هل هناك غناء تعزي؟

سياق متعارض مع مناطقية الغناء
جمال حسن
September 3, 2024

هل هناك غناء تعزي؟

سياق متعارض مع مناطقية الغناء
جمال حسن
September 3, 2024

كثيرًا ما صادفت هذا السؤال: هل يمكن القول بأنّ هناك غناءً تعزيًّا؟ والغرض من ذلك الحصول على تأكيدٍ مُرْضٍ لوجهة نظر معينة، إما نفيًا أو إيجابًا. وقبل الخوض في مناقشة سؤال إشكالي بمدلوله العام، علينا أولًا تحديد الأوجه التي تسمح لنا بتصنيف الغناء وفقًا للمناطق؛ أي من حيث كونها مصطلحات عمومية تفتقر للدقة.

لكن، ما العناصر التي بموجبها نقول بأن هذا الغناء ينتسب إلى منطقة بعينها؟ على سبيل المثال: اللهجة المُستخدمة، ووجود خصائص لحنية وأسلوبية يتميز بها هذا اللون عن غيره، وأيضًا ارتباطه بنشاط غنائي قائم خلال فترات زمنية مُعينة. 

أيضًا، ما إذا كان هناك جذور محلية تقليدية شائعة، بصرف النظر عن طبيعتها، وهذا جانب شائع في اليمن، بحكم وجود الكثير من الأنماط الفرعية، وإن كانت تمايزاتها محدودة. وعلى الأرجح، كثيرٌ من تلك التفرعات تعود إلى ممارسات مُشتركة تشكّلت على نطاق واسع، ونتج عنها بعض التمايز في مناطقها؛ لأنها تشكّلت ضمن انتقال شفاهي لا ينم عن مفاهيم مدروسة، وظلت ملتصقة بطبيعة الممارسات الاجتماعية المُصاحبة لهذا النشاط الغنائي. وهذا أمرٌ يشمل جميع الممارسات الغنائية الشائعة في جميع المناطق اليمنية، خلافًا لِمَا يمكن أن نلاحظها في وجود أنشطة غنائية مُعاصرة أو حديثة نسبيًّا من حيث زمن ظهورها وليس بكونها مواكبة للعصر.

ما قصده المرشدي من هذا المصطلح، هو الغناء الذي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين، وليس الغناء المُرتبط بالعناصر الشعبية المعروفة هناك، وأبرزها "الملالة".

أسبقية المرشدي

وجميع تلك العناصر نعثر لها على بصمات في غناء ظلّ مُلتصقًا بتعز؛ ففي إحدى لقاءاته قال الفنان محمد مرشد ناجي، أكّد أسبقيته في تقديم الغناء التعزي، مستشهدًا بأعمال، مثل: "يا نجم يا سامر" للشاعر سعيد الشيباني، و"أخضر جهيش مليان" للشاعر أحمد الجابري. 

لم يزعم المرشدي أنّه مؤسسٌ لغناء ظلّ مُرتبطًا بالفنان أيوب طارش، بل أكّد أسبقيته لهذا الأخير؛ بمعنى أنّ ما قصده من هذا المصطلح هو الغناء الذي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين، وليس الغناء المُرتبط بالعناصر الشعبية المعروفة هناك، وأبرزها "الملالة". 

في الوقت نفسه، كان واضحًا أنّه نسب هذا الغناء للّهجة، بدرجة أساسية، ولا يعني أنّ المُرشدي لحّنها بمعزل عن المكان الذي نسبها له، إنما على العكس؛ استلهم منه بعض العناصر الشعبية وطوّرها، مع أنّ عدن كانت المنشأ لجميع عناصر الأغنيتين، سواء كانت كلامًا أو لحنًا أو غناء.

وكما يبدو، فإنّ ما قصده المُرشدي -من وجهة نظري- لم يكن الغرض منه أن ينسب لنفسه الريادة، بقدر رغبته في تأكيد الدور الذي مارسته عدن، خلال حقبة ذهبية، كان هو أحد روّادها، في الغناء اليمني. ولم تقتصر إشارته على غناء تعز، إنّما أيضًا التراث الغنائي اليمني، بما في ذلك الموشح الحُميني، أو ما يُعرف بالغناء الصنعاني.

