بذلت جهودًا حثيثة للحصول على أعداد من صحيفة "الحقيقة"- الصحيفة اليسارية الأسبوعية التي أصدرها الصحفي القدير والسياسي التقدمي يحيى عبدالرحمن الإرياني في تعز عام 1971. أصدرت الصحيفة بضعة أعداد لا تتجاوز 14 عددًا، لكن اتجاهها اليساري الناقد والحاد أدى إلى مضايقة رئيس تحريرها، ومن ثم إيقافها.
المناضل القومي من أوائل الصحفيين اليمنيين؛ فقد رأس تحرير صحيفة "الجمهورية" في تعز عام 1968. نهجه التقدمي والحاد الذكاء، سبب له متاعب جمة، سواء في العمل الصحفي، أو في المواجهات المستمرة مع السلطة، حتى عندما كان والده على رأسها لم يسلم من المتاعب والمضايقات؛ فقد تم إغلاق الصحيفة في عهد والده، وهرب من الاعتقال مع رفيق دربه المناضل الفذ عبدالقادر سعيد، وكلاهما من مؤسسي وقادة حركة "القوميين العرب"، وفيما بعد "الحزب الديمقراطي الثوري".
عبدالقادر سعيد أحمد طاهر، وعبدالحافظ قايد، ويحيى عبدالرحمن الإرياني، يمثلون الاتجاه الأكثر وعيًا فكريًّا ونضجًا سياسيًّا بالتطورات التي شهدتها اليمن بعد الـ5 من نوفمبر 1967، وهزيمة الأمة العربية في حزيران 1967.
كانت صحيفة "الحقيقة" الرئة النقية لليسار كله، وعبّرت عن النضج، ودقة القراءة، وعمق التحليل لليمن- مطلع سبعينيات القرن العشرين الماضي. يقول عنها الدكتور عبدالله الزين في كتابه "اليمن ووسائله الإعلامية": "صحيفة أسبوعية جامعة، رئيس تحريرها يحيى عبدالرحمن الإرياني. صدر أول عدد منها في تعز في مايو 1971، في ثماني صفحات ذات قطع 17×31. كانت تطبع 1000 نسخة".
يضيف الدكتور الزين: "لقد خصصت مختلف صفحات الجريدة للنقد بطريقة لم تجرؤ صحيفة أخرى على مثلها؛ نظرًا لما كانت تستند إليه من الحصانة التي يتمتع بها رئيس التحرير". وأتحفظ على تعبير الحصانة؛ لأن يحيى الإرياني، وإن كان ابن رئيس الجمهورية حينها، إلا أنه كان دائمًا عُرضةً للملاحقات بغرض الاعتقال؛ فكان يضطر للاختفاء مع رفيق دربه عبدالقادر سعيد، وكانت "الحقيقة" تحت الرقابة المستمرة والمضايقات لرئيس تحريرها، ولم تسلم من الإغلاق. [الكاتب].
يضيف الدكتور: "كما كانت تعالج بعض القضايا الرئيسية التي تهم المجتمع آنذاك، خاصة ما يتعلق بالمرأة وحقوقها". وكانت الصحيفة -حسب توصيف الدكتور الزين- تخصص عمودًا واحدًا من الصفحة الأولى للأخبار، وأما بقية الصفحات، فتنشر فيها موضوعات اقتصادية واجتماعية كان يحررها رئيس التحرير. ويشير الزين في المرجع إياه: "ولم يكن للصحيفة محررون ذائعو الصيت أو مشهورون". فكانت صحيفة رأي بامتياز. [الكاتب].
وقد توقفت بعد العدد الرابع عشر لأسباب سياسية أكثر منها مالية؛ وهو ما يؤكد عدم وجود الحصانة التي أشار إليها الدكتور.
يختتم الدكتور تعريفه بالصحيفة: "وعلى الرغم من أن عرضها وإخراجها لم يكن معتنى به، إلا أنها تميزت بأسلوب جدي في معالجة القضايا التي كانت تمس -غالبًا، وبطريقة مباشرة- حياة المواطن آنذاك". (اليمن ووسائله الإعلامية، ص 325).
