الجامعة والشلليات التمزيقية

كيف لها أن تؤهل صناع موازين العدل خارجها؟!
د. نجيب الورافي
August 2, 2024

الجامعة والشلليات التمزيقية

كيف لها أن تؤهل صناع موازين العدل خارجها؟!
د. نجيب الورافي
August 2, 2024
.

يُمنح الباحث الأكاديمي في نهاية مشواره العلمي درجةَ دكتوراة الفلسفة في تخصصه، وهو ما يعني بلوغه مستوى فلسفيًّا حكيمًا يُحصّنه من الزلل في القول والفعل، ويمنحه مرتبة المثال والقدوة في مجتمعه. يعود الأكاديمي لينضوي في مؤسسة علمية، هي الجامعة، ويقع عليه الامتثال لقوانينها، والعمل وفق المعايير التي تُقرّها هذه القوانين. 

الجامعة مفهومٌ لكيانٍ مؤسسيّ لا يقل اعتبارية عن مقام أكاديميّيها ومنتسبيها، وأول أنساق هذا المفهوم هو معناها الجامع، بينما النسق الآخر فيرتبط بوجودها ذاته، إذ هو تجسيد لاستراتيجية وطنية للبلد، تتجلى فيها الوحدة وعدم التمييز. 

تحرص دول العالم على أن تكون الجامعات عنوانًا لوحدة الأمّة، ولتحقيق هذا الهدف تتعمّد الاقتصاد في بنائها وتوزيعها، بحسب الحاجة سكانيًّا وجغرافيًّا، وإلا لكانت دولٌ ثرية قد أنشأت جامعات عددَ الرمل والحصَى والتراب. فهناك دول صغيرة غنية، ليس لها سوى جامعة حكومية واحدة.

ليس تمثيلًا تمييزيًّا 

خطة إنشاء الجامعات تتأسس على تلبية حاجة الجغرافيا السكانية، وليس تمثيلًا تمييزيًّا لها، ولا تعبيرًا عن هُويتها الصغيرة الضيقة. هناك دولٌ تُعِدّ خطةَ القبول والتوزيع لطلابها مركزيًّا وإجباريًّا، بحسب معدل الثانوية؛ بهدف تحقيق الدمج الاجتماعي والوطني، فالمستهدف هو المواطن غير المميز بجهة ولا حزب ولا مذهب ولا طائفة، الإنسان المنتمي للأمة الواحدة أو للكوكب. 

معظم دول العالم نجحت في أن تتجاوز بجامعاتها معضلات الواقع المحلي وإشكالاته، فارتقت بمنظومتها المعرفية إلى رتبة تأهيل الإنسانية في اختلافها وتنوّعها، لتفاخر بأنّ رحاب حرمها أصبح فسيفساء إنسان أبيض وأسود وأفطس، ومسلم ويهودي وبوذي، ولا ديني ويساري ويميني وليبرالي وعلماني، ورفعت عنها القبضات والقيود من أيّ نوع، وتجاوزت بها خطوط التمييز والتصنيفات اللاوطنية، واستهدفت استيعاب الإنسان المعرفيّ من أيّ مكان. 

على مدى عقود ماضية، خضعت الجامعة اليمنية لسلطة السياسي المستبِد، وأشرفت على إدارتها دوائر أمنية بقبضة حديدية، كان لها اليد الطولى في تطويع هذه المؤسسة التي تم النظر إليها باعتبارها تقود خط الوعي المعاكس لسلطة النظام، لا كونها مؤسسة وطنية يقع على عاتقها مسؤولية البناء والتنمية وتحقيق الأمن الوطني بكل أنواعه. 

كان جهاز الأمن الوطني، ثم السياسي، بالمرصاد للمعارضين وأصحاب الرأي السياسي المخالف، وتم تصنيف الأكاديميين والطلبة والإداريين إلى صنفين: موالين مخبرين كتّاب تقارير جلادين من جهة، ومعارضين خصوم من جهة ثانية. 

الآن، تغير واقع الحال السابق، لكن إلى ما هو أسوأ؛ وذلك بخلق واقع حال مبتكر ومستحدث، حلّت الشلليات، وهي أكثر الكيانات تخلُّفًا وخطرًا على النظام المؤسسي، حلت لتكون بديلًا تمزيقيًّا، بديلًا استخباراتيًّا أكثر سوءًا وصلفًا! تستمد كل شلة وجودها ومنطقها من مرجعية هزلية "شيلني أشيلك"، لتغدو هي المرجعية وبيدها الحل والعقد، وارتهنت الوظيفة والموقع الأكاديمي إلى تصنيفٍ مؤسَّس على المزايدات، وحلّت الدسائس والأكاذيب، محل التقييم النزيه والاختيار الموضوعي القائم على الكفاءة والقدرة في الأداء.

