لم يكن يخطر على بال مُصوِّرات الأعراس في الحديدة أنّ حربًا من نوع آخر سوف تواجههن في عملهن، متمثلة في نظرة المجتمع وصعوبة توفير معدّات التصوير في المدينة، إلى جانب تعرض بعضهن للضرب من أقرباء العروسين أو تحطيم بعض معداتهن؛ نتيجة خلاف يحدث أثناء عملهن، إضافة إلى صعوبة العمل جراء ارتفاع درجة الحرارة وتدني الأجور مقارنة بمدن ومهن وأعمال أخرى.
اتجهت كثيرٌ من خريجات جامعة الحديدة، خصوصًا قسمَي الإعلام والفنون، إلى العمل في مهنة "تصوير الأعراس"، بعدما أغلقت الكثير من الوسائل الإعلامية أبوابها أو انحياز بعضٍ منها لأطراف النزاع وسط تلاشٍ للمؤسسات المستقلة، إذ دفعهن ذلك إلى خوض تجربة هذا العمل، برغم التحديات الكثيرة التي تعترض طريق كثيرٍ من هؤلاء اللاتي يتشبثن بالتصوير، باعتباره فرصة للعيش وتوفير مصدر دخل حتى لو كان محدودًا وموسميًّا، وكذا تجنّبًا لأيّ ضرر قد يلحق بهن نتيجة الوضع الراهن في اليمن وتبعاته، في تقييد الحريات الصحفية والإعلامية.
رنا الحبيشي، إحدى مصورات الأعراس في الحديدة، كان الهدف من التحاقها بكلية الفنون الجميلة والتخصص في قسم الفنون الإذاعية والتلفزيونية، الدخول إلى عالم تصوير البرامج الوثائقية وغيرها من البرامج، غير أنّ الواقع الذي صادفها بعد التخرج، أجبرها على البحث عن مجال آخر يجعلها بعيدة عن المخاوف التي يتعرض لها الإعلاميون في عموم اليمن، من قتل واعتقال وملاحقة وتهديد، فكان تصوير الأعراس والمناسبات المختلفة هو الملاذ الآمن الذي التجأت إليه.
جحيم العمل ونظرة المجتمع
للعمل في هذا المجال، كافحت رنا كثيرًا -وفق حديثها لـ"خيوط"- لتوفير ما يحتاجه من متطلبات وشراء الأدوات والمستلزمات التي تحتاجها في التصوير، وواجهت معاناة تتكبّدها الكثير من مُصوِّرات الأعراس في مدينة الحديدة.
تستعرض الحبيشي، جزءًا من هذه المعاناة: "تتعامل أسرتَا العروس والعريس مع المصورة على أنها مجرد أجيرة تعمل لصالحهم، أكثر من كونها مُصوِّرة لها مكانتها داخل المجتمع، إلى جانب ما تتعرض له كثيرٌ من المُصوِّرات من شتائم وسبّ واعتداءات تصل أحيانًا للضرب، وغيرها من المعاناة التي تواجههن دون أن يعلم بها أحد أو تسلط وسائلُ الإعلام الضوءَ عليها".
ليست مجيبة وحدها من تعرضت للاعتداء الجسدي أثناء عملها، فهناك مُصوِّرة أخرى تعرّضت للضرب بعدما حدث شجار بينها وبين أشقاء العروس على مبلغ 1000 ريال، وأخرى تعرضت للضرب من أقرباء أحد العروسين، وتم تحطيم عدد من أدواتها منها الكاميرا.
أمّا سامية أحمد (اسم مستعار)، فقد واجهت نوعًا آخر من المعاناة في بيئة عمل عبارة جحيم المجتمع ونظرات وتنمر بعضهم، يفوق الاحتمال، كما تحكي لـ"خيوط" أنهم يقولون مستنكرين: "كيف يسمح لها أهلها بأن تتأخر عن بيتها لهذا الوقت؛ يعلم الله أين كانت"، تتابع: "هذا ما كنتُ أسمعه من الجيران كلما خرجت من المنزل أو أثناء عودتي من حفلات الزفاف التي أذهب لتوثيقها".
بحسب العادات والتقاليد، تبدأ حفلات الزفاف في الحديدة خلال المساء، من الساعة السابعة أو أحيانًا الساعة التاسعة مساء، ونظرًا لضيق الوقت يكون من الطبيعي عودة موثقة ومصوِّرة الزفاف بعد منتصف الليل، وهذا ما جعل سامية تواجه نظرة المجتمع القاصرة لعملها، لكن وبالرغم من كل هذه المضايقات التي تواجهها؛ تتمتع بإصرار وعزيمة لتجاوز كل هذه المعوقات والصعوبات بعد تفهُّم أسرتها لطبيعة عملها، مستمرة في تصوير الأعراس والمناسبات، تقول أحمد: "هو شغفي".