عدن الحاضنة

وكان واضحًا في إشارته حول بعض روائع التراث الصنعاني التي توثّقت في عدن، ولولا ذلك كان بعضها تعرض للاندثار. وأبرز شيوخ الغناء الصنعاني، مثل: باشراحيل، وإبراهيم الماس، وعوض المُسلّمي، وأيضًا أحمد عُبيد قعطبي، والعنتري، وآخرين، كانت عدن مصدر نشاطهم، وشكّلوا مرجعية لمن جاء بعدهم، مثل: الآنسي والسمة والحارثي.

وفي الوقت نفسه، سنجد أنّ أولئك الروّاد ينتسبون إلى مناطق يمنية مختلفة. فيما عدن جسّدت بيئة حاضنة لكل نشاط غنائي في اليمن، بما في ذلك الصنعاني؛ ما يجعل منها مركزًا مهمًّا، لا يقتصر على حفظ هذا التراث، إنما التأثير فيه والمساهمة في تطويره، بصورة من الصور.

ربما يبدو الأمر خروجًا عن زاوية الموضوع، لكنه يصب في أعماقه. فالصورة التي تتبلور مما سبق ذكره، هو ما أصبحت عليه منذ الثلاثينيات وحتى ثمانينيات القرن العشرين، بكونها مركز الغناء الأبرز في اليمن. بل إن تلك التفاعلات التي تمخض عنها احتواء الغناء اليمني، ساهم في ظهور غناء ينتسب إليها؛ أي "العدني"، رغم أنّ جذوره المحلية كانت مُرتبطة بعناصر لحنية بسيطة، كما هو حال كثير من المناطق اليمنية.

وظلت السمة البارزة في تصنيف مصطلحات الغناء، تعود بدرجة أساسية إلى اختلاف اللهجات، بينما على أرض الواقع، نجد بعض التباينات، وساعد هذا التفاعل في تبلور نشاطٍ أصبح تراثه مصدرًا لثراء الغناء اليمني وتنوعه. لكن هذا المركز بطبيعة الحال، شهد انحسارًا، ولولا ارتباطه بفترة ظهور التسجيلات في اليمن، لكانت معظم ألحانه ستشهد اندثارًا.

التعريف المناطقي 

إذن، سنجد أنّ هذا النشاط تبلور عنه تفاعلٌ واسع من اليمنيين الذين لم يعرفوا أنفسهم ضمن خلفيات مناطقية. كما أنّ عدن شكّلت قاعدة مهمة لتفاعل الأنماط الغنائية اليمنية المختلفة، وتطويرها. وما قلناه عن دورها المُهم في الغناء المنسوب إلى صنعاء، نقوله ضمن سياق مختلف حول ما هو منسوب لتعز، أو ما زال محل تشكيك لدى البعض.

فعدن مثّلت قاعدة قوية لظهور تيار كان ولا يزال أيوب نموذجه الطاغي. وما قصدته من ذلك، لا يقتصر على ظهور أغانٍ استعملت لهجة تعز في ذلك المركز الغنائي وحدّدت ملامح أولية لطابعها الجديد، إنما بما نتج عنها من تأثير اجتماعي واسع. 

فهناك نشأت طبقة تُجّار يمنيين، نقلوا نشاطهم بعد التأميم إلى تعز (أغلبهم ينتسبون إليها)، علاوة على ظهور طبقة متعلمة نشأت في عدن، وهذا نتج عنه تحوّل اجتماعي في تعز، كان ثوريًّا وفقًا لظروف تلك الفترة الزمنية، لكنه ساهم في تخلّق نواة لمركز غنائي جديد، كان أيوب ظاهرته الأبرز. إضافة إلى أنّ تعز كانت مقر الحاكم في شمال اليمن قبل قيام ثورة سبتمبر، وشهدت بداية نشاط فنّانين، مثل الآنسي، وظهور أول فرقة موسيقية في شمال اليمن، وشكّلت عاملًا ساهم في تخلّق غناءٍ يمثّله بدرجة أساسية أيوب، وأيضًا عبدالباسط عبسي.

