جمع كل خبراته ومهاراته في الهندسة الزراعية، ثم سفح أيامه ولياليه بذورًا في تربة الكتابة، ثم سقاها بماء الحنين والذكريات، فأنبتت حقلًا سرديًّا أسماه (الآتي من بلاد الشمس إلى مدن الصقيع)، ذلك هو علي هايل القدسي.
والقارئ المتمعن في هذا النص السردي، يدرك بسهولة أن المداميك الأساسية التي انبنى عليها، هي سيرة ذاتية للكاتب، تبدأ من سنوات الطفولة الباكرة، وتنتهي بانتهاء سنوات الدراسة الجامعية في (طشقند) وعودته إلى بلاده، ومعلوم أنّ السيرة الذاتية هي شكل كتابيّ يختلف في كثير من الأوجه عن الرواية بوصفها شكلًا تعبيريًّا مغايرًا، ومع ذلك استطاع كثيرٌ من الكتّاب أن يمزج بين الشكلين فيما يسمى (سيرة روائية)؛ أي أن يُعيد صياغة ومعالجة السيرة الذاتية روائيًّا، وكثيرٌ من التجارب الروائية المعروفة شكّلت سيَر كتّابها الذاتية المادّةَ الأساسية لروايتهم الأولى.
ونص علي هائل القدسي، هو من هذا القبيل، فأحداثه تنسرب إلى القارئ من خلال رؤيا الراوي/ البطل، الذي لا يكتفي بوظيفة السرد، بل يضيف إلى ذلك الوصفَ والترتيب والتعليق، الأمر الذي جعل خطابه الروائي يتسم بالخصوبة والتنوع.
فالنص الذي بين أيدينا (الآتي من خلف الشمس إلى مدن الصقيع)، هو بكل تأكيد سيرة ذاتية، على الرغم من وجود عتبة نصيّة مُضَلِّلة تمثّلت في العنوان الفرعي على الغلاف الخارجي الأمامي (مجموعة قصصية) –وفي الاقتباسات المنشورة على الغلاف الخلفي- هذا العنوان يعمل في البداية على توجيه القارئ الوجهة الخطأ، لكن القارئ عندما يغوص قليلًا في ثنايا النص، يعيد مراجعة أدواته القرائية وتشكيل أفق انتظار جديد.
وعلى الرغم من أنّ المادة الحكائية لهذا النص، هي في الأساس سردٌ ذاتيّ جاف يمكن أن يصيب القارئ بالملل والغثيان، فإن الكاتب، الذي يسيطر على أدواته السردية، استطاع أن يتجاوز هذه المعضلة، وأن يحيل الجفاف والجدب إلى خصوبة ورواء من خلال اعتماده على ثلاث تقنيات سردية، هي:
1- التوزيع؛ فالكاتب لم يقدّم المادة الحكائية كتلة سردية واحدة، بل عمد إلى توزيعها على ثلاثة عشر جزءًا، وكل جزء يتمحور حول محطة حكائية ويحمل عنوانًا خاصًّا (الهندول – غرام الحمير – أربع درجات بمقياس رختر – طشقند العزيزة – السعداء ليس لديهم ساعات – عندما مات الزمار – الآتي من بلاد الشمس – فتاة القطار – مياسة الروسية – حب في المسرح البلوشي – قهوة يمنية في حفل شواء روسي – البُنّ من ميناء عدن – تخمة ثقافة وتخمة بدانة)، هذا التوزيع، إضافة إلى هذه العناوين الفرعية، أضفى على المادة السردية قدرًا من التنوع والشاعرية.
نجح الكاتب في استثمار هذه التقنيات السردية الثلاث لتخليص النص من التقريرية وملل السرد الذاتي، وأضفى على الخطاب السيروي الكثيرَ من الخصوبة والتنوع والشاعرية.
2- الإلصاق (الكولاج)؛ وأقصد بذلك النصوص الغنائية أو الشعرية التي اقتطعها الكاتب من سياقاتها الأصلية ليلصقها في أماكن مختلفة من جسد النص، هذه الملصقات ليست بالطبع عبثية ولا الغرض منها التزيين، بل هي تمارس دورًا وظيفيًّا في النص، فقد استدعت هذه النصوص الحالةَ الذهنية والنفسية التي يعيشها الراوي، فغدت تشكّل جزءًا من خطابه. ومن الملاحظ أنّ الراوي يستدعي هذه النصوص ويُلصقها في جسد المكتوب في سياقات معينة، فهو يستورد هذه النصوص حين وَصْف المكان أو وصف الحالة الشعورية أو وصف الحبيبة.
فالراوي، مثلًا، حين يصف المكان المتمثل في مدينته (المُصَلى)، من الطبيعي أن تستدعي حالته الشعورية من مخزونه الثقافي أغنية "يا نجم يا سامر" (ص٣٩) للدكتور سعيد الشيباني، التي غنّاها الفنّان محمد مرشد ناجي، وحينما يرى منظر الحقول في ريف تعز يستدعي أغنية محمد محسن عطروش "بالله اعطني من دهلك سبولة وا شارح" (ص ٢٦)، وحين يصف لحظة انجذابه إلى الأنثى للمرّة الأولى، يستدعي الراوي من ذاكرته تلك الأبيات التي تُنسب خطأً إلى امرئ القيس، وتغنّيها الفنانة هيام يونس "تعلق قلبي طفلة عربية..." (ص٨٠)، وعندما يصف شَعر حبيبته ذهبيّ اللون، تحضر إلى ذاكرته أغنية "سال مِن شَعرها الذهب" (ص ٨٧).
3- تكسير خط الزمن الأفقي والتنقّل بين الأبعاد الزمنية، من خلال الاسترجاع والاستباق. لقد نجح الكاتب في استثمار هذه التقنيات السردية الثلاث؛ لتخليص النص من التقريرية، وملَل السرد الذاتي، وأضفى على الخطاب السيروي الكثيرَ من الخصوبة والتنوع والشاعرية.
وأخيرًا؛ لقد تأبطتَ قرص الشمس وذهبت ذات يوم (كان بالتأكيد أجمل من أيامنا هذه)، لتزرع الدفء في بلاد الصقيع، وليتك عدتَ إلينا بكتل من صقيع تلك البلاد لتزرعها في حنايانا، لعلها تخفف من لفح سعير أيامنا الكالحات التي أصبحنا نتنفس فيها الحرب، والجوع، والخوف.