التجربة الإبداعية عند وليد دماج

نتاج مباشر وتجلٍّ واضح لتجربته القرائية
د. همدان دماج
October 16, 2022

التجربة الإبداعية عند وليد دماج

نتاج مباشر وتجلٍّ واضح لتجربته القرائية
د. همدان دماج
October 16, 2022

(قراءة تمهيدية)

الكتابة عن تجربة وليد دماج الأدبية بالنسبة لي شائكة جدًّا؛ لأسباب عديدة متعددة، أبسطها أنّ وليد صديق طفولة وحياة وكلمة وموقف، وكان رحيله المفاجئ صدمة قاسية للعديد من رفاقه وأصدقائه، وأعْقَدها أنّ وليدًا كان ما يزال في بدايات مسيرة عطائه الإبداعي، وما تزال تجربته الكتابية في أوج فتوّتها، ومقتبل ربيعها، على الرغم من الشهرة التي أحرزتها، خاصة عبر رواياته الأربع: "ظلال الجفر"، "هُمْ"، "وقَشْ" و"أبو صهيب العزي"(1)، وهي روايات من العيار الثقيل، إذا ما صح التعبير، كتبها في فترة زمنية قصيرة لا تتعدى الثماني سنوات. ولهذا كلما حاولت الحديث عن وليد، وعن حياته الحافلة بالذكريات والمواقف، وتجربته الإبداعية الكبيرة، تحتشد الكثير من الرؤى والأفكار والشجون والتفاصيل، ولا أجد من أين أبدأ ولا أين أتوقف. 

سأقدّم في هذا المقال، قراءةً تمهيدية لبعض السمات الكتابية للروائي المبدع وليد دماج، وهي وإن لم تأتِ في سياق بحثيّ بالمعنى الأكاديمي، إلّا أنّني آمل أن تفضي إلى ما يمكن أن يكون مفتاحًا أو عتبة لدراساتٍ وبحوثٍ قادمة عن تجربته الإبداعية، فمجمل ما كُتب عن هذه التجربة حتى الآن ما يزال قليلًا في حقّها.  

القراءة وسعة الاطلاع

كان وليد شغوفًا بالقراءة، وكانت مداركه المعرفية واسعة، وذاكرته متقدة، وثقافته غزيرة متنوعة، وكان من القلائل الذين يمتلكون مثل هذ الرصيد المعرفي الكبير ولا يظهرونه إلّا في أماكن وأوقات معينة من غير تصنُّع أو استعراض، مثلًا في كتاباته الروائية أو البحثية، أو أثناء نقاشات تجمعه مع نخب متخصصة في مجالات الفكر والتاريخ والسياسة.

وفي هذا السياق، أستطيع أن أجزم أنّ تجربة وليد الكتابية كانت نتاجًا مباشرًا، وتجليًّا واضحًا، لتجربته القرائية، إذا ما صحّ الوصف، وهي تجربة تستحق التوقف عندها وتسليط الضوء عليها، ذلك أنّها شكّلت له البوابة الرئيسية لعالمه الكتابي، ويستطيع قارئ وليد أن يجد هذا واضحًا في كل أعماله الروائية المنشورة بلا استثناء، وهي الأعمال التي جاءت مترعةً بسيل جارف، وغزارة كبيرة، من المعلومات الموسوعية، والتحليل، والرأي، بل وبما يمكن أن يشكّل سلسلة من المحاضرات والمداخلات في التاريخ والفلسفة والفنّ والأدب والسياسية.

كتب وليد أيضًا الشعر العمودي الكلاسيكي، وإن كان مُقِلًّا فيه، كما كان مجيدًا للشعر الشعبي والغنائي، وكان يشارك باقتدار في المساجلات الشعرية والزوامل، وأشعار الحزاوي، وغيرها من صنوف الشعر الشعبي اليمني.