تكاليف المعدات تفوق الإمكانيات
من المعروف أنّ الإصدارات الجديدة لمعدات التصوير، ومنها الكاميرات، تجعلها متاحة بتكلفة عالية تصل إلى مبالغ كبيرة تفوق قدرات مصورات الأعراس على شرائها أو حتى دفع إيجارها، الأمر الذي يجبر بعضهن على بيع ما يتوفر من مجوهرات لدى الأسرة، أو اقتراض مبلغ من المال لشراء كاميرا، تصل أسعار بعض أصنافها إلى أكثر من مليون ريال، إذ تتفاوت الأسعار؛ بحسب مواصفات الكاميرا وجودتها.
بالمقابل، هناك الكثير من الزبائن يشترطون على المصورة توفير معدات إضافية، مثل إضاءة إستديو، فتضطر إلى شراء إستديو متنقل، تصل تكلفته إلى نحو 600 دولار، إضافة إلى توفير آلة "الرونين" (وهي عبارة عن ذراع يتم تثبيت الكاميرا عليها لمنعها من الاهتزاز)، وآلة "الدرون" (عبارة عن جهاز طائر يمكّن الكاميرا المثبتة عليها من التصوير من الجو)، فضلًا عن توفير عدسات من نوعيات وأصناف محددة، و"استاند"، وغيرها من معدات التصوير التي تضيف جماليات معينة للصورة.
تؤكّد المصورة نسرين قشيمة، لـ"خيوط"، أنّ المصورات في الحديدة يواجهن صعوبة بالغة في شراء معدات التصوير، التي لا تتوفر إلا في صنعاء ومدن أخرى، فيقمن بتقديم طلب لتوفير كاميرا أو غيرها من المعدات عن طريق مصورين هناك أو من الوكالات نفسها، الأمر الذي يجعلهن يتحملن مبالغ إضافيّة لا تقل عن 150 دولارًا فوق سعرها.
يأتي ذلك في الوقت، الذي تفتقر فيه مدينة الحديدة للمحال الفنية والتقنية المتخصصة في هذا المجال، مثل المحلات العاملة في صيانة معدات التصوير، إلى جانب قلة وجود محلات تأجير جميع الأدوات التي تحتاج إليها المصوِّرات، وهو ما يفاقم ويضاعف معاناتهن.
في السياق، يوضح محمد الشميري، مصور، لـ"خيوط"، أنّ أزمة توفير معدات التصوير في الحديدة تعتبر مشكلة مزمنة فهي قائمة وموجودة منذ فترة طويلة، حيث يشترك في هذه المعاناة المصورون والمصورات بشكل عام، لكنها تكون مضاعفة على المصوِّرات اللاتي يجدن صعوبة في التنقل إلى مدن أخرى، للبحث عن المعدات التي يحتجن لها.
فيما تحدثت مصوِّرة -فضّلت عدم ذكر اسمها- أنّها في كل مرة تحتاج إلى تغيير بطارية جهازها المحمول تضطر إلى دفع مبلغ إضافي للقيمة الحقيقية للشخص الذي سوف يساعدها في توفير البطارية، حيث لا تتوافر إلا في صنعاء.
تدني الأجور تضاعف المعاناة
كما تبرز مشكلة أخرى تضاف إلى ما تواجهه العاملات في مجال تصوير الأعراس والمناسبات، تتمثل في تدني الأجور، وهي مشكلة تؤرق المصوِّرات في الحديدة، بخلاف المدن اليمنية الأخرى، حيث تتقاضى المصوِّرة مبلغًا يصل إلى أكثر من 200 دولار.
تقول قشيمة في هذا الخصوص، إنّ أعلى مبلغ تتقاضاه المصوِّرة في الحديدة لا يزيد على 45 ألف ريال يمني (حوالي 80 دولارًا، بسعر صرف الدولار في صنعاء 530 ريالًا)، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية مصروفاتها اليومية إلى جانب أجرة التنقل والمواصلات.
بهذا المبلغ الزهيد، كيف سيكون بإمكانها تحديث أدوات جديدة، كشراء كاميرا بجودة عالية، سعرها يتجاوز أكثر من مليونَي ريال، إلى جانب الأدوات التي تحتاجها أثناء التصوير؟! على سبيل المثال؛ وفق توضيح المصورة قشيمة، إذ تقول: "إذا قرّرت شراء جهاز "درون" فسوف يتطلب مني مبلغًا لا يقل عن 2000 دولار، وفي حال اقترضتُ مبلغًا لشرائه سيكون من الصعب تسديده".
