قدم إلى بسطته في تمام الساعة الثامنة صباحًا، كعادته، طلبًا لرزقٍ يسدّ به جوع أولاده. بدَت ملامحه منكسرة وهو يؤكّد أنه لم يحظَ بزبون حتى العاشرة من صباح اليوم ذاته، ويخشى أن يعود إلى منزله من دون كسبٍ يؤمّن قوت يومه لأفراد أسرته، كبعض الأيام التي وصفها بـ"القاسية"؛ إذ لم يكسب بها شيئًا من مهنته التي كانت ولا تزال حيلته ومصدر دخله الوحيد في الحياة.

يراقب مُصلح الساعات، رياض القاضي (32 عامًا)، المارّةَ أملًا في قدوم أحدهم لإصلاح ساعته أو استبدال بطاريتها، ولكنه سرعان ما يشعر بالملل من النظر إليهم ومن مناداتهم عبثًا، إذ يقول لـ"خيوط": "استغنى كثيرٌ من الناس عن الساعات اليدوية؛ وذلك بسبب معرفتهم الوقت من خلال هواتفهم النقالة". ويضيف، وقد بدا انكسار في ملامحه: "مهنتنا ستنقرض".

اكتسب رياض القاضي مهنةَ إصلاح الساعات من والده الذي كان يعمل بها في تسعينيات القرن العشرين بمدينة ذمار، إذ يؤكّد أنّها كانت مهنة تدرّ المال على والده، الأمر الذي جعله يتعلمها ويتقنها، ولكنه لم يكن يتوقع أن تُطوى صفحتها بفعل الثورة الرقمية التي تتطور باستمرار وتتسبّب في استغناء الناس عن الساعات اليدوية لوجود بدائل كثيرة، يعرفون من خلالها الوقت كالهواتف النقّالة المرافقة لهم في كل الأوقات.

في أحد شوارع مدينة دمت بمحافظة الضالع، يضع مُصلح الساعات رياض القاضي صندوقَه المليء بالساعات الجديدة، وبالخُردَوات منها، والبطاريات، ورغم تراجع العمل وندرة توافد الزبائن، لا يزال مواظبًا على الحضور اليومي للمكان الذي اختاره للجلوس منذ سنوات، أملًا في الحصول على كسبٍ يعينه على استمرار الحياة وإعالة أسرته، إذ ليس لديه مهنة أخرى سواها.

سنواتٍ طويلةً ظلّت مهنةُ إصلاح الساعات مطمعًا لبعض الهواة والباحثين عن فرص عمل، وقد كان الكثير منهم يتوزّعون في مدن الجمهورية اليمنية، وكانت الساعة اليدوية قبل امتلاك الجميع الهواتفَ النقّالة، السبيلَ الأوحد لمعرفة الوقت؛ ما يعني أنّ غالبية عظمى من الناس كانوا يضعونها على أيديهم، ومِن ثَمّ يُتوقَّع حدوث أي عطل والذهاب إلى مُصلحي الساعات وإفادتهم وإنعاش مهنتهم.

قبل أكثر من عشر سنوات، قدم مُصلح الساعات رياض القاضي من منطقة وصاب العالي بمحافظة ذمار، واستقر في مدينة دمت بمحافظة الضالع، وذلك بعد أن اكتسب مهنته التي اعتقد أنها حيلته لتجاوز عقبات الحياة المادية، ولكنه مؤخرًا يبدو كمن يشعر بخيبة عميقة وبعض الحسرة على أيام قضاها في مهنةٍ انتهى وقتها الافتراضي.

يشكو مُصلح الساعات رياض القاضي من سوء ظروفه المادية بالتزامن مع تراجع عمله، إذ يتحدث إلى "خيوط"، قائلًا: "طوال الوقت وأنا أفكر كيف سأدفع إيجار البيت وأنفق على أولادي الخمسة وأشبع جوعهم، وأتكفل بمصاريفهم المدرسية المرهقة، ما دام زبائن مهنتي كل يوم في عزوف واستغناء".

ككثير من المهن التي كانت سببًا للدخل وانقرضت، تمضي مهنة إصلاح الساعات إلى الانقراض؛ ما يعني أنّ من تبقَّى من مُصلحي الساعات كرياض القاضي، سيواجهون ظرفًا قاسيًا واستثنائيًّا، ولهذا فإنّ رياض بدأ يفكر في ترك هذه المهنة واللجوء إلى العمل في بيع وشراء نبتة القات، على حد قوله.

الحزن في عيني مُصلح الساعات، رياض القاضي، هو حزن تشييع المهنة إلى مثواها الأخير، إلى الانقراض. حزن الخيبة التي دستها أيامه الماضيات عندما اختار لنفسه تعلُّم هذه المهنة التي جعلت جيبه خاليًا من الفرحة كلما عاد إلى منزله بلا حلوى لصغاره.