اختار أحمد زين في روايته "ستيمر بوينت"* ليلة الثامن والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني، لتكون مساحة سردية لمعاينة طويلة لصور مدينة عدن قبل يومين من استقلالها عن الإدارة الإنجليزية. مركز السرد في هذا العمل تكثف في جملة من الاستعادات للتاريخ الشخصي لثري فرنسي، وخادمه اليمني الفقير، لإنتاج سياق اتكائي يدعم تشظي الثنائيات في صورة المدينة من منظور لاحق صار فيه وعي التأليف بنزعته التهكُّميَّة فاعلًا ومتحكمًا بحضوره كراوٍ خارجي، لا يتوانى أحيانًا في إسقاط وعيه اللاحق على مسبوقات الأحداث.
أقل ما يقال عن الرواية، تقنيًّا، أنها تصير بفعل هذا التحكُّم، بناءً سرديًّا صارمًا، يرتكز بدرجة رئيسية على تعدد أنوات السرد ومصادرها، في مساحة زمنية قصيرة، استدعت إلى لحظتها الرئيسة المغلقة التي لا تتجاوز ليلة واحدة، سِيَر الشخصيات وأفعالها داخل الزمان والمكان، اللذان تقوم على (مبذولاتهما) التوثيقية، رواية شديدة الالتباس والخطورة.
أما الثنائيات بتقاطعاتها الحادة، تحضر في تاريخ المدينة، التي أرادها المؤلف أن تكون (راوية) أخرى لخصوصياتها التاريخية والثقافية، حتى عشيَّة استقلالها في الـ30 من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967.
الشاب اليمني والعجوز الفرنسي، اللذان تنهض على استرداد ذكرياتهما -على هيئة تداعيات صامتة، ومسموعة أحيانًا، في مساء الـ28 من نوفمبر 1967- الفكرة السردية الرئيسة ببناها الحكائية ومستوياتها المتعددة، يمثلان النواة الصلبة للعمل؛ فمن خلال مرآة كبيرة، تُظِهر للفرنسي وجه خادمه الشاب، الذي يقعد على طرف الصالة، في قصر العجوز المطل على مدينة التواهي وبحرها، في ذلك المساء البعيد، منتظرًا أوامر سيده، هي في ذات الوقت -أي المرآة- تُظهِر وجه العجوز الفرنسي وتعبيراته، التي يقرؤها الشاب بوضوح، ويعرف ما يجول بخاطر صاحبها، تمامًا مثلما يعرف العجوز ما الذي يستبد بتفكير الشاب حياله.
الثنائيات المتعارضة هذه -التي يمكن تمثيلها بـ: العجوز/ الشاب، الفرنسي/ العربي، الثري/ الفقير- تتحول إلى ذات واحدة، ممتلئة بحب المدينة، التي وفد كلاهما إليها من خارجها، والخشية عليها وعلى حياتهما أيضًا من النزعة الانتقامية للحكام الجدد عشية الاستقلال.
العجوز جاءها شابًّا فقيرًا من إحدى المدن بفرنسا، ليعمل مع تاجر من أبناء جلدته، كان عمل عنده أواخر القرن التاسع عشر أيضًا، الشاعر آرثر رامبو، الذي ظل العجوز يحتفظ بصورته على الجدار. يختزل الكاتب بهذا الترسيم الشخصياتي، السيرة الأقرب لأشهر تاجر أجنبي مر على مدينة عدن ومحيطها، وهو (توني بِس)، الذي يظهر هنا ملتبسًا بالشخصية الروائية؛ فرجل الأعمال، الذي اشتغل بكل شيء في عدن، ليتحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى إمبراطور المال والأعمال في المنطقة، تقول المصادر المتعددة عنه إنه "بدأ حياته موظفًا بسيطًا لدى تاجر البن الفرنسي "باردي" قبل أن يستطيع، في سنوات قليلة، الهيمنة على مفاتيح جنة عدن التجارية، وأن يمد تجارته في البر والبحر والسماء". وهذا ما حاول الكاتب طرقه في التخييل الروائي، لإعادة تقطير هذه الشخصية سرديًّا بكثير من الذكاء، دون الوقوع في التباسات السيرة الفعلية إلا فيما يخدم بنية الخطاب السردي، كون الشخصية الفعلية للفرنسي، كانت قد توفيت قبل هذا التاريخ بأكثر من ستة عشر عامًا من ليلة التداعي الكبيرة.