اعتداء بالضرب وتحطيم الأدوات
وسط كل ذلك، تظل الانتهاكات والاعتداءات في بيئة عمل عبارة عن جحيم، المشكلةَ والتحدي الأهم بالنسبة لكثير من المُصوِّرات في الحديدة، كما ترصد "خيوط".
في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي 2024، تم استدعاء المصورة مجيبة الشميري لتوثيق حفلة زفاف في إحدى صالات الأعراس في مدينة الحديدة، وكالعادة، كانت حاضرة بأدواتها منذ السابعة والنصف مساء، لتبدأ تصوير بعض التفاصيل منتظرةً وصول العروس لتبدأ بتصويرها، حيث وصلت العروس بالتزامن مع حضور العريس، حيث تقوم بالتقاط صورٍ لهما معًا.
تقول مجيبة لـ"خيوط": "حسب الشروط المتفق عليها، أكتفي بتصوير العروسين فقط دون أقربائهما، لكن فجأة وصلَت عمة العريس وطلبت مني أن أصوّرها، وحين اعتذرت لها، أخبرتها أني قد اتفقت على ذلك مع العروس وقت الحجز واستلام أجرة العمل، فما كان منها إلّا أن انتزعت مني الكاميرا بالقوة مع الفلاش، وعندما حاولت استعادتها رفضت وحصل عراك بيننا، وكانت تكرر عبارة: صوريني بفلوسي بفلوسي".
تتابع: "شعرتُ بقلق على أدواتي؛ لأنها غالية، خاصة أنّ بعضها اشتريتها حديثًا قبل فترة لا تزيد على ثلاثة أشهر، ومنها فلاش الكاميرا، وحين تعرضت للاعتداء، وبدأَتْ هي ومَن معها بضربي، سقط أحد الأكواب الزجاجية الخاصة بمشروبات العروسين، فشعرت بالذعر وخفت أن تكون إحدى أدواتي، إلا أنني رأيتها في يد إحداهن، فعملت على انتزاع الكاميرا منها وكذلك الفلاش، وسلمتها لزميلة كانت موجودة حينها قبل أن أُفاجَأ بكل من في صالة الفرح يتجه نحوي، فما كان مني إلا الهروب بفزع ورعب للنفاذ منهن ومغادرة القاعة".
ليست مجيبة وحدها من تعرّضت للاعتداء الجسدي أثناء عملها، فهناك مُصوِّرة أخرى تعرضت للضرب بعدما حدث شجار بينها وبين أشقاء العروس على مبلغ 1000 ريال، وأخرى تعرضت للضرب من أقرباء أحد العروسين وتم تحطيم عددٍ من أدواتها، منها الكاميرا.
البحث عن بيئة عمل أفضل
تقول المصورة رنا الحبيشي إن بيئة العمل والصعوبات التي واجهتها أثناء عملها مصورة أعراس في الحديدة، أجبرتها على مغادرة اليمن والسفر إلى السعودية بحثًا عن وضع أفضل وبيئة عمل مناسبة تجد فيها ما يلبي طموحاتها ويُشعرها أنّها مصورة، وليست مستعبدة.
تمثل عملية تصوير الأعراس صعوبة بالغة للعاملات في هذه المهنة، تطلب تهيئة نفسية وطريقة تعامل مناسبة مع الزبائن، فقد تُصادِف المصورة نساءً يُظهرن تعاملًا سيئًا معهن، وينظرن للمصورة نظرة انتقاص، في حين تصادف المصورات مواقف ومشكلات أخرى تحدث داخل صالة الفرح.
لم تكن رنا الوحيدة التي غادرت الحديدة، فهناك أخريات فضّلن الانتقال إلى مدن أخرى بحثًا عن وضع أفضل، ومنهن ندى مؤمن، التي كانت وجهتُها صنعاء، وهناك انطلقت وحقّقت نجاحًا باهرًا في مجال تصوير الأعراس والمناسبات المختلفة.
في العام 2015، كانت ندى قد نزحت مع أسرتها والكثير من الأُسَر إلى صنعاء بعدما وصلت المعارك إلى بعض أحياء محافظة الحديدة (غربي اليمن)، حيث استقرت مع عائلتها، وبدأت بالعمل في تصوير حفلات الزفاف، واستطاعت أن تحظى بقبول كبير لدى الأهالي وسكان المدينة. وبعد مرور سنوات، فضّلت البقاء في صنعاء حتى بعد عودة الكثير من النازحين إلى الحديدة وتحسّن الوضع نسبيًّا مقارنة بما كان عليه.
