منذ نشأة الحركة الوطنية في السودان كان السياسي التقليدي هو المهيمن، وكان الجيش مرتبطًا بالسياسي، وظل عبر المراحل المختلفة جزءًا من الكفاح الوطني العام.
منذ استقلال السودان في 1 يناير/ كانون الثاني 1956، كانت العلاقات المصرية– البريطانية ذات حضور كبير في الشأن السوداني، والسودان البلد الفسيفسائي الكثير التعدد والتنوع والإثنيات- تركيبته شديدة التعقيد والتباين والبداوة.
الطائفتان الكبيرتان: المهدية والمرغنية المهيمنتان، تنتميان إلى الشمال المهيمن هو الآخر، ولها ارتباط بالطائفية السياسية؛ وهو ما أدى إلى صراعات وحروب دامية بين الشمال والجنوب.
يمتد الصراع إلى المكونات القبلية والإثنية والجهوية على المياه والمراعي، وكان له بالغ الأثر على أوضاع بلد حديث النمو، وكان الملمح الأهم في التطور السياسي طبيعة النظام التعددي الديمقراطي منذ الاستقلال 1956، لكن الحرب بين الشمال والجنوب في العام 1955، وهي العقدة الأولى في مواجهة الاستقلال، كان سببها غياب الجنوب منذ البداية، وعدم تشريك المكونات الأخرى بندية في مناطق وجهات عديدة؛ وهذا ما أضعف الاستقلال، وأعاق التطور والاستقرار حتى اليوم.
إن جذور الحرب الأهلية يعود إلى العام 1821؛ وهو ما أحدث تدميرًا شبه كامل للسودان، كما يقول البروفيسور محمد عمر بشير. هناك تشابه بين الحالتين في اليمن والسودان في سردية الحرب، بَيْد أن الفارق أن السودان قارة تحيط بها دول عديدة، وفيها أعراق وأجناس وقبائل وديانات ومكونات كثيرة، أما اليمنيون فيعتقدون أن جذرهم القبلي واحد، وينتمون إلى لغة واحدة هي السائدة العربية، أما السقطرية والأمهرية فمعزولتان، وتأثيرهما محدود، ومتجاهَلتان أيضًا.
الجد الواحد، والدين الواحد، واللغة الأحادية نجم عنها واتكأت عليها صراعات كالحة تبدأ ولا تنتهي، وهي أكثر حضورًا وتسلسلًا وتناسلًا في التاريخ الآثم كتشبيه الأحرار اليمنيين.
في اليمن، الصراع الطائفي حاضر في فترات معينة، وكان البارز صراع الأئمة الزيدية مع بعضهم، بينما الصراعات القبلية والجهوية هي الأعم والأغلب.
التركيبة المجتمعية اليمنية والديموغرافية شديدة الصعوبة والتعقيد، والقرى المذرورة والمتناثرة التي تتجاوز المئة والعشرين ألف قرية ومحلة وحارة، وغياب المواصلات- تضاعف الصعوبة، وتزيد في التعقيد، وهناك اشتراك في انتشار الأمية، ولكنها في اليمن أكثر انتشارًا، وتتجاوز الـ50%، كما أن المشترك بين البلدين دعوات الإحياء الديني، وحروب التحرير فيهما آتية من الريف، ومن التركيبة القبلية الأكثر تخلفًا، والأشد عصبية وعنفًا وبداوة؛ ففي شمال اليمن كانت مناطق الإمامة الزيدية طوال عدة قرون، وهي جزء أساس من الثقافة الوطنية، مكرسة دائمًا لإشعال الحروب الأهلية، وكذلك مقارعة الوجود الأجنبي، وهي مستندة بالأساس إلى تحالفات قبلية، وقد رفدت القبيلة الإسلام السياسي بشقيه: الدعوي الشيعي (أنصار الله) - الحوثيين، والإسلام السياسي السُّنّي بتفرعاته المختلفة: التجمع اليمني للإصلاح، وتنظيم القاعدة، وأنصار الشريعة، وتيارات سلفية عديدة.
في السودان، هناك مشترك أعظم بين الإسلام السياسي السوداني بجميع تفرعاته، منذ دعوة المجاهد الأكبر محمد أحمد المهدي وامتداداتها: الإخوان المسلمون، والجبهة القومية الإسلامية متعددة الأسماء، والحزب الاتحادي الديمقراطي- الوجه السياسي للطريقة الصوفية المرغنية ذات الامتداد في مصر واليمن.
صحيح أن الحركة الإسلامية الحالية جديدة، ومعطى من معطيات واقع الصراع اليوم، وهي آتية من التركيبة المجتمعية الحالية، ولكن الأفكار تمتد وتتوارث، وما قامت به الجبهة القومية في السودان فيما سمي بـ"أحكام سبتمبر" من تقطيع الأيدي والأرجل، وإقامة الحدود على وثنيين عراة، يمتد إلى موروث الأنصار الوبيل، وما قام به التيار الإسلامي ومفرداته الراعبة في اليمن، ويقوم به حاليًّا أنصار الله (الحوثيون)، لا يختلف أيضًا عن قمع ونهج الإمامة البائدة.
