لتوقفه بعد سبع سنوات من نشوبه في مارس/ آذار من العام 2015.
وفق دراسة صادرة عن منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد ضحايا الحرب من المدنيين الذين أمكن التحقق من حالاتهم خلال العام 2021، 8,796 قتيلًا و9,865 مصابًا، وهناك عشرة آلاف طفل قُتلوا أو جُرحوا في اليمن منذ بداية الحرب، بمعدل أربعة أطفال يوميًّا. ومنذ العام 2018، تسببت الألغام الأرضية والعبوات الناسفة والذخائر غير المنفجرة في مقتل وإصابة 1.424 مدنيًّا على الأقل، معظمهم من الأطفال. ونجم عن الحرب نزوح أكثر من 4 ملايين شخص؛ نحو 73% منهم أطفال ونساء.
يُقدّر عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في اليمن، قبل نشوب النزاع بنحو ثلاثة ملايين شخص، وقد أصبح هؤلاء من بين الذين هم بحاجة إلى مساعدة إنسانية أثناء النزاع، وتفاقمت أوضاعهم بفعل تزايد صعوبات الوصول إلى الخدمات، والأضرار التي لحقت بمرافق البنية التحتية، واضطرار البعض منهم للعيش في بيئات نزوح تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة والحماية. زيادة على ذلك، أدى النزاع إلى توقف أنشطة أكثر من 300 منظمة محلية غير حكومية كانت توفر خدمات متخصصة لذوي الإعاقة في مجالات الرعاية والتدريب والتأهيل، وفرض المزيد من القيود على المنظمات الدولية غير الحكومية المعنية بذوي الإعاقة.
تصبح الإعاقة مصدرًا لمعاناة متجددة ومتفاقمة، لا سيما عند حدوثها في سياق نزاع طويل الأمد، وفي بيئة مجتمعية بالغة الهشاشة، وعاجزة عن تلبية الاحتياجات الأساسية والخاصة
وتعرضت مرافق خاصة بذوي الإعاقة للاستهداف من قبل أطراف النزاع؛ أبرزها مركز النور للمكفوفين بصنعاء، الذي تعرض لغارة جوية نفذها طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات في يناير/ كانون الثاني 2016.
العجز عن الحركة
توصلت الدراسة إلى أن العدد الأكبر من الأشخاص ذوي الإعاقة الذين تمت مقابلتهم بحاجة ماسة إلى أداة مساعدة تتناسب مع نوع الإعاقة، خاصة الأطراف الاصطناعية السفلية والكراسي ذاتية الحركة.
نتيجة لعدم توفر هذه الأدوات اضطر البعض إلى استخدام العكاز المعدني الذي أمكن الحصول عليه بمبلغ زهيد نوعًا ما، لكنه بطبيعة الحال ليس الأداة المثالية لاستعادة القدرة على الحركة.
تسبب النزاع المسلح بإعاقة نحو 6000 شخص من المدنيين على الأقل، أغلبهم فقد أحد أطرافه بسبب انفجار أو لغم أو طلقة نارية، ويرجح أن يكون الرقم الفعلي أكبر من ذلك بكثير.
ويعاني مجتمع ذوي الإعاقة من قبل الحرب، وقد تضاعفت هذه المعاناة وزادت حدتها بعدها، حيث تأثرت الكثير من الخدمات التي كانت متاحة من قبل، وتسببت الحرب وسلوك أطرافها أيضًا بخلق مجتمع جديد من ذوي الإعاقة، وتقوم هذه الورقة بتسليط الضوء على هذه الفئة الجديدة، لتبرز أحد أشكال الضرر الذي لحق بالمدنيين جراء استخدام أطراف النزاع للأسلحة المتفجرة بما يخالف القانون الدولي.
كما توصلت الدراسة إلى حاجة هذه الفئة لإعادة التأهيل النفسي المتخصص كضرورة قصوى بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة، نتيجة لصعوبة توفير هذه الخدمة حتى بطرق خاصة، نظرًا لندرة المراكز التي تقدم خدمات الصحة النفسية المتخصصة، وطغيان ثقافة شعبية سطحية وضارة، يلجأ البعض إلى آليات تكيف سلبية طلبًا للأمان النفسي، مثل كي أجزاء من الجسد بالنار لإزالة الذعر والصدمة النفسية الناجمة عن مسببات الإعاقة.
خطر محدق
تصبح الإعاقة مصدرًا لمعاناة متجددة ومتفاقمة، لا سيما عند حدوثها في سياق نزاع طويل الأمد، وفي بيئة مجتمعية بالغة الهشاشة، وعاجزة عن تلبية الاحتياجات الأساسية والخاصة.
