ما من شكّ أنّ التعصّب مرضٌ نفسيّ يعاني منه كثير من الأشخاص دون أن يشعروا بخطورته إلّا بعد فوات الأوان، فنزوة التعصب تُغرق العقل في كلِّ ما يميل إلى ما يتعصب إليه، ليجعل الجسم هائجًا على الدوام بغضب لا هدنة فيه سوى بتحقيق رضى يُسكِت هذا التعصب. قس على هذا الأمر الكثيرَ من الاختيارات الذاتية التي تكون الغاية منها غالبًا تحقيق ذلك الرضى، وإسكات الغضب. ذلك أنّنا، أبناء الوهم، ينبغي أن نعيش في جهادٍ مُضنٍ ومستمرّ ضدّ هذه النزوات التي تستمرّ في النموّ والتطاول، ما لم فإنّ هذه الأوهام ستسيطر علينا وتجعلنا عبيدًا لها.
إنّ الكائن، ابن الوهم، إن تحقّق له هذا الرضى يبدأ نهاره الجديد ويستهل أعماله تحت سطوة ذلك الوهم، واثقًا من نفسه وإمكانياته وقدراته الخارقة على الاختيارات الصائبة، متأكدًا أنّ وجوده على هذه الحياة له أهميته القصوى، فهو الأفضل والأكثر تميزًا.
دون هذه الثقة والرضى، يتملكه شعورٌ بالنقص والدونية، وهو ما تأباه النفس البشرية المجبولة على إعلاء كينونتها وعدم انتقاصها. وتلك غريزة مطبوعة وأصيلة فيها، فهي تُحسن الاختيار دائمًا، والقريحة الإنسانية لا تنضب فيما يخص ابتكار تلك الأمور التي يرثى لها، وتشعرنا بتفوقنا على الآخرين.
يبدو لي أنّ تشجيع المنتخبات يندرج في هذا الإطار من التعصب، إذ تظهر الأنا المتعالية لدى المشجع بمجرد انخراطه في قائمة المشجّعين، وحديثه عن فريقه بصيغة الـ(نحن) "اليوم سنلعب"، معتقدًا أنّه قد أصبح جزءًا من الفريق، أو على الأقل أنّ الفريق لن يفوز من دون أن يكون هو في قائمة مشجعيه. هنا تترسخ في ذاته القناعة بأنّهم الأفضل والأحقّ بالفوز، وبأن جميع الفرق الأخرى لا تستحقه، استجابة للاعتقاد القارّ في نفسه المتعصّبة، بأنّ الآخرين أدنى من فريقه مهارة في لعبهم، وأكثر وقوعًا في الخطأ لاختيارهم تشجيع الفريق الخصم.
صحيحٌ أنّ اللعب بلا تشجيع مثل الرقص بدون موسيقى؛ إلّا أنّ المشجّع المتعصّب يعلم يقينًا أنّه لن ينال من تشجيعه لهذا الفريق أو ذاك، سوى إرضاء ذاته المتعالية التي كان اختيارها موفقًا، بعكس الآخر الذي لم يحالف فريقه الحظ، إذ يبدأ قبل كل مباراة بإثارة الكثير من الصخب والشجار، وفي أحسن الأحوال يكتفي باستعراض قدرات فريقه وتعداد مهاراتهم الجماعية والفردية.
حين ينتهي الاحتفال، ويفتر الحماس، يرجع هذا المشجِّع الكروي المتعصب إلى وحدته، إلى (الأنا) المنفردة التي كانت قبلًا (نحن)، حين يبتعد عن الآخرين المتعصبين أمثاله، يفيق من حالة الصرع التي كان يعيشها، ومن نشوة الـ(نحن) المنتصر، لينزوي وحيدًا، مفتّتًا ضائعًا يجتر مآسيه الخاصة.
وبمجرد أن تبدأ المباراة يُصاب هذا المشجِّع بحالة صرع لا ينتبه إليها، فيركض، وهو قارّ في مكانه، أكثر من اللاعبين، وأكثر من الكرة نفسها. تصبح روحه معلقة على طرف خيط مشرف على هاوية، فما يهمّه هو فوز فريقه، ولعبه بشكل جيد، ليثبت للآخرين (خصومه) أنّ فريقه هو الأفضل، وأنّ اختياره لهم هو الأكثر توفيقًا. وتتفاقم مشكلة هذا الكائن المتعصب حين يكون بين أقرانه المتعصبين، سواء على مدرجات الملعب؛ أو أمام شاشات عرض المباراة، حيث يتحوّل حينها إلى كائن مخيف، فينظر إلى مشجِّعي الفرق الأخرى بوصفهم أعداء وخصومًا ينبغي إسكاتهم إن ارتفعت أصواتهم، أو تعالت صرخاتهم جراء تمريرة موفقة، أو هجوم مباغت، أو تسديدة مُحكمة. أمّا إن حالف الحظ فريقه وسدّد هدفًا؛ فسرعان ما تسيطر عليه حالة هذيان غريبة، تظهر بجلاء على حركات جسده الهستيرية العنيفة، وعلى صرخات صوته العالية، فيتحول به الحال من مهان إلى مهين، ومن مهزوم إلى منتصر، ويقوم بالكثير من الثأرات اللفظية ضدَّ من أهانوه قبل لحظات، أو جرحوه في هزائم سابقة مُنِيَ بها فريقه.
عندما تنتهي المباراة، يبدأ هذا المتعصب وأقرانه بالاحتفال بفوزهم، ويحاول ما استطاع، تضخيم ذلك النصر أمام مشجِّعي الفريق الآخر، استجابةً لأناه المتضخّمة التي لا تخطئ إن اختارت، ولا تنهزم إن شجّعت. بينما يصبح وضعه صعبًا إن مُنِيَ فريقه بهزيمة، يبكي بمرارة هزيمته التي مُنِيَ بها، ويقرّر أنّ فريقه لا يستحقها، وأنّه كان بإمكانه الفوز لولا أولئك الحكّام المرتشين، وذلك اللاعب المخادع، وتلك الظروف السيئة التي حالت بينهم وبين الفوز المستحق.
حين ينتهي الاحتفال، ويفتر الحماس، يرجع هذا المشجع الكروي المتعصب إلى وحدته، إلى (الأنا) المنفردة التي كانت قبلًا (نحن)، حين يبتعد عن الآخرين المتعصبين أمثاله، يفيق من حالة الصرع التي كان يعيشها، ومن نشوة الـ(نحن) المنتصر، لينزوي وحيدًا، مفتّتًا ضائعًا يجترّ مآسيه الخاصة، ويعود إلى روتينه اليومي وهموم عيشه.
لقد نسيَ هذا المتعصّب في فورة حماسه، أنّ الغرض من إنشاء هذه اللعبة هو إمتاع الجماهير بمشاهدة مهارات اللاعبين ومراوغاتهم للخصوم، وتفردهم بالكرات، واقتناصهم للفرص، وتسديداتهم الجيدة للركلات، وإحرازهم للأهداف. بالإضافة إلى استعراض قدرات المدربين على التأهيل والتوجيه والتخطيط، ومقدرة الفرق الفنية على تسيير المباريات، وغيرها من الأمور التي تجعل من مشاهدة الفرق المتبارية، متعةً لا تقل في أهميتها عن بقية المتع التي تهبنا إياها الحياة على الدوام.
(*) جامعة ذمار.