الليلة الطويلة، التي رآها العجوز دهرًا، تساوت فيها عنده رائحة الكحول الراقي برائحة البارود، المنتشرة في الأرجاء، ستنتهي باستيقاظ الشاب بعد غفوة طويلة بذهن مشوَّش، ولم ير العجوز على الأريكة ولم يرَ المرآة أيضًا، عدا شظايا منها رأى وجهه فيها مشوهًا وقريبًا من القبح
توفي توني بس في العام 1951، أما الشاب الذي قَدِم إلى عدن من الحديدة، منذ أعوام خمسة، بعد مقتل أبيه في حروب الجمهوريين والملكيين في شمال اليمن، وبإلحاح من جدته لأمه، فقد اندمج في المدينة إلى الدرجة التي حاول الذوبان فيها، وتمثُّل حياتها المدينية، معتبرًا أن حضورها المميز كمدينة حضارية في منطقة متخلفة، صار بفضل الإنجليز وفعلهم، وهو المأخذ الذي سيؤخذ عليه من قبل بعض أصدقائه الثوريين، وعلى رأسهم نجيب الذي كان يرى في قناعات سمير حيال المدينة وأثر الإنجليز فيها، نوعًا من الخيانة للقضية الوطنية.
لهذا حين يحضر الاثنان "الشاب والعجوز" في مرآة المساء الطويل، التي تنداح فيها تداعياتهما المفخخة بالخوف، سنرى كيف أن العجوز استبقى الشاب معه في تلك الليلة، التي وضع فيها للمرة الأولى عينه بعينه، ليس حبًّا فيه، وإنما من أجل حماية نفسه من أي هجوم محتمل على قصره من قبل الفدائيين؛ الرعب ذاته سيتلبس الشاب من الفدائيين المحتملين، الذين ربما أرشدهم إليه، باعتباره موالٍ للإنجليز، صديقه اللدود نجيب.
"المرآة ستبدو في لحظة من اللحظات، ليس مجرد سطح يعكس تعابيرهما، أو يكشف عن محاولة أحدهما سرقة نظرة إلى الآخر، تحولت شخصًا ثالثًا، قادرًا على دفعهما إلى مناطق من الكلام، لم يتخيل "سمير" أن يخوض فيها يومًا ما مع العجوز". [ص103].
أناتا الشاب والعجوز المتشظيتان، سيراهما الشاب واحدة، حين يتخيل أن العجوز يتفوه بما يريد قوله، وما ينبثق من أعماقه، كاعتراف مُرٍّ في لحظة انهدام كبرى تتحكم بمشاعرهما المضطربة.
الليلة الطويلة، التي رآها العجوز دهرًا، تساوت فيها عنده رائحة الكحول الراقي برائحة البارود، التي بدأت تنتشر في الأرجاء، ستنتهي باستيقاظ الشاب بعد غفوة طويلة بذهن مشوَّش، وجسد محطم، ولم يرَ العجوز على الأريكة حيث كان، ولم يرَ المرآة أيضًا، وحين همّ بالمشي اصطدم بحطام المرآة، ومن شظاياها اللامعة رأى وجهه مشوهًا وقريبًا من القبح، فلم يجد أمامه من حل سوى ترك المكان والهروب إلى اللاشيء، حيث تساءل وهو يسمع هدير الموج في المرفأ، كم طريق تؤدي إلى عدن؟ طريق قوافل البخور في الأزمنة السحيقة، أم مسالك الغزاة منذ الرومان إلى الكابتن هينس إلى...؟
في الليلة الطويلة هذه سيحتاج الغريبان إلى ما يجمعهما من دفء المشاعر، فهي المرة الأولى التي تقع عينا العجوز بعيني الشاب، الذي ظل يعمل لديه لسنوات دون أن يستطيع رفع بصره إليه، بفعل جملة الضغوط النفسية التي تصير فوارقَ ثقافية واجتماعية تكرست بفعل تعظيم ثنائية الأنا والآخر. غير أن هذه الثلمة التمييزية ستزول في هذه الليلة، التي سيحتاج فيها أحدهما للآخر، وإن المرآة بمدلولها، وبكونها الشخص الثالث، تصير أداة إذابة لجليد التباعد بين الاثنين، وحين تتشظى ويختفي العجوز، سيجد الفتى نفسه وحيدًا، ولا يعرف كم من الطُّرق ستوصل التائهين إلى عدن؟
بمقابل سمير، سيتظهر في النص "نجيب"، الثوري الذي عبَّر بصفاء عن لحظة الاندفاع، أو ما يسميها بـ"الوثبة الذي هو بدونها لا شيء وستجعله يتحدى كل الخطوط"، وأراده المؤلف أن يكون التمثيل لفكرة التمرد اليساري، في تماهيها النظري مع فكرة الكفاح المسلح على الأرض. لهذا كان يحضر كشخصية استعراضية تتعالى على ما حولها: "مرات يخيَّل لسمير أن الخلفية الحزبية لنجيب وراء غطرسته، وأنه لهذا السبب يتصوره يحتقرهم، حين يبدو له أحيانًا أنه لا يتحدث سوى مع نفسه، ومرات يفكر أنه يستميت لإقناعهم بأفكاره، وكأن مهمة غامضة موكلة إليه لجلب أتباع. قرأ "كامو وسارتر" فأصبح وجوديًّا، وما أن عثر على "فرانز فانون" حتى تحوَّل مناهضًا للإنجليز، وقبل كل ذلك قرأ "ماركس" فشعر أن الماركسية وجدت من أجله، وأخذ يتقلب في اتجاهاتها وتياراتها". [ص116 وما بعدها].
