قالها العالم الأمريكي الشهير وِلْ ديورانت، وربما قالها غيره من قبله بالنص، أما من حيث المضمون، فثمة غيره قد قالوها. يقول ديورانت: "ينبغي أن نحترم أوهام بعض!" المهم هنا في هذا النص "الأوهام". نعم! الأوهام! لم يقل: الرأي، ولا وجهة النظر، ولا الاجتهاد، ولا أي تعبير آخر لا يتضمن مفهوم "الوهم". وهذا يعني أن يقبل كل منا، سلفًا، اعتبار ما يحمله كلٌّ منّا مِن آراء أو اجتهادات أو أي أيديولوجية فكرية أو سياسية، أو مذهبية أو دينية وهلم جرّا. أن تعامل بصفتها أوهامًا من قبل الآخر، أن أحترم رأيك حتى لو عَدَدتُه أنا من قبيل الأوهام، وأن تحترم رأيي حتى وإن عَدَدتَه أنت من قبيل الأوهام. ذلك أنه بدون هذا الافتراض – طبعًا إن كان ولا بد من هذا الافتراض– ومن ثَمّ هذا الاحترام، ليس ثمة جدوى، ليس ثمة من نتيجة إيجابية من مواصلة أي تعامل إيجابي، بسبب فقدان الشرط الرئيسي للتعامل الإنساني: الاحترام المتبادل، حتى للأوهام.
ليعذرني القارئ الكريم على هذه الموعظة الساذجة البدائية، ولكنها المنسية في الغالب الأعم، وهي مقدمة ليست مقصورة لهذه المقالة فقط، وإنما لكل ما قد أقدّمه مستقبلًا، إن شاء الله من على هذا المنبر.
بطبيعة الحال، يتساءل المرء عن المصدر الحقيقي لأوهامنا المختلفة والمتعددة، وتراني هنا أسارع إلى القول بأنه العقل، العقل في علاقته بالحياة، هو صانع الحقيقة وصانع الأوهام معًا.
هذا الدماغ الجبار ببنيته ثرية التعقيد، هذا الذي يصيغ أجمل النظريات العلمية التي لا يأتيها الباطل من أية جهة كانت، هذا الدماغ ذاته تستطيع الحياة الملموسة أن "تحتال" عليه إذا ما توفرت لها شروط "الاحتيال" وتطوعه لكي ينتج، عوضًا عن الحقائق الجميلة، عن المفاهيم والنظريات الحقيقية المبرهن عليها، عوضًا عن ذلك، تراه يسلك طريقًا آخر فينتج الأوهام –وأكرر– عند توفر شروط وعوامل تزين لهذا الدماغ، لهذا العقل، سلوك صياغة الأوهام. والأمر الأكيد، حسب زعمي، أن القاعدة والأرضية العامة التي تصاغ وتتغذى عليها الأوهام هي الحقائق بعد بترها عن شروط تحققها الضرورية، أو عند نقلها من حالة إلى حالة أخرى، من مستوى إلى آخر؛ أي عند تشويهها.
لنضرب مثلًا من بلادنا بدلًا عن الاسترسال فيما هو نظري بحت. فمن الحقائق أن ثمة مشترك حضاري لدى اليمنيين يقوم على عدة حقائق، أهمها: الحَرْف المشترك ولغة المسند، الأنماط المعمارية، أنظمة الري. وطبعًا، إلى جانب هذا المشترك، ثمة اختلافات ثقافية/ فلكلورية.
وعلى أرضية حقيقة المشترك الحضاري، جرى صياغة بعض الأفكار التي نحملها ونرددها، وكأنها بدورها حقائق. من ذلك قولنا، في موضوعة الوحدة اليمنية، أي الوحدة السياسية: "إن الوحدة اليمنية السياسية، أي قيام دولة يمنية واحدة، حقيقة تاريخية". وهذا وهْم محض. أما مصدر هذا الوهم فهو هذا الانتقال في الحديث من المستوى الحضاري العام إلى المستوى السياسي، مع إضفاء صفة الإطلاق لموضوعات الحديث على المستويين، وهو ما قادنا إلى مساواة وحدتنا الحضارية التاريخية المشتركة بوحدة سياسية تاريخية لليمن، دون الالتفات إلى غياب هذه الوحدة السياسية، أي غياب دولة يمنية واحدة في تاريخ اليمن، كحقيقة عامة تاريخية سائدة. وحتى إذا قيل لنا إن الوحدة السياسية اليمنية قد تحققت في بعض اللحظات التاريخية، فإن ذلك يظل الاستثناء وليس السمة السياسية التاريخية العامة.
إن القول بالوحدة السياسية اليمنية التاريخية هو بناء ذهني، هو وَهْم من الأوهام السياسية المرغوبة سياسيًّا، وهو يقوم على حقيقة المشترك اليمني الحضاري التاريخي. لقد تشكل الوهم السياسي، إذن، على قاعدة الحقيقة الحضارية اليمنية المشتركة، وهي حقيقة ملموسة، وليست تجريدية، وكان هذا الانتقال من صعيد "المشترك الحضاري" إلى الصعيد السياسي، كافيًا لتوليد الوهم المذكور.
ثمة العديد، بل والكثير من الأوهام التي يصنعها لنا هذا العقل الجميل، والمشكلة أن العديد من هذه الأوهام تظهر بأردية جذابة، وبطعم حلو المذاق.