الباحث عبدالحليم سيف في كتابه "الثورة؛ 40 سنة صحافة: النشأة والتطور"، يوثق لـ"الحقيقة": "في مارس 1971، انضمت "الحقيقة" إلى قائمة الصحف الأهلية، وصدر العدد الأول منها في تعز، في ثماني صفحات من القطع المتوسط كصحيفة أسبوعية جامعة، رئيس التحرير المسؤول الأستاذ يحيى عبدالرحمن الإرياني، ولم تستمر إلا أربعة أشهر من ميلادها. توقفت عقب قيامها بشن هجوم لاذع على وزارة الإعلام، وممارستها الرقابة على الصحف الأهلية، وإغلاق جريدة "الشعب"، وانتقدت الصحيفة في سياق مقالها الافتتاحي في العدد السادس الصادر في يونيو 1971، قانون المطبوعات، ومدير المطبوعات بالوزارة الذي وصل خصيصًا إلى تعز للالتقاء بمحرري الصحف، وإلقاء المواعظ للمناسبة، واعتبرت الصحيفة قانون المطبوعات الذي لم يُقرّ أصلًا من قبل السلطة التشريعية، بأنه يأتي لاضطهاد حرية الكلمة عبر فرض قيود رقابة عليها، مع بداية عهد مجلس الشورى؛ وهو ما يتنافى مع وجود الدستور".
قبل وفاته بعدة أشهر، كان يفكر في تأسيس حزب يساري، فاختار شخصيات، منهم: عبدالله حسن العالم، وأحمد كَلَز، وأحمد أمين زيدان، وزين السقاف، وحسن شكري، والكاتب. عقدنا عدة اجتماعات في منزله، ولكن الصعوبات حالت دون الاستمرار
في كتابه "اليمن ووسائله الإعلامية"، ينشر الدكتور الزين الصفحة الأولى من العدد الثاني كأنموذج، حيث يتناول العدد الثاني الصادر في 26 مايو 1971، ويقدم قراءةً للبيان الوزاري لحكومة الأستاذ أحمد محمد نعمان، في افتتاحية العدد. يقول الزين: "سوف أشير إلى أهم النقاط التي حددتها القراءة الناقدة والتي تحتل الصفحة الأولى. ترى "الحقيقة" أن المواطنين ملوا سماع بيانات الحكومة المتعاقبة، ولم يعودوا يعيرونها بالًا. وترى أن هذا البيان مختلف؛ لأنه يأتي بعد انتهاء الحرب، وبدء السلام، ولم يعد هناك عذر لتنفيذ البيان، وأن موقف الحكومة دقيق ومساءل بدقة مع إدراك عِظَم المسؤولية، وتعقّد المشكلات، ولا تمتلك الحكومة عصا سحرية، لكنها مطالبة بالعمل الواضح والجاد القائم على العلم والتخطيط للخروج من دوامة الفوضى. ثم تتناول الافتتاحية مفردات البيان والقضايا التي يعد بحلها. المشكلة الأولى المالية؛ فيلاحظ أن البيان لم يطرح أي حلول جدية لتطوير الإنتاج، رغم صواب عرضه لوجوه الإنفاق، ومصادر الدخل والتغطية؛ فلا حل للمشكلة إلا بتطور الإنتاج وتخطيطه وتنفيذه. ولم يتحدث البيان -كما ترى الصحيفة- عن زراعة البن، وتطوير زراعة القطن، والتوسع في زراعة القمح، وتنمية الثروة الحيوانية.
ثانيًا: إن معظم الحلول المقترحة للمشكلة المالية قد سلكت الطريق السهل القائم على زيادة الضرائب، والتشديد على الجماهير الواسعة، رغم أن الضرائب المالية تكفي لسد عجز الدولة. وهناك الضرائب التي تُجنى ولا تصل للدولة كدخول البلديات والتموين والعدل؛ بسبب الاختلاس، والقصور الإداري. وهناك عائدات الجمارك التي هي مهزلة المهازل، ولم تقم الدولة بضبطها. وترى أن التشدد في فرض مزيد من الضرائب على الفلاحين المساكين في جباية الزكاة لا يعني إلا المزيد من الإرهاق للمواطن العادي.