يفترض بوعي الأكاديمي أن يسمو فوق (الجغرفة) والشللية بأيّ مسمى، كما يفترض بجامعته أن تتمثل فلسفةُ وجودها وكادرها وقيادتها وخطط التعليم وطبيعة المخرج خارطةَ الوطن الموحدة الجامعة، وأن تكون منبرًا لرفض كل الانحيازات التافهة وردم الهوّات في مقابل تجسيد هُوية تمثل الجميع، ومعملًا لإنتاج الدواء الناجع لكل مرض خارج أسوارها.

موقع الأحق والمستحق

تحوّلت الجامعة إلى مرتع خصب لشللٍ من صنّاع دسائس ومؤامرات بهدف تحقيق مكاسب مادية شخصية. وجوهٌ قديمة حديثة اعتادت ارتداء أقنعة الرياء والزيف، أخطبوط الفساد التاريخي والمزمن، فبغطاء الوشايات والنكايات يمارس هؤلاء دورهم، وبدافع الحفاظ على مصالحهم يفرضون شروطهم من موقع الأحق والمستحق.

هذا الوضع غير المؤسَّسيّ المشوّه، تنامى عنه اختلالٌ في أكثر من مجال؛ في الأداء والمُخرَج التعليمي، وفي اختيار الكفاءات الأكاديمية والقيادية. والأدهى من ذلك كله، خَلْقُ تفاوتٍ في الجانب المعيشيّ بين أفراد شريحة واحدة ينتمون إلى مؤسسة واحدة. واستغلالًا لظروف الحرب، وفي ظل انقطاع الراتب، غدا الوضع الجامعي قارًّا بين فئة قليلة، يحتكرون الموارد المالية بطرق مشروعة احتيالية أو غير مشروعة، بل ويستحوذون على الدخل المالي، كلًّا بحسب المنصب الذي يشغله، كأنه ملك يمينه، وآخرون وهم الغالبية، يسفّون الفاقة والجوع، حبيسِي جدران بيوتهم، باختصار؛ غدا وضع الكادر الجامعي متفاوتًا بين بضع عشرات من قطط سمان وبين حشود عجاف جياع لا يجدون ما يسدّ رمق أبنائهم. وإذا كانت الجامعة، هذه حالها في اختلال ميزان العدل داخلها؛ فكيف لها أن تؤهِّل صنّاع موازين العدل القويم خارجها؟! فاقدُ الشيء لا يعطيه.

على هذا الأساس الانتهازي المصلحي، وخارج قوانين الجامعة ونظامها، توضع المعايير في تعيين الكفاءات والمواقع القيادية! اختيار شلليّ بعناوين مختلفة، إنه ظن القيادات العليا -وبعض الظن إثم وبلاهة- أنّ سدّ شهيات هذه الشلل المريضة عن طريق الترضيات، هو ضمانة لوضعٍ جامعيّ طبيعيّ آمِن ومستقرّ، بينما هو الذروةُ في القلق وفي تجسيد التجزئة القاتلة والوعي العميق بها.

منبر لرفض الانحيازات

يفترض بوعي الأكاديمي أن يسمو فوق (الجغرفة) والشللية بأيّ مسمى، كما يفترض بجامعته أن تتمثل فلسفةُ وجودها وكادرها وقيادتها وخطط التعليم وطبيعة المخرج خارطةَ الوطن الموحدة الجامعة، وأن تكون منبرًا لرفض كل الانحيازات التافهة، وردم الهوّات في مقابل تجسيد هوية تمثل الجميع، ومعملًا لإنتاج الدواء الناجع لكل مرض خارج أسوارها.

"من اين الخبير؟"؛ سؤالٌ يصادفك يُشعرك بالصداع والغثيان، وأنت تسمعه يتردد، يمهد لتعارف عابر داخل باص أو في رصيف وسوق، وصار لازمة كلامية في أفواه أفراد نقاط التفتيش، وما أكثرها، وفي تحديقات عيونهم لخانة المنطقة في بطاقتك الشخصية، وقبل أن يتبيّنوا اسمك ومن تكون، يكون لزامًا عليك أن تجيب، وإلا فأنت شاذّ وخارج عن الشذوذ المعتاد الذي أصبح هو القاعدة. 

يتمثل الوعي الأكاديمي، في أن يمتلك كلُّ قياديٍّ مسؤول تفكيرَ العالِم الحكيم؛ يسعى للارتقاء بجامعته إلى مستوى التمثيل الوطني الجامع، ينبذ النظرة الضيقة، يحافظ على وحدة مؤسسته، فلا يهوي بها إلى حضيض الشللية، وينأى بنفسه عن أن يقف على بابها كعسكري حراسة يُجيل النظرات سائلًا الداخلين والخارجين: "من اين الخبير؟".

المفارقة الباعثة على الحسرة، أنّ المقصود بالخبير في لهجتنا هو الشخص المجهول عابر السبيل، وليس الخبير العلمي، أستاذ الجامعة، العالِم الرشيد.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English