وللأوهام درجات ومستويات، تبدأ من الوهم البسيط حتى تنتهي إلى أكثرها تعقيدًا، وبعضها - إن لم أقل أغلبها- يجري التعود عليها حتى تصير كيفًا لا نقوى على التخلي عنها بسهولة. لا، بل وبعضها تقودنا إلى أن نعمل على "تحقيقها" بكل ما نملك، بما في ذلك بذل الأرواح في سبيلها. ذلك أن بعض الأوهام تتحول إلى آمال مرغوبة تنزع إليها النفس وتجتهد لتحقيقها باذلة كل غالٍ ونفيس من أجل ذلك، ولكن دون الالتفات إلى مدى توفر شروط تحقيقها الرئيسية. والحقيقة أن هذه موضوعات متشعبة وليس مجالها هنا، وإنما أسوق ذلك على سبيل الإشارة لسعة الموضوع وتعدد مستوياته.
ثمة روايات تتضمن بعض الإشارات بشأن "جمعة رجب"، ولكنها لا ترقى إلى الزعم، لا بأن كل أهل اليمن قد أسلموا في أول جمعة من شهر رجب، بل ولا حتى أي جماعة قبلية قد أسلمت في هذه الجمعة
لعل من أكثر مصادر الأوهام شيوعًا هي تلك الحقائق الجزئية التي يجري تضخيمها ثم تلبيسها الرداء الجذاب حتى يصار إلى قبولها برضى، بل وبشغف، ثم يحسبها أصحابها من قبيل الفخر في الدنيا، والثواب في الآخرة. من هذه الأوهام "جمعة رجب".
جمعة رجب
من الأقوال السائرة أن "الناس على دين ملوكهم"، والحقيقة أن هذا القول لا يخلو من صحة، وبالذات في زمننا، لجملة من الظروف، قادت إلى أن ما يقوله الملك هو القول الفصل في كل مناحي الحياة الرئيسية. لا، بل ونحن شهود إلى هذا اليوم على أن بعضنا ينصاع بدون أدنى تلكُّؤ لما توجهه إليه قيادته الاجتماعية أو السياسية أو الرسمية الحكومية. هذا، بغض الطرف عما إذا كان هذا الانصياع قد أتى عن طاعة وقناعة حقيقية أم عن خوف من سلطة الحاكم.
إذن، الشرط الرئيسي لصحة قول "الناس على دين ملوكهم" أن يكون لديهم ملك، الأمر الذي لم يكن متوفرًا في اليمن عند بداية الدعوة الإسلامية. لم تكن كل اليمن آنذاك موحدة تحت حكم دولة واحدة، وإنما كانت كل منطقة لقبيلة واحدة أو مجموعة قبائل في عدة مناطق، مستقلة سياسيًّا عن بعضها. وقد عبرت هذه الحالة السياسية عن ذاتها بكثرة وفود الزعامات القبلية التي زارت الرسول (ص) في المدينة، حيث كان كل وفد يمثل قبيلته أو تحالفه القبلي. وبهذا الصدد يورد ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى"، تحت عنوان "وفادات أهل اليمن" أربعة وأربعين وفدًا يعلنون إسلامهم على يديه. (انظر ابن سعد: الطبقات الكبرى، دار بيروت، المجلد الأول، الصفحات: 321-359).
ثمة روايات تتضمن بعض الإشارات بشأن "جمعة رجب"، ولكنها لا ترقى إلى الزعم لا بأن كل أهل اليمن قد أسلموا في أول جمعة من شهر رجب، بل ولا حتى أي جماعة قبلية قد أسلمت في هذه الجمعة. فهو، إذن، وهْم خالص؛ أما التربة التي نبت فيها هذا الوهم، فهو –كما أرجح– الرواية التي يسردها ابن الديبع في كتابه "قرة العيون" بأن معاذ بن جبل مبعوث رسول الله (ص) إلى اليمن، "فتوجه إلى الجَنَد، وأوصل كتابه عليه الصلاة والسلام إلى بني الأسود –وهم سادة أهل الجند– وكانوا قد أسلموا، ثم إنهم اجتمعوا في أول جمعة من رجب ووعظهم معاذ. فمن ذلك اليوم أَلِف الناس إتيان مسجد الجند في أول جمعة من رجب يأتونه ويصلون فيه الصلاة" (العلامة عبدالرحمن بن علي الديبع: قرة العيون بأخبار اليمن الميمون، حققه وعلق عليه: محمد علي الأكوع، ص 51). ويذهب المحقق الأكوع إلى أن الاحتفاء بهذه الذكرى غير مقصورة على أهل "اليمن الأسفل"، وإنما تعم أهل "اليمن الأعلى" أيضًا، وأن الناس قد اغتنموا هذه المناسبة ليصلوا أرحامهم والتصدق على الفقراء إلى آخر ذلك من أعمال البر (السابق). وللتذكير فقط، أن ثمة مناطق أخرى غير اليمنَيْن (الأسفل والأعلى)، مثل تهامة وحضرموت والمهرة والمناطق جنوب تعز إلى عدن وشرقًا إلى حضرموت والبيضاء ومشرق اليمن، غير معروف ما إذا كانت تحتفل بجمعة رجب أم لا تحتفل.
المهم في الأمر أن جمعة رجب هذه لم تكن يوم أسلم فيه اليمنيون، ولا حتى بعضهم، وإنما كان يوم وعظ لا أكثر. ذلك أن اليمنيين أو الكثير منهم كانوا قد أسلموا قبل هذه الجمعة، وكان وصول معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب وغيرهما، هو لتعليم الناس تعاليم الإسلام بعد أن شاع فيهم الإسلام. لقد قيل إن الشعوب تُقاد وتُحكم بالأوهام والأساطير والخرافات، أسهل من حكمها بالحقائق! ولكن هذا حديث آخر.