تشرح مؤمن لـ"خيوط"، بالقول: "وجدتُ العمل في صنعاء أفضل بكثير من الحديدة، من جوانب عدة؛ مثل أوقات العمل، فالمناسبات في الحديدة تبدأ من الساعة السابعة مساء، وتنتهي في الساعة الثانية عشرة ليلًا؛ لذا فإن الوقت ضيق لتصوير كل تفاصيل الزفاف، إضافة إلى أنّ العروس تصل إلى صالة الفرح في الساعة العاشرة، وربما بعد ذلك؛ بحسب عادات وتقاليد المنطقة، فيكون من الصعب التصوير بأريحية، بعكس صنعاء التي تبدأ من الواحدة ظهرًا، ويكون التصوير سهلًا بما يتيح التركيز على أدقّ التفاصيل".
وتشير ندى إلى أسباب أخرى تضاف إلى عامل الوقت، جعلتها تستقر في صنعاء وتستمر في مواصلة عملها، وتتمثل في قدرات الناس المالية مقارنة بسكان الحديدة، ما يمكّنهم من دفع مبالغ كبيرة لاستئجار صالات الأفراح، في حين تعاني المصورات في الحديدة، إذ يكون أجرهن في أوقات كثيرة محدودًا؛ نحو 30 ألف ريال، وهو مبلغ كبير في نظر المواطنين بالحديدة، حيث يعاني الكثير منهم من تردٍّ في المعيشة والدخل.
وتؤكّد أنّ ارتفاع درجة الحرارة في الحديدة، من أبرز التحديات التي كانت تواجهها المصورات؛ إذ إنّ ارتفاع درجة الحرارة يعيق عمل المصورة، فتعمل بصعوبة وبدون تركيز، فضلًا عن تأثر مكياج العروس، ويكون من الصعب التركيز على تفاصيل وجهها وكذلك شعرها.
انتقاص من قيمة المصورات
تمثل عملية تصوير الأعراس صعوبة بالغة للعاملات في هذه المهنة، وتتطلب تهيئة نفسية وطريقة تعامل مناسبة مع الزبائن، فقد تصادف المصورة نساء يُظهرن تعاملًا سيئًا معهن، وينظرن للمصورة بانتقاص، في حين تصادف المصورات مواقف ومشكلات أخرى تحدث داخل صالة الفرح.
تقول المصورة رنا الحبيشي، إنّ بعض حفلات الزفاف تحدث فيها مشاحنات ومشادّات كلامية بين أهل العروسين وأحيانًا بين أقاربهما وبين الزبائن، ويقع على المصورة مسؤولية احتواء الموقف ومحاولة الصلح بينهم حتى تستطيع أن تُكمل عملها.
في بعض حفلات الزفاف، تحدّث مشكلات تصل أحيانًا إلى الطلاق، وفق ما تروي الحبيشي؛ بسبب خلاف يطرأ في تلك اللحظة، وقد لا يكون معروفًا ما إذا كان هناك خلفية للمشكلة أو لا، وقد تتعرض العروس لنوبة بكاء متواصلة أو حزن أو قلق نتيجة وجود خلاف بين أسرتها وأسرة الزوج، ويكون أمام المصورة مشكلة في تصويرها بالشكل المطلوب، وكذلك العريس.
تتابع: "في مرات كثيرة، كنتُ أصل إلى صالة الزفاف، وأجد أهل العروس قد أحضروا مصورة غيري بدون إخباري، وفي إحدى المرات صرخ والد العروس في وجهي طالبًا مني عدم تصوير ابنته ومغادرة الحفلة، كما تعرضت لإساءة لفظية من والدة طفل في أحد الأفراح، فقط لمحاولتي إبعاده عن أدواتي التي دفعتُ دم قلبي من أجل شرائها". ومواقف كثيرة تعرضَت لها أثناء توثيق بعض حفلات الزفاف، بينما لا تُنكر رنا أنّ هناك مناسبات أخرى وثقتها ووجدت الاحترام والتعامل الراقي من أهل العروسَين، ولكن هذا قليل مقارنة بما وجدته مما تصفه بالتوحش والسخرية والتهجم والإساءة خلال عملها في تصوير الأفراح، ما جعلها هي والكثير من زميلاتها العاملات في مجال تصوير الأعراس يفكرن بترك هذه المهنة والبحث عن فرصة عيش كريم لهن.