حضور ضاج مثل هذا، ربما لتبديد الصورة الأخرى لصاحبها، الذي عمل في فندق، يرتاده أوروبيون، في وظيفة "لا تتمثل فقط في تنزيه الكلاب في الأماسي ومساعدتهم على التبرز، وأحيانًا غسلهم في بقعة قصية من البحر؛ إنما أيضًا تلبية رغبات بعضهن الجنسية، نظرًا لما تظهره ملامحه أحيانًا من وحشية تروق لعدد من الأوروبيات اللاتي ينزلن في الفندق". [ص118].
القريب النفسي إلى شخصيتَي "سمير ونجيب" في النص هو "قاسم"، تاجر الأخشاب قبل الحرب العالمية الثانية، والذي سيعمل في أثنائها بالتهريب بحماية ضابط إنجليزي، أرغمه على تقديم خدمات غير أخلاقية له، وهي جلب فتيات فقيرات من الأكواخ للضابط، وشكلت آخرهن الندبة الأكثر غورًا في قلبه، فظل عشرين عامًا يبحث عنها بعد اختفائها "حتى تحولت رحلة العثور عليها إلى ما يشبه البحث عن معنى لحياته، بل عن حياته نفسها التي تاهت منه" غير متناسٍ تأنيب الضمير عن عملياته القذرة تلك، حتى بعد أن يصير صاحب مقهى، يرفض دخول المتعاونين مع الإنجليز إليها!
"آيريس" الإنجليزية الفاتنة، التي جاءت إلى عدن لدراسة انعكاس المكان على الجنود والموظفين الإنجليز، وجدت نفسها موضوعًا للدراسة، تعلَّمت من الشاب اللغة العربية، كمدخل لاندماجها في المجتمع، وخدمها صوفي عجوز، لم تغادر مخيلته كامرأة غواية يَصِّرُ على التخاطب معها بلغة إنكليزية غريبة، ليعطي حضورها في الرواية تلك المرموزات المستجلبة من الاسم أولًا، ومن تكثفها التعبيري عن حالة التمرد الداخلي للنخب الإنجليزية ضد السياسات الاستعمارية التمييزية لبلادها، وهي السياسات التي ليست أكثر من "خطوات ثقيلة تدعس عشب الأروح، وتسحق طلائع المستقبل لمدينة كعدن، وسوى ذلك لا شيء". [ص115].
من تلك الأحداث الكبيرة التي تناولتها الرواية، زيارة الملكة إليزابيث لعدن، ومرور المهاتما غاندي، وبقاء الزعيم المصري سعد زغلول فيها لفترة في مدرسة "جبل حديد"، وهو في طريقه إلى المنفى؛ وكيف ودعه العدنيون على قرع الطبول والأهازيج عن الشجاعة والبطولة ومقاومة المحتل
غير أن "آيريس" عند التاجر الفرنسي، في ليلة استذكاره الطويل، هي تلك التي "تتحول قطرات العرق فوق جسدها إلى حبات لؤلؤ، نلتقطها بلسانينا حبة حبة. كنا نشرب الخمر من سرتها، في تجويف إبطيها". [ص113].
سعاد الشابة العدنية، التي بقيت مشتتة بين سمير الذي يحبها، ونجيب الذي يؤثِّر في وعيها، تمامًا مثل تشتتها بين أبيها الموظف المرموق، الذي أتاح لها كامل الحرية في التعبير عن نفسها، كطريقة لبسها وعلاقتها بمحيطها، وبين أمها المحافظة التي أرادتها أن تكون قريبة منها أكثر ومن الحياة بمدركاتها البسيطة. سعاد كثيرًا ما "فكرت أنها تعيش تحت ضغط الرقابة الداخلية للمجتمع، لكنها لم تشأ عن سابق قصد وإصرار في التحرر منها، واعتبار ذلك ما يميزها، ويمنحها تألقها الشخصي. خاضت نقاشات حادة مع زميلاتها في الكلية حول ارتداء بنطلونات الجينز، والتعرف على شباب والجلوس معهم في البارات والمقاهي الحديثة. ومكثت طويلًا تفكر أن الجسد الذي تعيش فيه، غير قادر أن يستوعب الحياة، التي تشعر بها تصطخب في أعماقها". [ص 88، 89].