كل هذا كان نتاجًا لجهد كبير وهائل في البحث والتقصّي والتطواف في عالم المعرفة المتعددة، والقراءات الكثيرة جدًّا. فعلى سبيل المثال، قبل أن يكتب روايته الأولى "ظلال الجفر"، قرأ وليد كثيرًا في التصوف، واطّلع على كل أعمال ابن عربي، والحلّاج، والسّهْرَوَردي، وجلال الدين الرومي، وابن علوان وغيرهم(2). وأثناء كتابته لروايته الثانية "هُمْ"، قرأ كثيرًا في علم النفس والشعوذة وما له علاقة بالجنون. أما في روايته "وقش"، فقد ظلَّ وليد منكبًا لأكثر من عشر سنوات، على البحث والتقصّي عن فرقة "المُطَّرِّفية"، موضوع الرواية الرئيسي، وعن أحداث ذلك الزمان، وما حدث لهذه الجماعة من إبادة على يد الإمام عبدالله بن حمزة، وفي روايته الأخيرة المنشورة "أبو صهيب العزي" درسَ كل ما يتعلق بالحركات الإسلامية السياسية، والجماعات المتطرفة، وتتبع تفاصيل الأحداث والوقائع الخاصة بها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. 

الرواية كأداة للتثقيف والتنوير 

من المؤكّد أنّه لا يمكن لقارئ وليد دماج، مهما اختلفت ذائقته السردية، أو مستواه الثقافي، أو مرجعيته الفكرية، إلّا أن يخرج بحصيلة مدهشة من الثقافة والمعلومة والفكر، سواء في الموضوع الرئيسي الذي تتطرق له رواياته، أم في قضايا أخرى متفرعة ومتعلقة بهذا الموضوع. 

والحقيقة أنّ هذه السمة تُعتبر مجالًا خصبًا لدارِسِي أدبه، لأنّ وليد بوعيه النقدي كان يعرف أهمية الموازنة بين العمل التثقيفي من جهة، والعمل الإبداعي والدرامي السردي من جهة ثانية. لقد كانت هذه الموازنة محور نقاشات كثيرة معه، لكنه ككاتب، منغمسٍ بالهمّ الفكري والوطني العام، كان يستوطنه ذلك الشعور الملتزم بأهمية المشاركة في الفعل التنويري، وكان مستعدًا أن يخوض غمار هذه التجربة بإشكالياتها بجسارة، وبلا تردد، من أجل هذا الالتزام، وما كان يراه واجبًا، ولكي تصل رسالته للآخرين كما أرادها، وبالأسلوب الذي يرضيه.  

وفي هذا الصدد، يجدر بنا أن نشير إلى إنجازه البحثي، الذي يكاد يكون غير معروف عند متابعيه وقرائه، فلوليد عددٌ من الدراسات والمقالات البحثية التأصيلية المهمة التي -للأسف- لم يكرّس وقته من أجلها، بل يمكننا القول إنّه أنجزها فقط، على قدر أهميتها، خدمةً لمشروعه الكتابي الأمّ، ألَا وهو الرواية؛ فالعديد من هذه الأبحاث كان ينجزها، ويشارك بها في ندوات مختلفة، لكن كانت عينه دائمًا على ما يمكن أن تضيفه هذه الدراسات والأبحاث إلى مشروعه الروائي الذي يشتغل عليه، أو لنقل إلى المشاريع الروائية التي كان يشتغل عليها، ذلك أنّ وليد كان يقوم بكتابة أكثر من عمل روائي في الوقت نفسه، وهذا أمرٌ غير معتاد حقًّا، ويستحق الوقوف عنده في قراءة أخرى. 

العفوية الصادقة وأثرها عند المتلقي

كان وليد على المستوى الشخصي، لمن عرفه أو قابله، عفويًّا صادقًا، بسيطًا، مرحًا، ممازحًا، ولهذا كان يبدو للكثيرين أنّه شخص غير مبالٍ، لا يجامل ولا يتردّد في قول ما يريد دون حساب للتعقيدات الاجتماعية أو حتى السياسية المتعارف عليها التي طالما رفضها، سواء في أعماله أو مسلكه الشخصي. والحقيقة أنّ هذه العفوية كانت جزءًا من شخصيته الثورية الثائرة، وقد انعكس هذا على تجربته الأدبية، وعلى مواقفه من المجتمع والعالم والوجود. 

