المرأة وكتابة الحرب في اليمن

سؤال في الخصوصية من نافذة "تحت الرماد"
د.عبدالحكيم باقيس
October 30, 2024

المرأة وكتابة الحرب في اليمن

سؤال في الخصوصية من نافذة "تحت الرماد"
د.عبدالحكيم باقيس
October 30, 2024
.

هل أصبحت الكتابة عن الحرب ملمحًا راسخًا في مشهد الكتابة الروائية اليمنية الآن()، بعد توالي العديد من الأعمال التي تتناولها إما بوصفها موضوعًا رئيسًا، وأما بوصفها موضوعًا ثانويًّا أو ثيمة رئيسة حاضرة بقوة في خطاب المتخيل الروائي، ويعزز هذا الاستنتاج تنوعُ الاستجابات والتجارب بين مختلف أجيال الكتابة، بما في ذلك المحاولات الروائية الصاعدة للعديد من الكتّاب الشباب في أثناء ولوجهم عالم الرواية، وهو أمر طبيعي في ظلّ موجة الكتابة عن الحرب عربيًّا، وخصوصًا في الأقطار المشتعلة بنيران الحرب وآثارها حتى يوما هذا، حتى أصبح مشهد الحرب والدمار والحرائق والموت والهجرة والنزوح والعنف من مشهديات الحياة اليومية، تلك المشهدية المزاحة هي أبعد وأكثر وحشية مما تعبر إلينا تفاصيلها وأخبارها بقوة طاغية من الواقع إلى شاشات التلفاز، حيث العالم الذي غدا مسرحًا ملتهبًا بالحروب والدموية والصراعات، وهذا ما يبرر صعود موجة الكتابة عن الحرب، وهنا تكمن الإجابة البديهية عن سؤال يبحث عن تفاصيل الكتابة محليًّا وليس تقريرًا بالنفي أو الإثبات.

تحت رماد عيشة

وفي هذه المقالة، أتخذ من رواية (تحت الرماد) لعيشة صالح 2024، بوصفها آخر الأعمال المكتوبة بقلم المرأة عن الحرب، مناسبةً في الإشارة إلى موضوع البحث عن سؤال الخصوصية في كتابة المرأة عن الحرب، وليس بالضرورة أن تكون هذه الرواية الأخيرة أكثر الأعمال نضجًا وجمالًا فنيًّا، فما كتبته المرأة عن أعمال عديدة هي محل عناية ودراسة الآن، ومنها على سبيل المثال: "خلف الشمس" لبشرى المقطري 2012، و"سنوات الوله" لشذا الخطيب 2017، و"صاحب الابتسامة" لفكرية شحرة 2017، و"الدِّيَنَّا" لنهى الكازمي 2024، وتتفاوت جميعها في مقاربة موضوع الحرب باختلاف التجارب في الكتابة.

تنقلنا الرواية في أحد فصولها، إلى الحاضر وأتون الحرب الدائرة في عدن، في النصف الأول من عام 2015، بكل تفاصيلها وأحداثها الموجعة من قصف واشتباكات مسلحة وحرائق وانفجارات وقتال وضحايا، وتفشي الأمراض وانقطاع سبل الحياة ونزوح ولجوء، وصبر وأخطاء وبطولات وتضحيات.