لأنه الحي الأوروبي (التواهي) أو "ستيمر بوينت" أو "ملتقى البواخر" ببوابته البحرية "رصيف أمير ويلز" ومينائه المعروف عالميًّا وقد صار هنا عملًا سرديًّا، كان لا بد أن تكون هناك مقاربة للأحداث الكبيرة التي مرت عبر هذه البوابة، التي لصقت بذاكرة المدينة وأهلها متحققة، وهو أمر لم يغب عن بال الكاتب وقلمه، فكانت الإشارات إلى ذلك حاضرة، كجزء من اللحظة السردية وليس التاريخية. واللحظة التاريخية بدورها تتكثف كإشكال توثيقي في بنية العمل، وعلى وجه الخصوص ما يذهب لجهة الضبط الجغرافي والزمني، وتعيينات المكان وهو ما سنهمله، على اعتبار ما نتناوله عملًا أدبيًّا محكومًا بالتخييل السردي، وليس بوصفه وثيقة تاريخية.
من تلك الأحداث الكبيرة زيارة الملكة "إليزابيث الثانية" إلى عدن في العام 1954، فجاءت تفاصيل هذه الزيارة، الموثقة كاستحضارات سردية، بعد اثنتي عشر سنة من وقوعها، بواسطة "ليبان" الصومالي "الذي لم تسعه الدنيا حينها من الفرح، يوم نظر -من قرب- إليها وهي تمر داخل سيارة عسكرية مكشوفة، ولوحت بيدين، كانت تخفيهما في قفازين أبيضين، وأن بياض بشرتها كاد يعمي عينيه". كما قال [ص125].
الزيارة التي سوف ترتبط بوضع حجر مستشفى الملكة في خور مكسر، وفندق "كرسنت هوتيل" في التواهي الذي شُيِّد من أجلها، وأيضًا في تكريمها لبعض الشخصيات البارزة في المجتمع، وسترتبط أيضًا، بتلك التذكارات الصغيرة، الحاملة لصورها، التي ستحتفظ بها الجدات في السنوات اللاحقة، كما ستفعل جدة سمير.
ومن تلك الأحداث أيضًا، بقاء الزعيم المصري سعد زغلول فيها لفترة في مدرسة "جبل حديد"، وهو في طريقه إلى المنفى؛ تفاصيل هذه الإقامة سوف يستعيدها الحاج حسين، الذي قام ببعض شؤونه وهو صبي، ومنها "تفاصيل ذلك المساء شديد البرودة في شتاء 1922، الذي غادر فيها سعد زغلول على متن المدمرة الحربية "كلما تس" إلى جزيرة سيشل، في المحيط الهندي، على قرع الطبول وأهازيج العدنيين، يردد صداها الجبل وهي تحكي عن الشجاعة والبطولة ومقاومة المحتل". [ص39].
أيضًا، مرور "المهاتما غاندي" بعدن في سبتمبر/ أيلول 1931، شكَّل حدثًا بارزًا في تاريخ المدينة، التي وصلها في الخامسة والنصف من صباح أحد الأيام الخريفية، وعند السابعة والنصف وصل غاندي إلى كريتر واحتشدت الجموع لتحييه في أحد شوارعها، الذي سمي لاحقًا باسمه. بعدها زار غاندي بلدة "الشيخ عثمان"، وألقى خطابه الأول خارج شبه القارة الهندية منذ العام 1914، في بستان الفارسي الشهير بمنطقة "الشيخ عثمان". أكد غاندي أن الهند لن تقف معزولة من أجل الاستقلال، وأن خُمس الجنس البشري سيصبحون أحرارًا من خلال اللاعنف؛ كما هي العادة تمنى أن يعيشوا حياة بسيطة، وكان قد أعطى الأوامر لجماعته أن تكون في أدنى فئة من فئات المسافرين والركاب على ظهر السفينة، وعندما علم بحجم الأمتعة التي جلبها رفاقه أصرّ على سبعة صناديق كأمتعة من عدن إلى بومباي. ومما يتذكره أشرف الهندي صديق جد سمير عن هذه الزيارة أن "غاندي تكلم باللغة الإنجليزية، وبلغة جوجرات حول الاستقلال، ودعا الهنود للوقوف إلى جانب العرب، كان الجميع ينصت كما لو كانوا في صلاة". [ص140].
(*) دار التنوير – بيروت 2015