الملمح الأهم في السودان، صراعات تبدأ ولا تنتهي، ولكن الأبرز والأخطر، التصارع في قلب الحكم، وبين الحكم، والمجتمع المدني الحديث الذي بدأ مع مؤتمر الخريجين 1942، وبين القوى التقليدية والقبائلية والجهوية، وبين التيارات المدنية.
كان الاستقلال السلمي والديمقراطي ملغومًا منذ البدء بالصراع الدامي بين الشمال والجنوب، وبين حزبين كبيرين: "الاتحادي الديمقراطي"، و"الأمة" اللذَين يتصارعان على الحكم، ويتوافقان على الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية للحكم، ويعملان على إقصاء الجنوب، وتهميش المكونات المختلفة، وبالأخص دعاة التمدن والحداثة.
تَنافَسَ الحزبان الكبيران، أو بالأحرى الطائفتان: المرغنية، والمهدية، على جرّ العسكر للصراع، وكان الهدف الأساس استمرار التفرد بالحكم، وضرب التيارات الشعبية المطالبة بالديمقراطية، والتنمية، والحداثة، والعدالة الاجتماعية، وربما كان خلافهما الأبرز في السياسة هو تحالفاتهما؛ ففي حين كان المرغني إلى جانب الأشقاء في مصر كما يقولون، كان حزب الأمة ضد هذا التحالف؛ فخلافاته مع مصر تعود إلى تمرد الجد الأكبر محمد المهدي (المهدي المنتظر)، في1881، وكان التمرد أو الثورة، موجهًا ضد الإنجليز والمصريين في آنٍ واحد.
في انقلاب إبراهيم عبود 1958، بدأ الصراع يتخذ البعد الديكتاتوري بإشعال الحرب ضد الجنوب، وضد القوى والتيارات المدنية والحديثة، وضد الديمقراطية في صورتها البسيطة، ودلالتها المحدودة؛ ومع انتفاضة أكتوبر 1964، بدأ الصراع يتخذ صورته الديمقراطية بين قوى وتيارات شعبية تدعو إلى بناء سودان ديمقراطي وحديث، وبين قوى شمولية لا تريد التغيير الحقيقي، ولا حل قضايا الجنوب سلميًّا، ولا تشريك أهالي السودان في مختلف المناطق النائية، وبالأخص في دارفور، والنيل الأزرق، والنوبة.
الحركة الإسلامية، سنّية كانت أو شيعية، تعتبر الحكم تمكينًا إلهيًّا، وتعتبر التشريع حقًّا إلهيًّا، وليس للبشر غير السمع والطاعة، والموقف من حرية الرأي والتعبير والمساواة واحترام حقوق الإنسان، كلها مرفوضة حتى من أهم المستنيرين
منذ انقلاب عبود أصبح العسكر هم المدافعون عن "وحدة" السودان، ومواجهة التمرد في الجنوب.
الإخوان المسلمون في السودان تلاميذ البنّا -بغض النظر عن التسميات، كما يقول الباحث حيدر إبراهيم علي، في كتابه المهم "التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية"- اقتربوا تكتيكيًّا من الديمقراطية باعتبارها وسيلة تمكين.
كانت خطيئة قوى الحداثة عدم القطيعة مع العسكر، والانقلابات العسكرية، وبالأخص القوميين: الناصريين، والبعث، وإلى حدٍّ ما، الحزب الشيوعي الذي نقد تجربته، وتبرأ منها؛ (انقلاب هاشم العطا في 1971).
عزز انقلاب النميري الناصري حينها في 1969، عسكرةَ الحياة، وقوَّى الجنوح أكثر فأكثر للديكتاتورية، والإيغال في الحرب، وتهميش الديمقراطية والحريات والحياة المدنية، وفتح الباب أمام انقلابات عديدة كان من ثمارها الكريهة، صعود نجم الإسلام السياسي، والجبهة القومية متعددة الأسماء.
الحركة الإسلامية، سنّية كانت أو شيعية، تعتبر الحكم تمكينًا إلهيًّا، وتعتبر التشريع حقًّا إلهيًّا، وليس للبشر غير السمع والطاعة، والموقف من حرية الرأي والتعبير، والاعتقاد، والمساواة، واحترام حقوق الإنسان، كلها مرفوضة، حتى من أهم المستنيرين، خصوصًا بعد التمكين، والنماذج كثيرة.
الوضع في السودان كارثي بكل المعاني منذ صعود نجم العسكر والإسلاميين، سواء في عهد النميري، أو "أحكام سبتمبر"، أو في عهد "الجبهة القومية الإسلامية".
العسكر، تلاميذ البشير، انقلبوا عليه لمواجهة وقطع الطريق على الانتفاضة الشعبية ضده في 2019؛ وعسكره، ومليشياته (الجنجويد) هم من قام بقتل المحتجين السلميين، وما زالوا يمثلون الطرف الأساس في الحكم. وبعد عامين على الانتفاضة الشعبية يواجهون بالقمع هذه الاحتجاجات السلمية المتصاعدة، ولن يكون مصيرهم مختلفًا عن مصير معلمهم البشير إن لم يكن أسوأ، أما التطبيع مع إسرائيل؛ فمردّه إلى الاستنجاد بإسرائيل لتسويقهم للراعي الأمريكي، وبعض دول المنطقة العربية الصديقة.