شهدت الحوطة خروج محمد عبده زيدي إلى الدنيا، لكن الحوطة على سمة التحويط فيها، لم تحمِه مع عائلته من المصائر المفجعة، إذ لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على ولادته حتى فارق والده الحياة، فضاقت الحوطة بأسرته الصغيرة، فاضطرت والدته إلى أن تغادر به مع أخته إلى حافة القاضي بعدن.
في عدن، تلطف به القدر وعبّر عن لطافته باختياره طالبًا بمدرسة بازرعة، إذ سُخر له الشيخ بازرعة ليدفع تكاليف دراسته، بعد أن شفعت له أمه التي كانت خادمة في بيته، وبهذه المكرمة وجد (محمد) نفسه يصطف مع من يصطفون في صفوف الدراسة ليتلقّى التعليم بصورته الحديثة وليس صورته التقليدية. والمتابع لمسيرة هذا المطرب الموهوب لا يمكن أن يفهم حقيقة مسيرته دون الحديث عن مدرسة بازرعة التنويرية.
إن تكاثر مثل هؤلاء الفنانين المبدعين هو ما يجعل الحياة محتملة العيش ومطرزة بالحيوية والبهجة والجمال، وليس لصوص الثقافة والسياسة الذين يشوهون الحياة، ويخربونها بقبحهم.
الحاضنة الأولى
مثّلت هذه المدرسة في عدن بوابة تنويرية دخل منها الكثير إلى العصر الحديث، واستطاعوا التفاعل معه بطريقة ثقافية وجمالية، إذ كانت هذه المدرسة هي الاستثناء في عدن التي احتوت قسمًا خاصًّا بالموسيقى، وهذه المزية تُعدّ فضيلة كبرى في تلك المرحلة، والمفارقة المفجعة أن كل مدارسنا اليوم على اختلاف أحجامها ومسمياتها الطنانة لا يوجد بها قسم للموسيقى، فكم هي حياتنا يابسة في هذا الجانب الجمالي الذي يلون ذواتنا برنين النغم العذب، فالإنسان لا تكتمل شخصيته إلا بالموسيقى، والإنسان الذي لا يطرب للموسيقى ليس بسويّ؛ لذا نجد القبح بكل صوره يهيمن على حياتنا؛ لأن ذواتنا تعاني من القصور الجمالي.
إنّ فرادة هذه المدرسة بعنايتها بالموسيقى يعود الفضل فيها لمؤسسها الشيخ محمد عمر بازرعة الذي مدّها بكفاءات عالية رفعت من قامة المدرسة وطلابها الأذكياء، فتركت في أعماقنا ذكريات جميلة ما زالت تشع في وجداننا وضميرنا إلى اليوم، وهي تجربة تستحق أن نستلهمها ونستفيد منها. فهي على اهتمامها بالعلوم الشرعية الإسلامية، لم تتحرج من وجود قسم خاص بالموسيقى فيها. واللافت في تاريخنا الحديث البعيد منه والقريب أنه نادرًا ما تجد ثريًّا يمنيًّا من أصل حضرمي أو غيره يعتني بهذا الجانب بوعي مؤسسي يثمر على المدى البعيد.
إن مدرسة بازرعة خرج من رحمها كبار المثقفين، من أمثال (عبدالله باذيب وغيره)، ورجال الأعمال علوان الشيباني، وكبار الفنانين من أمثال: أحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي، الفنان الذي تميز بأسلوب فني خاص. كان هدية فنية وجمالية من هذه المدرسة. إذ استطاع أن يعزف على جميع الآلات المتاحة له في زمنه بما فيها النفخية، وأن يعي (سُلمي الماجير)، و(المانير)، وأن يقود أكثر من فرقة موسيقية، ويلحن باحتراف واقتدار فجدّد في الأغنية اليمنية وترك بصماته على متنها. إن تكاثر مثل هؤلاء الفنانين المبدعين هو ما يجعل الحياة محتملة العيش ومطرزة بالحيوية والبهجة والجمال، وليس لصوص الثقافة والسياسة الذين يشوهون الحياة، ويخربونها بقبحهم.