ويعاني الأشخاص ذوو الإعاقة وفق الدراسة البحثية التي عملت على تقييم أثر الإعاقة وصعوبات الوصول والاحتياجات من واقع حالات ميدانية موثقة- من آثارٍ نفسية سيئة، تتراوح بين الشعور بالصدمة عند حدوث الإعاقة، وبين الوقوع فريسة للاكتئاب والإحباط، وربما الشعور القاتل بالعجز، وتتفاوت الآثار النفسية نسبيًّا تبعًا لنوع الإعاقة؛ فهناك أشخاص بُترت أطرافهم السفلية وفقدوا القدرة الكلية على الحركة، أو أصيبوا بإعاقات مزدوجة، فضلًا عن الآثار الاجتماعية، إذ تمثل الإعاقة شاهدًا حيًّا على معاناة المجتمع المحيط الذي يضم أشخاصًا ذوي إعاقة خاصة في المناطق الريفية، حيث تغدو الإعاقة الفردية مؤشرًا على وجود خطر وشيك ومُحدِق بالمجتمع المحيط برمّته، فمثلًا لا يتوقف أثر إصابة شخص بالإعاقة نتيجة انفجار لغم في المرعى القريب من القرية أو بالقرب من مصادر مياه الشرب (الآبار)، على مجرد الإعاقة الفردية، بل يعني حرمان القرية من مصادر أساسية للحياة والرزق، واضطرار سكانها أحيانًا إلى البحث عن استراتيجيات بديلة للعيش، كالنزوح إلى أماكن أكثر أمنًا، أو النزوح للمرة الثانية في حال كانوا أصلًا يُقيمون في بيئة نزوح.
كما أنّ العائدين من النزوح هم مِن بين أكثر الفئات الاجتماعية عرضة لإصابات مسببة للإعاقة، نتيجة استمرار عوامل الخطر في بيئاتهم الأصلية التي خاطروا بالعودة إليها.
هناك أثر اجتماعي غير منظور قد يترتب على الإعاقة، ويعد فادح الكلفة، يحدث حين تتجاوز أضرار الإعاقة الفردية –في المناطق الريفية- نطاق الشخص المعاق وأسرته، وتغدو مؤشرًا على وجود خطر وشيك ومحدق بالمجتمع القروي المحيط برمته، مثل الإعاقة الناجمة عن انفجار لغم في مكان رعي الأغنام، أو بالقرب من بئر الماء الوحيد في القرية، فهنا يصبح المجتمع المحيط مقيد الحركة وغير آمن، وقد يضطر للنزوح بحثًا عن الرزق والحياة الآمنة.
تجشمت أسر، تضمّ شخصًا من ذوي الإعاقة، كلفة اقتصادية باهظة للوصول إلى الخدمة الصحية المنقذة للحياة، ومتابعة الوضع الصحي للضحية، وتوفير احتياجاته، وترتب على ذلك استهلاك جميع أو بعض مدخرات الأسرة، أو بيع بعض ممتلكاتها، أو الاستدانة. ومع ذلك اضطرت بعض الأسر لإخراج إشخاص ذوي إعاقة من المستشفيات قبل أن تستقر حالاتهم الصحية نتيجة نفقات التطبيب الباهظة.
ودمّرت الحرب أكثر من ثلث المرافق التعليمية في البلاد، ونحو 40% من المرافق الصحية، والأصول السكنية، وأصول المياه والصرف الصحي والنظافة، إضافة إلى أكثر من نصف أصول الطاقة، وحاليًّا هناك نحو 15 مليون شخص، أكثر من نصفهم أطفالٌ (8.5 مليون)، لا يحصلون على المياه الصالحة للشرب أو الصرف الصحي أو النظافة.
ويحتاج نحو 20.7 مليون شخص (أي أكثر من 66% من إجمالي عدد السكان) إلى المساعدات والحماية، من بينهم أكثر من 12 مليون طفل. ومنذ عامين على الأقل يعيش نحو 50 ألف شخص في حَجّة وعَمران والجَوف في ظروفٍ تُشبه المجاعة، إضافة إلى أكثر من 5 ملايين شخص في اليمن على شفا مجاعة محتملة.
التعريف القانوني ومسارات النزاع
وَفقًا للاتفاقية الخاصة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (التي دخلت حيز التنفيذ في مايو 2008) تشمل هذه الفئة أشخاصًا يعانون من عاهات طويلة الأجل بدنية أو عقلية أو ذهنية أو حسّيَة، تمنعهم من المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين. وينطبق هذا التعريف على جميع الأشخاص المعاقين، سواء كانوا مدنيين أم عسكريين، وبصرف النظر عن أسباب الإعاقة (خَلقية - طارئة)، كما يشمل أيضًا جميع أنواع الإعاقة في مختلف الظروف.
ثمة مؤشرات أولية على تفاوت نسبي في طبيعة ومستوى الآثار التي تُحدِثها الإعاقة، ذات صلة بنوع الإعاقة، وبجنس الشخص المعاق. على سبيل المثال، تميل النساء ذوات الإعاقة إلى العزلة والبقاء في المنزل تجنبًا للوصم، بينما يتحلى الرجال من ذوي الإعاقة بلا مبالاة معقولة تجاه العبارات والأوصاف المهينة.
