سبعة نصوص هي كل محتويات المجموعة القصصية الأولى لهدى جعفر، التي حملت عنوان "اليد التي علّقت المرآة"(*)، بُني معمار أكثرها بنَفَسٍ روائي شديد الكثافة، الحاضر فيها جملة التفاصيل الدقيقة التي تعيد التعريف بزمان ومكان وأفعال شخصيات ملتقطة بعناية، تحمل في سرديتها الحياتية أثقالًا من أنواعٍ مختلفة، لم تخلُ حمولتها في كثير من المواضع من كافكاويةٍ ما لجهة التحول والكابوسية الفارطة. وإلى جانب التفاصيل بتمثيلات الصورة الصارخة، تبرز بمعيتها حالة الوصف للأشياء غير المتوقفة في حدود القشرة الخارجية، والغوص في عمقها بوعي حادّ، يتمظهر في تكوين الشخصيات المنتمية لبيئات اجتماعية وطبقية وثقافية مختلفة، حاضنتها الجغرافية اليمن، حين تتعين أمكنة معروفة (صنعاء، تعز، حضرموت، عدن).
الطفلة التي أُهديت لها دمية بطولها حينما كانت في الخامسة، أطلقَتْ عليها (عنايات أبو سنة)، حينما مرَّ عليها الاسم أثناء مشاهدة الأسرة مسرحية (شاهد ما شافش حاجة)، وهو اسم الراقصة التي لم تظهر مجسدة في المسرحية، وتخيلت الطفلة أنّ سكينًا اخترقت وسطها، وأُلصِقت تهمة قتلها ببطل المسرحية (عادل إمام). الطفلة التي وصفتها الكاتبة بمحدودية الذكاء لكنها كانت في الوقت ذاته بخيال واسع، حوّلت الصورة المتخيلة للمقتولة وتاليًا علاقتها الحميمية بالدمية، إلى حالة متصلة من تفسير الظواهر التي تحوطها، ومنها إرباكات المنام وانثيالاته الكابوسية، ومن ثم تحولها إلى باب لا مرئي تخرج منه الأشياء الغريبة، بما فيها دميتها الخضراء التي خرجت منه دون أن تعلم، ثم بقيت تبصرها في الشارع أيامًا عديدة، نائمةً على الأسفلت وقد تبولت عليها القطط، والعشرات من أسراب النمل تتجول فوقها. الخادمة التي استُقدمت للمنزل بعد عشرين عامًا وأُمرت بالنوم في غرفة الطفلة السابقة، غادرته بعد وقت قصير؛ لأنها كانت تبصر خروج امرأة من داخلها ترتدي ثوبًا أخضر وشجرة تخرج من جذعها، وموظف أرشيف يزحف من جوفها وعلى ظهره مئات الصور لأجداد بصور مركّبة، وشياطين تتثاءب، وفؤوسًا ومطارق، ورجالًا يمشون برجل واحدة، وهنودًا حمرًا بتيجان من الريش.
في "نصف بصلة"، ثمة شقيقان يضمران لبعضهما كرهًا غير مسبَّب، ابتدأ من مشاهدتهما بائع الحلوى وقد تحوّل إلى ظلّ ففرّا مفزوعَين؛ الأول تسلق شجرة جوز على سور حديقة قريبة وبقي فوقها حتى المساء، والثاني ظل يركض حتى الآن، فتحولت قدماه إلى كومتين دميمتين من جلد وعظم. من استنجد بالشجرة تحول إلى نجار، والراكض تحول إلى شاعر تتركبه التنبؤات، يصف حالهما الأكبر بينهما، بقوله:
"إني أُعبّئ البيوت بجثث مصقولة، ومتيبسة، ومتينة، وأخي يفرغها، يقلبها على رأسها، فتتقيأ ما في داخلها، ثم يصبح هذا القيْء شيئًا فاتنًا، وكئيبًا وقاهرًا، اسمه الشعر".
بعد أربعين عامًا، سيطلب من شقيقه الذي يصغره بعامين أن يكون بجواره أثناء نقل أغراضه من مسكنه إلى مكان آخر. كان في الثلاجة الصغيرة المحروقة المفتوح بابها، بصلة قشرتها يابسة إلا أنها لا تزال صالحة للأكل. ظن الشقيق الأصغر أنّ أخاه يرفض منحه البصلة وهو يعرف أنه فقير وفي جوع دائم وسيمنحها للغريب بدلًا عنه، والأكبر ظن أنّ منح شقيقه الفقير نصف البصلة سيلعنه مرة أخرى، وسيكتب بيتين من الشعر عن النجار الذي تحوَّلت عيناه إلى نصفين من البصل المدود، وسيقول في سره وعلنه: "يا للفاجعة، إن مقامي عند أخي نصف بصلة!".
