عند الحديث عن التراث الغنائي التهامي، أول ما يتبادر إلى أذهان اليمنيين أهزوجة أو مهجل "عطا وا رب امْكريم"، المعروفة على نطاق واسع. ترتبط الأهزوجة بموروث تهاميّ اجتماعي وديني، ودائمًا تبدأ أشطارها القصيرة بكلمة عطا.
ودائمًا ما تكون دلالة الكلمة في سياق الغناء إشارة إلى المعنيّ بالاستجابة، وليس كما يذهب الاعتقاد العام إلى أن معناها مأخوذ من العطاء، تبعًا للتشابه اللفظي.
إنها دلالة على المعنيّ بالاستجابة. فيما الفكرة الشائعة أنّها مأخوذة من العطاء، وفقًا للتشابه اللفظي. فالأحرى أنّ موقعها ينم على أنها اسمٌ وليست صفة. ولا يبدو أنّ لها معنى واضحًا في سياق اللهجة التهامية الدارجة. ولعلها كمفردة أو أغنية، ممّا تبقى من عبادات قديمة، أو سنعتبر ذلك فرضية نحاول البحث عنها.
على الأقل، نستحضر أحد أناشيد المزامير اليهودية، باروخ عطا أدوناي، ومعناها: تباركت أنت الرب، ويترنم بها اليهود في صلاة الشكر. فهل هناك علاقة بين كلمة عطا في المزمور اليهودي، ووجودها في الأهزوجة التهامية.
ما يجعلنا نذهب إلى اتصالها بجذور عبادات قديمة تسبق ظهور الإسلام في اليمن؛ أنّ حضور كلمة عطا ملتبس، ودائمًا ما تكون الإجابة عنها محتملة، بل إنّ البعض في تهامة لا يعرف تحديدًا ما معناها؛ هل عطا اسم أو أنّ معناها مشتق من العطاء.
وتأكيدًا على ذلك، لا يُعرف في تهامة استخدام لكلمة عطا ضمن الكلام اليومي الدارج، باستثناء تواجدها في تلك الأغنية. أي إنّها لفظ منقرض في الحياة العامة، سواء في تهامة أو باقي مناطق اليمن؛ وذلك إذا استثنينا التجمعات اليهودية التي ظلت باقية إلى فترة قريبة؛ أي قبل ترحيل ما تبقّى منهم إلى إسرائيل، نتيجة طردهم من قبل الحوثيين قبل سنوات، من قراهم في صعدة، وريدة في عمران.
ويعتقد الأكثر اطلاعًا من أبناء تهامة، أنّ المقصود منها طلب العطاء من الله؛ أي إنّها دلالة رمزية تقصد صاحب العطاء المرجو منه الاستجابة. وهذا تفسير أكثر منطقية، بحسب سياقها المتكرر في أشطار الغناء. وقد يذهب البعض إلى أنها اسم، لكنها بحسب الإرث الديني الإسلامي لا يمكن أن تكون دلالة اسمية للإله، وهذا الأمر يشمل منطقة تهامة اليمنية نفسها.
ظلت تهامة منطقة اختراق حبشي، بدعم روماني، خلال القرون الميلادية الأولى. ونجح ملوك حمير في طرد الأحباش خلال القرن الرابع الميلادي. ويبدو أنّ انتشار المسيحية في تهامة ونجران، حمل شكلًا من "الاختراق" البيزنطي بمساعدة الأحباش؛ ما دفع ملوك حمير إلى اختيار اليهودية كعنصر ديني يمكنه مقاومة الانتشار المسيحي.
ساهم الفنان الراحل حسن علوان في انتشار تلك الأهزوجة التهامية على نطاق واسع في اليمن. وأذاعها التلفزيون اليمني الرسمي خلال التسعينيات. وظف علوان مطلع الأهزوجة: «عطا وا رب امكريم، عطا زوّج الحريم، عطا والشباب فقير، عطا والبنات كثير».
فيما ناقشت أغنيته قضايا اجتماعية، مثل الفقر ومشاكل الشباب، بصورة جعلتها تلامس المجتمعات اليمنية. خلافًا لِلَحْنها البسيط، والذي اعتمد مذهبه على لحن الأهزوجة كما أشرنا؛ بينما ألحان الأغصان اتسمت بالغنائية والخِفّة، وحافظت على طابع اللحن التهامي.
اتصال بالمنطق
وبصورة عامة، فالأهزوجة موجَّهة بالدعاء للربّ الكريم، وتتضمن شكوى وعرض حال، مثل: الشباب فقير. وهكذا يظل تكرار عطا، إشارة لمن يرجى منه الاستجابة؛ أي الإله.
مع هذا نعود ونتساءل: من هو عطا؛ هل هو صاحب العطاء، أو دعونا نذهب بعيدًا؛ ما إذا كان أحد الأولياء، إذ تعد تهامة من مراكز النشاط الصوفي المهمة في اليمن؟ لكن لا أثر يخبرنا عن اعتقاد بوجود ولي يحمل هذا الاسم. والحديث عن ذلك بمثابة تكهُّن يستسهل الحقائق عبر ترقيعها ضمن معتقدات راسخة.
ولا نسعى لتخويل أنفسنا حقّ القول بأنّ ما نفترضه ونحاول برهنته حول جذور الأغنية، هو الحقيقة الصرفة. إنّما سنخوض فيما يبدو أكثر اتصالًا بالمنطق، وقابلًا للبرهنة.