كان وليد يكتب من القلب، بعفوية صادقة وانسياب طبيعي، لا يتصنّع ولا يكترث للكثير من الاشتراطات الفنية أو الموضوعية، ولهذا تجد أنّ ما يكتبه كان يصل للقارئ بنفس الانسياب والصدق، وهو ما عبّرت عنه ردود الأفعال المختلفة التي حظيت بها أعماله، خاصة الروائية منها. كان نموذجًا للشائع من القول: "ما يخرجُ من القلب يصل إلى القلب"، وهي سمةٌ لا نجدها في الكثير من كتّاب اليوم الذين اهتمّ بعضهم بتقنيات الكتابة الإبداعية، والحبكات الدرامية، أكثر من اهتمامهم بصدق التجربة الشعورية الإبداعية والإنسانية. 

رحلة التجريب والاختبار الإبداعي 

بدأ وليد رحلته الإبداعية بكتابة الشعر، ثم القصة القصيرة ومقالات الرأي، ثم أخيرًا الرواية، وهذا التدرج مألوفٌ بطبيعة الحال لدى أدباء جيله من كتّاب الرواية اليمنية الذين وصلوا إلى عالم الرواية من بوابة الشعر والقصة القصيرة، بما في ذلك كاتب هذا المقال. 

إنّ الحديث عن التجربة الشعرية لوليد دماج موضوعٌ يحتاج إلى مقال خاص بحدّ ذاته، لكن يمكننا أن نشير بإيجاز إلى بعض خصائصها العامة، ومنها أنّ وليدًا كتب الشعر بمختلف مدارسه الفنية، وإن كان الشعر الحر (أو قصيدة التفعيلة) هو الأسلوب الشعري الذي طغى على مجمل أشعاره، وجاءت نصوصه الشعرية متأثرة كثيرًا بالسياب والمقالح ودرويش وأحمد قاسم دماج، كما نرى في هذا المقطع الجميل من قصيدة بعنوان "وهُم المرايا"(3):   

مضى... كيف للدمعِ

أن يستحثَّ الجراح

وتحت الجلود

البقايا الأسيرة بالخوف

همسُ الرياح

مضى ثم لاذ بأسرارهِ

واختفى في النواح

فكيف ارتدتكَ الأساطيرُ

في غفلةٍ من ندائي؟!

وكيف عبرتَ سهادي

على صهوةِ الأمنياتْ؟!

كتب وليد أيضًا الشعر العمودي الكلاسيكيّ، وإن كان مُقِلًّا فيه، كما كان مجيدًا للشعر الشعبي والغنائي، وكان يشارك باقتدار في المساجلات الشعرية والزوامل، وأشعار الحزاوي، وغيرها من صنوف الشعر الشعبي اليمني. 

أتذكر مرة ذهبت فيها معه، برفقة أبناء عمومتنا، إلى "خولان" لحضور عرس أحد الأصدقاء، وما أن وصلنا حتى استُقبلنا بزاملٍ موجّه لنا، وبأسمائنا، وكان علينا آنذاك، كما جرت العادة، أن نرد بزاملٍ مقابل. أتذكر أننا التفتنا لوليد مستنجدين، وبالفعل أنجدَنا مرتجلًا الردّ بأجمل عباراتٍ ممكنة. 

أمّا ما يخص تجربته في القصة القصيرة، فهي دون شك تجربة ينبغي التوقف عندها بشكل خاص، وأنا أعتقد أنّ الرواية، التي أصبحت شغف وليد الأول والأخير، قد ظلمت كثيرًا تجربته القصصية، ليس عند القارئ فحسب، كما هو الحال مع بقية الكتّاب، ولكن عند وليد نفسه. 

لقد كان لنجاح روايته الأولى "ضلال الجفر"، وفوزها بجائزة أدبية معروفة(4)، تأثيرٌ كبير في تعزيز واستيطان شغفه بالكتابة الروائية، ولهذا نجد رأيه في الرواية واضحًا، إذ يقول في إحدى المقابلات: "الرواية فنٌّ خلّاقٌ يكاد يبلغ بخيال الإنسان حدّ الكمال، لأنه يتمكن عبرها من خلق عالم كامل وحيوات كاملة؛ ووظيفة الروائي هو خلق انطباع الإخلاص للتجربة الإنسانية، لذا لا يمكن أن يتشابه الفنّ الروائي مع أي جنس من أجناس الأدب الأخرى"، مضيفًا: "الرواية مجال التحدي الذي وجدت نفسي فيه، وعليَّ فعلًا أن أترك كل شيء في سبيلها، فالرواية تستسلب كاتبها ولا تقبل في رأيي بشيء ينافسها أو يزاحمها، لذا تجد أنّ الكثير من الروائيين الذين بدؤوا بكتابة الشعر، تفرغوا بشكل كامل للرواية، وهجروا الشعر أو تركوه"(5). 