ثالثًا: طرح البيان مسألة الوحدة اليمنية. وتتساءل الافتتاحية: هل المقصود بين الجمهورية العربية اليمنية، وجمهورية اليمن الديمقراطية فقط؟ وما هو الموقف إزاء الغادر وغيره [الإشارة هنا للمشائخ الذين كانوا موالين للملكية]، والموقف في قضية نجران وعسير.
تحتل الأخبار عمودًا في يمين الصفحة الأولى؛ مما يؤكد أن "الحقيقة" صحيفة رأي بالدرجة الأولى، كما أسلفت.
في العدد الثالث المقروء ثلاثة أخبار، الأول: عودة محسن العيني والعطار وحسن مكي. وتتوقع الصحيفة أن يتولى العطار منصب نائب رئيس مجلس الوزراء. الخبر الثاني: خطاب النعمان أمام مجس الشورى، وتشكيل لجنة مناقشة. أما الخبر الثالث، فتصريح لوزير الخارجية روجرز، منقول عن مجلة "روز اليوسف" يحدد فيه أن بلاده تعمل على حل مشكلة الشرق الأوسط وفق خطوط ثلاثة: تأييد إسرائيل في عقد سلام دائم يلزم كل الأطراف، وهذا -في رأيه- لا يتم إلا بمفاوضات مباشرة تحت إشراف الأمم المتحدة، أو الوسيط الدولي "يارنج"، وبحضور ممثلين عن الدول الأربع الكبرى، وثالثًا أن أمن إسرائيل لا يتم بضم الأراضي التي احتلتها، وإنما بتعديل الحدود.
المناضل الوطني يحيى عبدالرحمن الإرياني، مناضل وطني من قادة حركة القوميين العرب، وأحد مؤسسي الحزب الديمقراطي الثوري، وقد كتبت عنه ابنته الناشطة الحقوقية رئيسة المدرسة الديمقراطية لمياء معرّفةً إياه: يحيى بن عبدالرحمن الإرياني، سياسي، صحفي، ودبلوماسي، وحددت مولده بعام 1940.
تلقى التعليم الابتدائي في المدرسة الأحمدية، وحصل على البكالوريوس في الفلسفة من جامعة عين شمس، ولم تحدد سنة التخرج.
من أوائل المنظمين لحركة القوميين العرب. ترأس الفقيد تحرير صحيفة "الجمهورية" اليومية الرسمية في تعز عام 1968، وأسس ورأس تحرير صحيفة "الحقيقة" الأهلية واليسارية عام 1971، كما سبق.
عمل -بحسب توثيق نجله لؤي وابنته لمياء- في السلك الدبلوماسي من نهاية ستينيات القرن العشرين الماضي، وعمل في العديد من السفارات: موسكو، براغ، وسفيرًا في قطر بعد حركة الـ31 من يونيو 1974، وتشيكوسلوفاكيا، ومسؤولًا في الجامعة العربية عن حقوق المؤلف، كما عمل في ديوان الوزارة كرئيس لدائرة الجزيرة والخليج، وسفيرًا في بولندا بعد الوحدة. له العديد من الأبحاث والدراسات والكتابات الصحفية في العديد من الصحف. وتشير الأستاذة لمياء عن مؤلف له مخطوط عن "الجغرافيا السياسية لليمن".
قبل وفاته بعدة أشهر، كان يفكر في تأسيس حزب يساري، فاختار شخصيات منهم: عبدالله حسن العالم، وأحمد كَلَز، وأحمد أمين زيدان، وزين السقاف، وحسن شكري، والكاتب، وقدم رؤية لنهج الحزب الجديد. عقدنا عدة اجتماعات في منزله، ولكن الصعوبات والمصاعب حالت دون الاستمرار.