عطلت الحرب الدائرة في اليمن منذ سبع سنوات، مختلف سبل العيش في البلاد ونظم الحياة، من ذلك حق الحصول على العمل مع ارتفاع كبير في مستويات الفقر والبطالة وزيادة عدد السكان الواقعين في براثن الجوع.
إضافة إلى بروز مظاهر متصاعدة، مثل التسول والتسرب من التعليم مع تفاقم الأزمات الاقتصادي بشكل كبير.
في ذمار- المدينة، يأخذ التسول أشكالًا كثيرة؛ من طلب النقود من قبل أطفال ونساء وأيضًا رجال لا يعيبهم عائب، إلى المرور بالبيوت بشكل منتظم لطلب بقايا الخبز أو الأكل، إلى صور أقل وضوحًا وليس أقل كارثية؛ حيث تجد مئات النساء الخاويات المتعبات يستيقظن بعد الفجر لجمع قناني المياه الفارغة، وأي شيء يستطعن بيعه مقابل كيس من الخبز في نهاية اليوم.
تقول علياء (26 سنة)، إنها وجدت نفسها مضطرة مع الوقت، حيث زوجها النائم والمحبط طوال اليوم، إلى الخروج بطفلتها؛ تعطيها أوامر معينة، تراقبها من بعيد وهي تستعطف الناس في أسواق القات، وأمام المحلات الكبيرة، تراقبها بحسرة وبخوف؛ في النهاية قد لا تشعر ابنتها الآن بحجم المهانة التي توقع نفسها فيها، وأيضًا لن تشعر بعيون الذئاب التي قد تستغل طفلة تمشي في طريق مرسوم لها كي تخفيها عن الأنظار. تضيف علياء: "لم أكن أتخيل يومًا مثل هذا، كان زوجي يعمل في محلات بيع مواد كهربائية".
ذهبت المحلات، صمد لسنة وسنتين هنا وهناك، ثم سقط مستسلمًا للدرجة التي لم يعد يعي فيها أن الخبزة التي يأكلها في وقت متأخر من الليل، هي من عرق طفلته، الطفلة التي حولتها الحرب لدمية بائسة لا تفهم بالضبط لماذا تمد يدها، ولماذا عليها أن تكرر بعض الكلمات.
تقول نور (اسم مستعار)، إنها مارست التسول قبل أن تنفجر الحرب، في العام 2013، كانت تبلغ من العمر 11 سنة، ثم مع انفجار الحرب بدا وكأنها حصلت على خبرة في الأوضاع التي ستخلفها الحرب بعد ذلك.
أدركت للمرة الأولى أنها أصبحت أكثر من متسولة في الجولة التي تقف فيها، أصبحت عرضة لنظرات غريبة، جملة من هنا وأخرى من هناك، وأيضًا أشخاص يستدعونها يقولون لها كلامًا فيه تلميحات غريبة من على مقود سياراتهم ويتحسسون أجزاء من جسدها ثم يمنحونها ألف ريال دفعة واحدة
لم يكن مهمًا متى تعود للبيت، عادة كانت تعود عند العاشرة ليلًا، تفرغ ما بجعبتها لوالدتها، أحيانًا ألف وأحيانًا أقل أو أكثر. والدتها امرأة متعبة، تظل جالسة في زاوية المكان، عمرها في منتصف الأربعينيات، كما تقول.
زوجها -أي أبو الفتاة المتسولة- انزلقت به دراجة نارية إلى أمام قاطرة في منطقة تسمى "باب الفلاك" بذمار. كان ذلك في عام ٢٠١٠. تركها مع طفلتها في بيت مستأجر مكون من غرفتين وحمام فقط، حتى إنه لا يوجد به مكان مخصص لصنع الأكل (مطبخ)، لذلك اكتفوا بـ"شولة"، وهي أنبوبة غاز صغيرة مربوطة برأس، مركونة في نهاية الغرفة، لصنع وجبة واحدة أو شاي.
أما الأم بعد أن مات زوجها، كان مرضها المزمن قد بدأ بالظهور. مضت باتجاه خيار واحد وهو الزواج بأخي زوجها، في اعتقاد منها أنه سيحمي الطفلة، لكن مع الوقت، كان مجرد رجل متظاهر، فعل ما فعل ليحصل على بعض المديح، ثم إنه لاحقًا كان يتاجر بهذه المسؤولية أمام الناس ليحصل على بعض المال، والذي يصرفه في القات والسيجارة، تقول الفتاة إنه لم يؤذِها يومًا، لكنه أيضًا لم يكلمها يومًا.
قساوة الحرب
أدركت للمرة الأولى أنها أصبحت أكثر من متسولة في الجولة التي تقف فيها، أصبحت عرضة لنظرات غريبة، جملة من هنا وأخرى من هناك، وأيضًا أشخاص يستدعونها يقولون لها كلامًا فيه تلميحات غريبة من على مقود سياراتهم ويتحسسون أجزاء من جسدها، ثم يمنحونها ألف ريال دفعة واحدة.
تضع جدولًا ما في رأسها، وتعمل وفق ذلك، ليست مهتمة بمستقبل، لم تفكر به يومًا؛ لا تفهمه. لقد تأكدت بنفسها أنها ليست الوحيدة، هناك العشرات، ربما المئات، الحرب ساهمت في تقديم كل الوجوه الجديدة أغلبها تعاني من حالات اضطراب وقلق واكتئاب.
ذهبت نور بعيدًا، وتركت هذه القصة كعلامة واضحة تبدو كما لو كانت شيئًا متخيلًا، إنما حين تدرك أنها الحقيقة فأنت تصاب بحالة تصلب ذهني وعاطفي شديد.
لقد استولت هذه الحرب على كرامة الكثيرين وكياناتهم الاجتماعية، وحولتهم إلى أمثلة على قساوتها وبشاعة أطرافها، إن قصصهم تجسيد لمعاني انهيار الدولة ومؤسساتها ومقوماتها، وتعبير لنسيان مفهوم السلام في زمن لا يعرف سوى التحدث بلغة الموت والتجويع وحمل السلاح.
في مكان آخر، ستقول يهون الأمر، إنما وأنت تعرف تركيبة هذا المجتمع، تعرف كم أن هذا الطريق بقدر سريته، إلا أنه موحش ومظلم ومدمر، لا عودة أبدًا، ثم تجد أن التساؤلات حول سيناريوهات بديلة هو أمر مثير للشفقة.
هذا ما تفعله الحرب! ولا يمكن إصلاحه أبدًا حتى لو انتهت الحرب؛ لأنه متعلق بأشياء لا يمكن الإفصاح عنها، المجتمع يعتبر الحرب أكثر أخلاقية منها، لكن لا شيء أقذر من الحرب، هذا صحيح، إنما لن يكون هذا صحيحًا بالمرة في مدينة ذمار.