وفقًا للترنيم اليهودي (باروخ عطا أدوناي baruch ata Adonai)، لصلاة الشكر، يمكن استشفاف صلة قديمة أو رابط بين عطا وا رب امْكريم، وبين الترنيمة اليهودية (تباركت أنت الرب). و(عطا) تعريب للفظ اليهودي في الترنيم الديني، ويُكتب (أته) بالعبرية، وهو الضمير (أنت)، وليس المقصود منه اسم الله، لكنه إشارة إلى المخاطب أدوناي؛ أي السيد أو الملك.
إذن، إذا اعتبرنا وجود صلة للأهزوجة التهامية بجذور عبادة يهُودية أو حتى مسيحية، فإنها لا تعني بأي حال مسمى للإله، أو إحدى صفاته. والإبقاء على (أته) العبرية، كدلالة على الإله أو الموجّه له خطاب الدعاء. يبدو أنه جرى الإبقاء عليه في ضمير المخاطب، أنت، بحسب المزمور اليهودي.
غير أنّ سؤالًا يفرض نفسه، وهو إذا كان هناك أثر عبادات يهودية في موروث يمنيّ؛ فالأحرى ظهوره في المناطق الجبلية، التي عرفت انتشار اليهودية، خصوصًا في القرن الخامس الميلادي، إذ أصبحت الدين الرسمي لمملكة حمير. كما أنّ أكثر التجمعات اليهودية ظلّت في المناطق الجبلية، ومعظمها غادر في 1947، في عملية عُرفت ببساط الريح، إلى فلسطين.
آثار ونقوش
وبالعودة إلى جذور ظهور الديانات السماوية، ظلت تهامة منطقة اختراق حبشيّ، بدعم رومانيّ، خلال القرون الميلادية الأولى. ونجح ملوك حمير في طرد الأحباش خلال القرن الرابع الميلادي. ويبدو أنّ انتشار المسيحية في تهامة ونجران، حملت شكلًا من "الاختراق" البيزنطي بمساعدة الأحباش؛ ما دفع ملوك حمير إلى اختيار اليهُودية كعنصر دينيّ يمكنه مقاومة الانتشار المسيحي، باعتباره اختراقًا سياسيًّا قد يسفر عن اختراق عسكريّ حبشيّ مجددًا.
يذكر نقش حميري في نجران، عمليةَ التنكيل التي تعرّض لها مسيحيّو نجران وتهامة الأشاعر، من قبل آخر ملوك حمير يوسف أسأر، وهي قصة معروفة في القرآن باسم أصحاب الأخدود، أو محرقة أصحاب الأخدود، كما تناقلها الإخباريون العرب.
وهذا قد يحملنا على التقليل من اتصال الأهزوجة بجذور يهودية؛ لأنّ تهامة تنصّرت في ذلك الوقت، أكثر من كونها تهوّدت.
لكن لا يمكن إغفال الأثر اليهودي على الغناء المسيحي؛ فصارت صلاة الشكر اليهودية (تبارك الرب) "باروخ عطا أدوناي" إلى "جراسياس أجيموس أدوناي"؛ أي نحمدك يا رب. ويقول العلامة الموسيقي كورت زاكس بأنه لا يزال حتى الآن تشابهٌ كبير بين أنغام المزامير في الكنيسة، وبين الإنشاد الديني لليهُود الشرقيين.
على أنّ أهزوجة عطا وا رب امْكريم، لا تحظى بشَبَه مع الإنشاد الديني اليهودي من الناحية اللحنية، ولا يمكن إيجاد صلة له بلحن المزمور اليهودي نفسه؛ إذ يتخذ اللحن طابعًا بسيطًا للأهزوجة، كما أنه يخلو من الترنيم الذي هو طابع الغناء الديني.
كما أنّ أسلوبه يتوافق مع مؤثرات لحنية إفريقية، تتسم بنسيج مقاميّ يتصل بالسلّم الخماسي.
وإذا كان هناك جذور للأهزوجة تشترك بعبادات قديمة، فعلى الأرجح أنها بتأثير مسيحيّ حبشي، وحاولنا البحث عن جذور كلمة عطا في اللغات الحبشية ذات الجذور السامية، وحسب نطقها هناك "أتا" والقريب للنطق التهامي "أطا". كانت النتيجة أنها غير مستخدمة في اللغة الأمهرية، لكنها تستخدم في اللغة التِّجْرية، ذات الجذور السامية، ومعناها "جاء". وربما كان لها أصل في اللغة الجعزية، وهي لغة البلاط الحبشي القديمة.
ووفقًا للمعنى التجري، لا يمكن إيجاد رابطٍ لسياق استخدامها في الأهزوجة؛ لذا من غير المستبعد أن تكون تجسيدًا لمسميات الرب، والذي سيتخذ لاحقًا صفة العطاء في المخيال التهامي العربي.
على أنّ هذا الاستنتاج محاولة لتفسير سياق ملتبس في نَصّ الأهزوجة، لا يمكن استبعاد أنه ما تبقى من معتقدات سابقة، انتقلت في الموروث الشفاهي، ودفن جذورَها الأصلية غموضُ الاعتقاد المشترك بإله انتقل من صفة دينية إلى أخرى.