تبادُل موقع الراوي في النص (بين الشقيقين)، واحدة من التقنيات التي اشتغلت عليها الكتابة لإلصاق جزأَين لصورة مشبعة بالتفاصيل، ومنها حكاية أذن الجد التي فقدها في الحرب، وقال إنّ رصاصة اقتلعتها في الحرب الطويلة، وألصقتها بشجرة محاذية، وبقيت هناك حتى التهمتها الدود، وظل يحلم بها حتى مات، وكان يراها في مناماته مثل ضفدع فتيّ يقفز من مكان إلى آخر.
في "حديث عن الساعات"، ثمة تظهير لفكرة البوح الذي ينجي صاحبه بالمعنى القريب من السردية الشهرياريّة، وإن بلبوس أكثر التصاقًا بالواقع، وبطلته هذه المرّة فتاةٌ صغيرة أجبرتها الظروف أن تمتهن الدعارة بعد أن فقدت علاقتها بالزمن. تبدأ حياتها بمغادرة القرية مع والدها الذي هرب من تخصيب زوجته السنوي، ليجد نفسه عاملًا بالأجر اليومي المتباعد، وابنته تعمل بالتسول وبيع أشياء بسيطة في التقاطعات. لم يستمر الحال طويلًا، فهربت مع بائع متجول شاب، هو الآخر ترك قريته. وجدت نفسها في السجن بتهمة الزنا، ثم تسلمتها امرأة أطلقتها في عالم الليل الخشن، وبعد ثلاثة أشهر، وجدت نفسها تخرج من طيات الجسد المهروش برائحة الحموضة والأسماك الفاسدة، ثم تسلمتها (الدكتورة) التي عالجتها ثم سرحت بها مع أخريات، وكانت تختار لها زبائن من نوع مختلف (يتحدثون لغات أجنبية، ويركبون الطائرات، ويغسلون أيديهم بعد الخروج من الحمَّام)، ومنهم امرأة سمراء أغدقت عليها فقط من أجل أن تحكي لها حكايات. فحكت لها عن رفيقاتها التسع اللواتي يعملن في ذات المهنة وتتبادل معهن الحقائب وبكلات الشعر والملابس الداخلية والحلي الرخيصة. حكت عن البنت بدور التي أطلقن عليها: "الإيطالية" لجمالها الشديد، ثم قتلها شيخ قبَليّ بعد أن تعلق بها ابنه الشاب، وحكت عن الرجل الجاثي، والويسكي المنقوع بالزبيب الذي يخلصها دومًا من روائح الزبون الأخير. لم تتركها المرأة السمراء تغادر حتى تحكي لها حكاية لم تخطر ببالها، ولم تفلح، وحين عرضت عليها إهداءها ساعة لتتمكن من معرفة الوقت، الذي لا تعبأ به، لمعت في ذاكرتها صورة أول ساعة لبستها، فحكت لمضيفتها عن الساعة المذهبة التي وجدتها وهي طفلة في بركة ماء خلّفها المطر بالقرب من القرية، وبقيت تلبسها في معصمها وهي متوقفة، وتذكرت معها حكمة ختَّانة القرية التي تقول: "لا تتهادوا الساعات فإنها نحس، كيف تهدي الناس زمنًا محبوسًا في دائرة صغيرة". اكتفت المرأة بهذه الحكاية التي أشبعتها، وتركتها في المجلس وحدها، بعد أن دفعت لها ما يوازي النوم مع 12 رجلًا، وفي الصباح غادرت، وهذه المرة ليس لزبون جديد، وإنما لحلم قديم بقي يراودها، وهي بناء مسكن من دورين ملحقة به بقالة صغيرة لبيع الصابون والحلوى والمكرونة والشاي والسمن والآيسكريم وبطاقات الاتصال.
الحكمة التي تتقطر في نص "لحظة كوداك – عند لعبة الأحصنة الدوارة"، هي في قسوة معنى أن يفعل الإنسان شيئًا لمرة أخيرة، ومعنى أن يعيش إنسان ويموت من دون أن يعرف أنّ هناك من راقبه بشجن وافتتان، وهي خلاصة لمشاهدة عامِلة الأحصنة الدوارة في حديقة "هولا بارك" لرجل بدوي يرقص على أغنية جزائرية غير مفهوم منها غير كلمة "ديدّي"؛ "كانت في حركاته البارعة ميوعة شبحية لا تلاحظ من النظرة الأولى، ثم قيل إن تلك كانت طريقته في توديع حياته قبل زواجه مجاملة لقبيلته الشهيرة، وانتقاله إلى مدينة صحراوية لن يزورها أحد من الذين رأوه يرقص خلف شاله المزركش".
"صلاة مسعود" حكاية كافكاوية بامتياز، وتبدأ من نبوت حلمة ثدي امرأة في جبهة سائق دراجة نارية في تعز، لتتحول حكايته إلى قصة في المدينة، ومنها إرضاع الأطفال اللقطاء بواسطة الحلمة التي تنزّ حليبًا دافئًا، ويضطر معها إلى أن يتموضع بهيئة رجل يُصلّي حتى يصل الحليب إلى فم الرضيع الجائع.
(*) هدى جعفر، اليد التي علَّقت المرآة، منشورات جدل، 2023.