منذ العنوان الحافل بالدلالة على ما تخلفه الحرب، وصورة الغلاف التي تنطوي على مشهدية تشكيلية لساحة معركة بكل عناصرها وآثارها، يتحدد أفق انتظار القارئ في عبوره إلى نص يتخذ من الحرب موضوعًا رئيسًا للسرد. وفي أثناء رحلة عبور القارئ من تحت رماد الكتابة، تتكشف ملامح شخصيات وأحداث ارتبط مصيرها بالحرب على عدن في 2015، التي هي جزء من الحرب الأهلية اليمنية المشتعلة منذ 2014. يجري السرد على لسان الشخصية المحورية الساردة "غدير" وهي تحكي تفاصيل قصتها بداية بفصل استهلالي تأطيري عن ماضي طفولتها وعائلتها، وتخيرها لإضاءة زوايا بعينها مؤثرة في حاضر السرد، حيث الأم المستلبة التي تعيش حياة بائسة دفعتها إلى التخلص منها وهي جنين، بسبب قسوة الأب ومعاملته المتوحشة، وتحكي غدير حياتها في منزل متهالك في أحد أحياء مدينة عدن العتيقة، كما تقول، بين أم منهَكة نفسيًّا وجسديًّا، وجدة لا تقل إنهاكًا، أما الأب العابث بمصير عائلته فلا يطل إلا في زيارات متقطعة لم تخلُ من إساءة معاملته لأفراد عائلته، وبذلك يقدم الفصل خلفية مكثفة عن المهاد البائس للشخصية وحياة الحرمان في الماضي، ثم تنقلنا في الفصل التالي إلى الحاضر، وأتون الحرب الدائرة في عدن في النصف الأول من عام 2015، بكل تفاصيلها وأحداثها الموجعة، من قصف واشتباكات مسلحة وحرائق وانفجارات وقتال وضحايا، وتفشي الأمراض وانقطاع سبل الحياة ونزوح ولجوء، وصبر وأخطاء وبطولات وتضحيات، وتعيد في أثناء ذلك سردية الحرب بمقولاتها وخطاباتها وشعاراتها التي تتبادلها الأطراف مع تبادلهم النيران والقصف، لدرجة تقرب الرواية من التسجيلية في وصف الوقائع والأحداث، وهذه ظاهرة تجتاح العديد من الكتابات السردية عن الحرب من داخلها، أكان عن طريق شخصيات تحكي وهي غير مفارقة لمرويها، أو ما يطلق عليها بالراوي من داخل القصة، أم على مستوى الكُتّاب أنفسهم وعلاقتهم بالأحداث، ممن عاشوا الحرب على نحو مباشر، ما جعلهم يمتحون في الكتابة من ذاكرة سردية حافلة بالمشاهد والتفاصيل في سردهم للوقائع التي تتجاوز حدود التخييل إلى تقديم ما يشبه الشهادة على عنف الحرب ووحشيتها، وذلك، كما أرى، كان سببًا في الوقوع في فخاخ التسجيلية في بعض الأحيان.

تداخل الأيديولوجي بالتعليمي

تمضي بقية فصول الرواية في التأكيد على ما تُحدثه الحرب من تحولات في مصائر الشخصيات، مثل موت الأم بسبب غياب الرعاية في أثناء رحلة النزوح، وحياة الاختناق التي تعيشها المدينة؛ ما يدفع الشباب إما إلى الهجرة إلى الخارج، مثلما فعلت الساردة، قبل أن تفكر في العودة من جديد، أو انخراط الشباب الجامعيين المتخرجين الذين تدفعهم ظروفهم المادية وغياب فرص العمل، إلى التجنيد في القتال في الجبهات، لتتحول الحرب من مشكلة إلى فرصة للهروب من مشكلات الحياة الاجتماعية.

وبهذا تمزج الرواية المكتوبة بقلم المرأة بين العديد من القضايا الاجتماعية والإنسانية وظروف الحياة في ظل الحرب، وما تحدثه من أزمات وتحولات في مصائر الشخصيات، فكلٌّ مِن: غدير، وعمر، وطارق، تحولوا إلى نماذج إنسانية ورموز تحمل خطاباتها وصراعاتها النفسية في رحلة انتزاع الحياة من بين مخالب الموت، وهي نماذج روائية خصبة في أبعادها النفسية والاجتماعية، كان يمكن الاشتغال عليها بتركيز أكثر في بناء متخيل روائي لو استطاعت الرواية أن تتجنب الأيديولوجيا أو أن يتم تمريرها بأسلوب غير مباشر، لا كما حدث في نهاية الرواية حين تداخلت الأيديولوجية بالتعليمية، وكأنما تختزل مغزى الرواية ودلالتها الكلية في مجرد تبني الموقف السياسي من عدالة القضية الجنوبية.

في الخصوصية الروائية، يكون البحث عن سمات وعناصر تنمح النصوص تميزها دون أن تفقدها اتصالها بغيرها، أو على الأقل البحث في السمات البارزة أو الحاضرة بقوة، ما يجعلها تبدو وكأنها خاصة بنمط كتابي دون غيره.

وهنا نعني بسؤال الخصوصية؛ البحث في كل ما يمنح كتابة المرأة تفردها في إطار الأعمال الروائية المكتوبة عن الحرب عامة، أكان على مستوى تخير زوايا التناول، أو الأسلوب وتوظيف التقنيات السردية.

الانحياز لفكرة المرأة "بطلة" والساردة بضمير المتكلم ذي الطابع السيرذاتي، منح الرواية خصوصية سردية في الولوج إلى مناطق الانفعالات ومختلف المشاعر الشخصية والحكم على الوقائع من زاوية ذاتية، كما سمح للسرد بأن يتجه نحو البوح وتصوير الأحاسيس الداخلية، فتصبح الكتابة هي الشفاء من أوجاع غائرة في الماضي.