لقد كان شغف وليد بالرواية سببًا في توقفه عن كتابة القصة القصيرة، بعد رحلة لا بأس بها، على الرغم أنه كتب القصة بحرَفية عالية، وكنتُ دائمًا ما أحثّه على عدم إهمال كتابة القصة القصيرة، أو هجرها، لأنّني أعرف تمامًا كم كان بارعًا فيها، فكل قصصه القصيرة المنشورة، أو تلك التي اطّلعتُ على مسوداتها، مدهشة وذات مستوى عالٍ جدًا لا يقل أبدًا عن مستوى كتابته للرواية، إن لم يكن متجاوزًا لها. وربما سيحالفنا الحظ أن نحتفي يومًا بصدور مجموعته القصصية ليستمتع بها قرّاؤه ومعجبوه، ولكي تكتمل لدى نقاده ودارسي أدبه حلقة أخرى مهمّة من مسيرته السردية البارعة. 

في السمات الأسلوبية 

لوليد، شأن الكثير من كتّاب السرد المتميزين، سماتٌ أسلوبية خاصة، سواء على مستوى اللغة الرفيعة التي كتب بها، والتقنيات السردية التي استخدمها، أو على مستوى الانغماس الشخصي مع الخيال، وتقمص الشخصيات، واستدعائه الدائم للموت والغيب والعالم الماورائي، وهي مجالات خصبة للدرس والتنقيب، ولعلي أذكر إحداها هنا بإيجاز، آملًا أن يفتح هذا المجال لاهتمام النقاد والدارسين وتحفيزهم على تتبع هذه السمات، وهي سمة اعتماده في كل أعماله الروائية والقصصية، حسب ما أعرف، على الراوي الأنا، أو الراوي بضمير المتكلم، حتى عندما ينوّع في أصواته الساردة، أو يستنطق الجمادات ويشخصنها، كما في روايته "وَقش"، حيث يتحدث بلسان عدد كبير جدًّا من الشخصيات، أو حتى بلسان الجمادات والأمكنة. 

المعروف أنّ هذا النوع من الراوي له تبعاته، ومميزاته، وقيوده أيضًا؛ فالراوي عندما يتحدث بضمير الأنا السردي لا يستطيع أن يقول أشياء كثيرة غير تلك التي يراها أو أدركها، مقارنة بالراوي العليم مثلًا؛ لكن وليد على الرغم من عوالم رواياته المعقدة والممتدة الأزمان والأماكن والخيال، كان مصمّمًا على استخدام هذا النوع باعتباره وسيلته الخاصة التي يعبّر من خلالها عن ذاتيته السردية، ورؤيته الفنية ورسالته الفكرية، ونوع الأثر الذي يودّ إيصاله لقارئه وتحقيقه في وجدانه. لكأنه بإصراره على استخدام الأنا السردي كان يريد أن يقول لنا: أنا السارد لا أحد غيري، أنا البطل، أنا الجُرمُ الصغيرُ الذي انطوى فيه العالمُ الأكبر... أو ربما بكل بساطة: أنا وليد دماج. 

هوامش

1- "ظلال الجفر"، دار الآداب، بيروت 2013م. "هُمْ"، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، 2016. "وقش، هجرة الشمس"، ط 2، دار خطوط وظلال، عمّان، 2022. "أبو صهيب العزي"، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، 2019. 

2- مقابلة مع وليد دماج، دار الهلال، 18 أغسطس 2022، على الرابط:  https://darelhilal.com/News/1395617.aspx

3- مجلة غيمان، العدد الخامس، صيف 2008. http://www.ghaiman.net/nesoos/issue_05/wahm_almaraya.htm 

4- الجائزة الثالثة في الرواية، الدورة السابعة لجائزة "دبي الثقافية" للإبداع للعام 2010-2011.  

5 – مقابلة مع وليد دماج، دار الهلال (مصدر سابق). 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English