خلال العقود الماضية، شهدت اليمن دورات من التحولات والصراعات، التي تعددت لافتاتها، وأطرافها، وتعددت فيها طبيعة المنتصرين والمهزومين في جولاتها، وراكمت في محطاتها إرثًا ثقيلًا من الملفات المُرحلة، جيلًا بعد جيل دون معالجة، ولا حتى قراءة واعية.
بمعزل عن سرديات المنتصرين في كل جولة من جولات تلك الصراعات، فالواضح بجلاء، لكل باحث متجرد، أنها خلقت جملة من التشوهات والإشكاليات الوطنية العميقة، التي لم تقتصر آثارها الكارثية على النطاق الزمني والجغرافي لمجرياتها فيما مضى من تاريخنا الوطني، بل امتدت للفتك بحاضرنا، وستعصف بمستقبلنا كذلك، ما لم نتدارك الأمر، بالحذو حذو المجتمعات التي تصدت بشجاعة لإرث الصراعات السياسية ببحث وتدقيق كافة ملفاتها، ومعالجتها بشجاعة ومسؤولية وإيثار، ووضع كافة الضمانات لخلق قطيعة مع كل الممارسات التي خلقت تلك التشوهات، وهي تجارب من شأن دراستها واستلهامها، تجنيب مجتمعنا، أكلافًا باهظة، نحن أحوج ما نكون لتجنبها.
تاريخنا السياسي، سلسلة من دورات التظالم والتغالب التي أخذت أشكالًا مختلفة من دورة لأخرى ومن مكان لآخر، تتغير في كل دورة منها هوية الجناة والضحايا والجهة والمكان، فيما كان الثابت فيها هو الإرادة الجمعية لدى القوى المؤثرة والفاعلة على الأرض ومنابرها، والمنافحين عنها، فكل قوة، وكل فاعل، يرى الأخطاء في ممارسات الآخر، لديه إدانة واضحة، ومُدخلات معلوماتية وقيمية، وحُجج منطقية ومتماسكة، لكنها تتلاشى كلها مع أول واقعة مُطابقة تمامًا يباشرها طرف ينتمي له، أو طالت طرفًا يختلف معه، ولا تبقى سوى التبريرات ذاتها التي كانت تُرفع في وجه إدانته ومعطياته ومُحدداته حين كان في الموقع المقابل.
لدينا تراكم حافل بعمليات التبادل الدوري لموقع الظالم وأدواته وتبريراته وطرائقه، وموقع المظلوم ومعاناته وصرخاته، وهو تراكم لم يتحول في وعينا الجمعي إلى تدابير فعّالة تخلق قطيعة مع سلوك الظلم، بل على العكس من ذلك، تتقوى فيه خبرات مباشرة الظلم بصورةٍ تُكرِّره، وتوسع دائرته وضحاياه.
إجمالًا، وفي كل ما مر من جولات صراع، قديمها وحديثها، تغيرت الوجوه، حُدثت التقنيات، أُضيفت أدوات جديدة، وبقيت ثابتة مضامينُ الظلم، والإرادات الآثمة، والتبريرات، والمصطلحات، والشعارات، والهتافات، والوعود، والنتيجة الأكيدة: دورة جديدة-قديمة من المظالم، ضحايا جدد، مغبونون جدد، مجتمع ضعيف غارق في التخلف، والصراعات، والدم، والخطابة، والوعيد بجولات جديدة لتبديل المواقع بين الظالم والمظلوم.
ومنذ اندلاع النزاع القائم، عايش اليمنيون، حالة انهيار شاملة، أتت على الأغلب الأعم من المكاسب التي حققها كفاح أجيال من اليمنيات واليمنيون، قسمت اليمن بكل مجالاتها إلى دوائر من المتغلبين والمغلوبين، ومن المنتصرين والمهزومين، ومن المُهجِّرين والمُهجَّرين، ومن الجناة والضحايا، ومن المُحتجِزين والمحتجَزين، من الأثرياء الجدد والفقراء الدائمين، حالة علق فيها الملايين منهم قسرًا، في كنتونات تُحفر حدودها بالدم والبارود والضغائن والمظالم وأشكال الإكراه والتعسف، يتولى كِبرها يمنيون مثلهم، صاروا فجأة، مدججين بالسلاح والشعارات، منهمكون في بحث يومي منفلت عن وظائف التحكم بحياة نظرائهم في المواطنة، وفي تفاصيل حياتهم، طبقًا لما ترتجله أمزجة متقلبة، يصعب توقع سقف شطحاتها وتقليعاتها وإسفافها وتماديها ومتاهاتها، وعلق عشرات الآلاف من اليمنيات واليمنيين في ملاذات اضطرارية، على العودة لديارهم بأمان، في حين ضاقت بهم بلادهم المختطفة، على سعة أراضيها، عيونُهم وقلوبهم مفتوحةٌ على الأوضاع، يُمنّون أنفسهم بعودة قريبة إلى حياتهم، بيوتهم، أعمالهم، شوارعهم التي ألفوها وألفتهم.