(تحت الرماد) على الرغم من كونها التجربة الروائية الأولى لكاتبة كان اشتغالها على قصص الأطفال والناشئة، وأصابها ما يصيب عثرات البداية، فقد حققت اقترابًا أكبر من شروط الكتابة، وتمثلت ملامح الخطاب النسوي الذي ينحاز إلى فكرة الانحياز للمرأة ومجابهة الظروف التي تقلل من مكانتها وإمكانات وجودها، وهذا من خلال تخير نموذج الشخصية المحورية الساردة، بداية من فكرة الوأد وانتزاع حقها في الحياة والوجود ضد الإجهاض، ثم تحولها إلى فتاة صلبة تستطيع الاعتماد على نفسها وخلق فرص للعمل وتحقيق كينونتها في إطار مجتمع يرسم حدودًا خاصة لإمكانات المرأة، فهي تعيل أمها وجدتها في ظل غياب الأب الذي لا تحضر صورته إلا بمظاهر القسوة والتخلي عن واجباته. صورة سلبية للرجل متكررة في صورة الإخوة الذين تخلّوا عن أختهم، والزوج الذي حاول استغلالها... وهكذا يبدو عالم الذكور؛ ينطوي على النقائض والنفاق والكذب، فيما الإناث هن الضحايا، ومن فكرة المجابهة تبدو الساردة ساخطة على أمها بوصفها نموذجًا للضعف والاستلاب.

سمات عديدة لخطاب نسوي تكمن في تفاصيل هذه الرواية، وعند تناول موضوع الحرب تبرز الحياة الداخلية والخاصة للشخصيات، وتقدم الإناث قويات حتى في أكثر مواضع ضعفهن، فضلًا عن سرد الحرب من داخلها، والتركيز على آثارها وأبعادها الاجتماعية والإنسانية من منظور نسوي.

البوح وتصوير الأحاسيس

الانحياز لفكرة المرأة "بطلة" والساردة بضمير المتكلم ذي الطابع السيرذاتي، منح الرواية خصوصية سردية في الولوج إلى مناطق الانفعالات ومختلف المشاعر الشخصية والحكم على الوقائع من زاوية ذاتية، كما سمح للسرد بأن يتجه نحو البوح وتصوير الأحاسيس الداخلية، فتصبح الكتابة هي الشفاء من أوجاع غائرة في الماضي، في خلق ميثاق تعاقدي مع القارئ منذ البداية بأن الرواية سرد لأحدث واقعية عاشتها الساردة؛ "أشرع الآن في كتابة قصتي، لم أكن قد حددت من أين أبدأ، لكن تلك العبارة المكررة لأمي قفزت إلى ذهني: "أنجبتك غلطة". أمي التي عاشت يتيمة، ظنت أن الزواج سينهي متاعبها، فكان بداية النهاية، هكذا دائمًا بمناسبة ومن غير مناسبة تتقافز عبارات في ذهني، وعبارة أخرى: "لا تريني وجهك"، ولكنها من أبي".

وهذا يطرح سؤالًا عن تكرار أسلوب السيرة والمذكرات في العديد من النماذج المكتوبة بقلم المرأة، إذ تتوازى المعاناة في الحياة الشخصية للساردة مع الحياة العامة للمدينة التي تجتاحها الحروب المدمرة، وإذا استطاعت المدينة أن تخلق انتصارها على محنة الحرب، فقد أعلنت نهاية الرواية أن الساردة أيضًا قد استطاعت أن تجتاز مشكلاتها ومعركتها، فقد "التحقت غدير بالعمل في منظمات الإغاثة العاملة في عدن، وما أكثرها بعد الحرب، واستهواها إلى جانب ذلك العملُ الإعلامي، فظل حبرها حارًّا لا يبرد، حال كل مؤمن بقضية الجنوب وحقه في تقرير مصيره...".

ومن الملاحظ هنا، في فصل النهاية القصير جدًّا، تحوُّل الضمير السردي إلى ضمير الغائب، وهذا لا يمكن أن نفهمه إلا في ظل لعبة "التذويت" التي تمارسها كتابة المرأة في خلق سمات ومنظورات ذاتية في السرد.

__________________ 

(1) في إطار استقصاء الأعمال المكتوبة عن الحرب، نشرت العديد من المقالات عن الروايات اليمنية منذ أكثر من عام.

•••
د.عبدالحكيم باقيس

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English