لو لم تكن تلك العوامل، ربما لم نشهد تلك الظاهرة، مع هذا لا نستطيع أن نحصرها وفقًا لانتساب مناطقي؛ أي كما نتعاطى مع مسميات الغناء لدينا، إذ إنه من هذه الزاوية، نستطيع القول بأن هناك غناء تعزيًّا. لكن إذا أخذنا نموذجه الأبرز؛ أيوب طارش، فألحانه وإن تأثرت بموروث منطقته من المهاجل والملالات، وربما أنماط أخرى، فإنها تجاوزت ذلك باتصالها مع منابع متعددة من الغناء اليمني، وأيضًا تأثره بعناصر لحنية عربية.

التأثير الاجتماعي لأبناء تعز وانتشارهم الواسع في النسيج الاجتماعي اليمني، وأيضًا وجود طبقة تجار ومتعلمين مؤثرين منهم، كان له دورٌ غير مُباشر في ذلك.

التأثير التعزي

ولعل ذلك كان عاملًا ساهم فيما يحوزه أرشيف هذا الفنان من شعبية تشمل كل مناطق اليمن، ومن ثم يكتسب هذا الغناء انتسابًا لليمن، مثله مثل ما قدّمه كبار مشاهير الغناء اليمني، سواء من سبقوه أو جايلوه. لكن لم يكن ذلك العاملَ الوحيد، فالتأثير الاجتماعي لأبناء تعز وانتشارهم الواسع في النسيج الاجتماعي اليمني، وأيضًا وجود طبقة تجار ومتعلمين مؤثرين منهم، كان له دورٌ غير مُباشر في ذلك. 

وتلك مجرد صورة بسيطة، لم تتعمّق؛ لذا الحديث عن طبيعة تشكّل مراكز الغناء في اليمن، يعطينا صورة مُلهمة، وذلك بوصفها مراكز متحركة ومُتبدلة. فإذا أخذنا جذور الغناء الذي يمكن أن ننسبه إلى تعز، أي من حيث وجود بعض عناصره، مثل اللهجة، فإن الموشح الحُميني، الذي شهد بداية ازدهاره في عهد الدولة الرسولية ومركزها السياسي، بدأ في الظهور بلهجة جنوب تهامة، وتبعته لهجة تعز، بوصفها عاصمة الرسوليين، وهذا يسمح لنا بإيجاد شكل إقليمي، باشتراك لهجتي جنوب تهامة وتعز الواسعة. 

فمثلًا، نجد موشحات ما زالت مُستعملة في غناء التراث الصنعاني، تعود لابن فليتة والمزاح، وكذلك عبدالهادي السودي وآخرون، فإنّها تنتسب لهذا المحيط الاجتماعي. لكنه أيضًا نشاط يمتد إلى عدن، بكونه مُحيطًا مُتقاربًا، بحيث نعثر على مؤلَّفَين وحيدين في الموسيقى لمحمد بن أبي بكر بن محمد الفارسي (ت 677هــ)؛ أي في الفترة الرسولية، ولد ونشأ في عدن حتى وفاته. 

كما أنّ ما هو مرتبط بموروث تعز، لا يقتصر على الملالات والمهاجل، فهناك أيضًا موشحات دينية ذات جذور صوفية، تشترك ألحانها وقصائدها مع جنوب تهامة، لكنها تتمايز نوعًا ما في الأداء بين المنطقتين، مثلما تختلف في حضرموت أو صنعاء، رغم أنها تشترك في اللحن.

وهذا سياق يحيطنا بأن ما يسمح بحدوث ازدهار موسيقيّ في مدينة أو منطقة، هو على صلة بعوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية، وهذا التبدل في المراكز، يمنحنا صورة أمثل، فمع تشكّل مركز للغناء، فإنّه يستقطب فنّانين وموسيقيّين من جميع اليمن، وربما من خارجها. وهذا المركز يصبح مخزنًا لتجمع عناصر لحنية مختلفة من اليمن، ومن خارجها، وفقًا لطبيعة التأثير والمحيط السياسي والاجتماعي. 

سأحاول تناول هذا الموضوع في سياق أوسع، من حيث طبيعة تشكّل المُسمّيات المناطقية، ودلالاته، ومقارنته مع ثقافات موسيقية غير يمنية.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English