الآن، وبعد ما يقارب عشر سنوات من الاحتراب العبثي والمدمر، وآثاره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإنسانية والحقوقية الكارثية، في وضع لا يسر صديقًا أو عدوًّا، والذي صار معه أوجب الواجبات على قادة كافة الأطراف اليمنية الفاعلة والوازنة في المشهد، الوقوف على مؤشرات الوضع الكارثي، الذي تشاركت في صناعته، والمبادرة بشجاعة ومسؤولية لكسر دائرته المُفرغة، لتفادي كل ما من شأنه مواصلة دفع اليمنيات واليمنيين، وكيانهم ووجودهم، إلى مستويات جديدة من التقويض والاستباحة والارتهان، والقيام بكل ما يلزم، للإسهام في إعادة اليمن إلى طريق الإعمار والبناء والنماء.
ما راكمه اليمنيون، على مدى سنوات طويلة، من موارد، وبُنى، وأصول، وفُرص، أُبيحت لنهش الأوليغارشيين الجدد، تحت حماية تشكيلات مسلحة، تحول قادتها من مجرد قطاع طرق وقتلة مأجورين، خارجين عن القانون، إلى حكام نافذين يستحوذون على المؤسسات العامة والخاصة، ويمتلكون المليارات.
محصلة عقد من المقامرات الطائشة، كافية لتبيان جُملة من الحقائق، لقيادات مختلف الأطراف، وهي كافية لتبادر طوعًا بتخليها عن الأوهام والأطماع المُرسلة، وأهم تلك الحقائق، أنّ اليمن أكبر من أن تُخضعه جماعة، أو تشكيل، أو حزب، شأن أي مجتمع، متنوع سياسيًّا، وثقافيًّا، وفكريًّا، ودينيًّا، ومذهبيًّا، واجتماعيًّا، وجغرافيًّا، وفئويًّا، واقتصاديًّا، ومتنوع في الأعراف، والتقاليد، والفنون، والمعتقدات، والأعراق، وأن هناك روابطَ أصيلة وثابتة وأبدية، بين عناصره ومكوناته المختلفة، أفقيًّا وعموديًّا، تجعل مصير بعضه، مربوطًا بمصير بعضه الآخر، مع استحالة إلغاء أي مكون، لأي مكون آخر، أو إخضاعه، ما يجعل العمل على إدارة ذلك التنوع، وفق مسار حوكمة كفؤ وفاعل، في تيسير حركة المصالح المشروعة، بصورة تحقق العدالة الاجتماعية، والمواطنة المتساوية، وسيادة القانون، كسبيل وحيد، لنعيش في هذا البلد، كإخوة، بدلًا من أن نواصل السير معًا في طريق الهلاك والاحتراب، كالحمقى، وفق تعبير مارتن لوثر كينغ.
التعنت بإبقاء اليمن يومًا إضافيًّا واحدًا من عمر هذا الوضع المشين، الذي دُفع إلى شراكِه قسرًا، فيه من الخسائر المهولة المؤكدة على وجه اليقين، بالنسبة لعموم اليمنيات واليمنيين، على كافة المستويات، ما يجعل من أيّ مكاسب مزعومة بمواصلة المقامرة في مسارات الاحتراب، محض هُراء فارغ، مهما نُمق بالحديث عن كرامة اليمنيات واليمنيين، وصالحهم، جميعهم، أو جزء منهم، ومسلكًا عابثًا، لا يعدو عن كونه أحد عناصر مواصلة جريمة السطو والاستحواذ الفاضح، على ما راكمه اليمنيون، على مدى سنوات طويلة، من موارد، وبُنى، وأصول، وفُرص، أُبيحت، لنهش الأوليغارشيين الجدد، تحت حماية تشكيلات مسلحة، تحول قادتها من مجرد قطاع طرق وقتلة مأجورين، خارجين عن القانون، إلى حكام نافذين يستحوذون على المؤسسات العامة والخاصة، ويمتلكون المليارات.
بكل ما اجترحَته الصراعات الدامية والتحولات الحادة من أكلاف باهظة على كافة المستويات، فإن جذرها جميعًا، هو الصراع على السلطة، في ظل افتقار كافة القوى لرؤى ناضجة لمسار تحول سلس، ومتماسك، مسنود بتوافق مختلف مكونات المجتمع، صوب دولة حديثة، تقوم على بُنى مؤسسية راسخة، بمسارات آمنة للتداول السلمي للسلطة، في ظل حصر حق حيازة وسائل القوة المسلحة بمؤسسات الدولة المحتكمة لسيادة القانون، المحتكمة لمخاوف وهواجس مختلف فئات المجتمع، وتحقق العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص والتنمية المستديمة والاستقرار.
وبالضرورة فإن الوصول لخارطة طريق تحقق تلك المضامين، فإن ثمة حاجة وطنية ماسة للمبادرة لفتح مسارات لحوارات تأسيسية مكثفة حول مختلف الإشكالات والتصورات والمخاوف والهواجس والتطلعات والمصالح والضمانات، يساهم فيها أصحاب المصلحة من مختلف الأطراف والفئات والمناطق بهدف الوصول إلى تسوية تاريخية تضمن وضع حلول فعّالة لمسألة الصراع على السلطة والثروة وغيرها من المسائل ذات الصلة، وهو أمر يستحيل تحققه دون مراجعة ذاتية ابتداءً كمقدمة لخلق إرادة وطنية لدى مختلف الأطراف، ستتسخر لها حين توافرها كافةُ العوامل، وبدونها يستحيل إحراز تقدم حقيقي ولو تظافرت جهود العالم كله، فبها فقط أنجزت الكثير من المجتمعات تحررها الوطني، وبغيابها تلاشت الكثير من الأمم.