وقد نصت المادة 11 من الاتفاقية على "تعزيز وحماية وكفالة تمتُّع الأشخاص ذوي الإعاقة تمتعًا كاملًا، على قدم المساواة مع الآخرين، بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وتعزيز احترام كرامتهم المتأصلة". وأكّدت أهميةَ إيلائهم حمايةً خاصة في ظروف النزاع والكوارث الطبيعية وفقًا للالتزامات بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وتعد اليمن واحدة من بين 187 دولة صادقت على هذه الاتفاقية في العام 2007، غير أن القانون اليمني الخاص برعاية وتأهيل المعاقين كان قد صدر فعليًّا في ديسمبر/ كانون الأول 1999؛ أي قبل توقيع اليمن على هذه الاتفاقية، وما يزال القانون اليمني بحاجة إلى تعديلات تتوافق مع الاتفاقية الخاصة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
واستنتجت الدراسة أن الإعاقة في سياق نزاع طويل الأمد، ينجم عنها آثارٌ نفسية واجتماعية واقتصادية عميقة وبالغة السوء، وبدلًا من تراجع حدة تلك الآثار بمرور الوقت على نحو ما يحدث في الأحوال الطبيعية، تتفاقم آثار الإعاقة وتصبح شديدة القتامة كلما استمر النزاع. إذ تغدو البيئة المجتمعية أكثر هشاشة، وعاجزة عن تلبية الاحتياجات الأساسية والخاصة، زيادة عن كونها غير ضامنة للحقوق، وتفتقر إلى آليات تقديم الحماية للأشخاص ذوي الإعاقة الذين يعانون من شعور متزايد بعدم الأمان، ومن استمرار عوامل الخطر في بيئات النزوح ومناطق المواجهات.
كما أن ثمة مؤشرات أولية على تفاوت نسبي في طبيعة ومستوى الآثار التي تُحدِثها الإعاقة، ذات صلة بنوع الإعاقة، وبجنس الشخص المعاق. على سبيل المثال، تميل النساء ذوات الإعاقة إلى العزلة والبقاء في المنزل تجنبًا للوصم، بينما يتحلى الرجال من ذوي الإعاقة بلا مبالاة معقولة تجاه العبارات والأوصاف المهينة، في مقابل حساسيتهم المرتفعة للآثار الاقتصادية الناجمة عن الإعاقة، باعتبارهم معيلين. وتتحمل النساء المعاقات كلفة اجتماعية أكبر نتيجة تفاقم النظرة الاجتماعية الدونية للمرأة المعاقة، وقيود الحركة التي تفضّل العائلة تشديدها، خاصة على الفتيات المعاقات.
صعوبات المقاومة
وتعد الإعاقة سببًا في تراخي العلاقات الاجتماعية لأشخاص من ذوي الإعاقة، وفي الحد من القدرة على تطوير الروابط الاجتماعية بفعل صعوبات الحركة والتواصل وتبادل الزيارات، أو نتيجة اختيار بعض الأشخاص ذوي الإعاقة الانزواء كرد فعل سلبي على الشعور بخذلان المجتمع المحيط.
بحسب الدراسة، يواجه الأشخاص ذوي الإعاقة في اليمن صعوبات حقيقية في الوصول إلى الخدمات، خاصة الخدمات الطبية المنقذة للحياة، وخدمات الرعاية الصحية، والخدمات الاجتماعية، إضافة إلى صعوبة الوصول إلى المساعدات الإنسانية، وتتزايد هذه الصعوبات في الأرياف، وفي مناطق النزوح والمناطق القريبة من المواجهات. تكون الصعوبات ناتجة عن عوائق طبيعية، (مثل وعورة التضاريس وبعد المسافات)، أو عوائق من صنع أطراف النزاع، (مثل الحصار وقطع الطرقات)، أو عن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية نتيجة الحرب، وفي جميع الأحوال تسببت صعوبات الوصول بعواقب وخيمة على الأشخاص ذوي الإعاقة، من قبيل إطالة أمد الإصابة المهدِّدة للحياة، والتأخير المضِر بالحالة الصحية للضحية.
ورغم صعوبة الظروف التي تسببت بها الحرب، هناك مردود إيجابي واضح لجهود التدخل الموجه للأشخاص ذوي الإعاقة عند حدوثه بالصورة الملائمة؛ لقد أسهم تلقي بعض الأشخاص ذوي الإعاقة لأشكال مختلفة من الدعم، كالحصول على أطراف اصطناعية ملائمة، في تجاوز صعوبات الحركة جزئيًّا، وأسفر الدعم النفسي الذي تم الحصول عليه بالفعل عن نتائج مشجعة للغاية.
لكن بالرغم من وجود نماذج لافتة لتحدي الإعاقة بجهود ذاتية، غير أنها محدودة بصورة ملحوظة، بسبب ظروف النزاع التي تقوض باستمرار فرص التحدي، إضافة إلى تدني مستوى الحصول على أدوات التأهيل البدني التي تساعد على الحركة والتنقل وإعادة الاندماج، ويرتبط تحدي الإعاقة ذاتيًّا بتوفر حد معقول من الاحتياجات وإعادة التأهيل المحفزة لإرادة التحدي لدى الأشخاص ذوي الإعاقة.