جابر والزيدي
جابر علي أحمد، ناقدٌ موسيقيٌّ يمنيٌّ يتقدّم الصف الأول في المشهد الموسيقيّ في اليمن، والمتابع الذي لم يتابع كتاباته، يكون قد فوت على نفسه فهم حقيقة هذا المشهد من داخله، وهو أحد الذين قاربوا تجربة الزيدي الفنية باقتدار. وصورة زيدي عند جابر بدت باهرة في سماء الأغنية اليمنية؛ إذ يرى زيدي أنه تلقى تعليمه على أيدي موسيقيين كبار، من أمثال: يحيى مكي، وبامدهف، وعاصر كبار الفنانين، مثل: قاسم، والمرشدي، وغيرهم، فصار كبيرًا مثلهم وفرض كلمته اللحنية البديعة في ظل التجاذب والتنافس بين هؤلاء القامات وغيرهم، فلم يكن نسخة منهم، بمن فيهم قاسم الذي زامله موسيقيًّا وتفاعل مع أغانيه. إنّ موهبة زيدي الموسيقية جعلت مكي يثق فيه موسيقيًّا، فولاه قيادة فرقة المدرسة، ثم انتقلت هذه الثقة إلى قاسم، فولّاه قيادة فرقته الموسيقية التجديدية. وبوساطة موقعه القيادي الموسيقي، تعرف على المقامات الموسيقية المتداولة في المشهد الموسيقي في عدن، ثم عمّق هذه المعرفة في أثناء وجوده في القاهرة، إذ احتكّ بالموسيقيين، من أمثال: القصبجي، والسنباطي، والموجي، وغيرهم، وشهد له هؤلاء بالقدرة على التلحين والغناء، وحفّزه هذا التشجيع على خوض تجربة التلحين، فكانت باكورة تجاربه التلحينية أغنية (أيام تمر وتدور) ثم أعقبها بتلحين أغنية (يا الخضري) المبنية على مقام حجاز كار، وهو مقام صعب؛ لأنه يحتوي على ركوزات نغمية فيها تفصيلات ثانوية (لكنه مقام ثري)، يثري تجربة من يلحن به ويمتنها. وجابر يرى أن (زيدي) لم ينظر إلى التراث الموسيقي المحلي بدونية، بل أخذ منه، فهو لم يهمل الموازين والإيقاعات المحلية، بل وأدمجها مع الوافد المصري، وعملية الدمج رفعت من درجات الإحساس الجمالي عند المستمع. وجابر يرى أن (زيدي) لم يذب في تجربة النموذج المصري، بل حاول أن يحافظ على فوحان رائحة العنصر اليمني، ولكنه لا ينكر وقوعه تحت تأثير الغناء المصري، تقنيةً وصياغة لحنية، ولجوءه إلى ضرب السارع ومزاياه، وهو إيقاع منتشر في الأغاني المصرية، لكنه في أغنية (يا الخضري) عزّز من حضور العنصر اليمني إلى درجة تضاءلت معه قوة الوافد المصري.
تعامل محمد عبده زيدي بوعي موسيقي مع أسلوب التلوين المقامي، فانتقالاته المقامية ليست سلسة فحسب، بل توظف بطريقة تخدم أغانيه وتصنع مفردات نغمية جميلة.
التلوين المقامي
وجابر لاحظ تأثُّر زيدي بتجربة التلوين المقامي عند قاسم، وربما عند غيره، لكنه انماز بتجربته الخاصة التي تنم عن أن جرأته أتت من قدراته اللحنية العالية، وتوظيفها جماليًّا في هذا الأسلوب الموسيقي، ويمكن متابعة هذا الأسلوب في أغنية (أيام تمر وتدور)، (وراسك). وجابر بلوَر أفكارًا لافتةً بهذه المسألة، وهي أفكار تبيّن خصوصية زيدي، ويمكن تكثيفها على النحو الآتي:
تعامل زيدي بوعي موسيقيّ مع أسلوب التلوين المقامي، فانتقالاته المقامية ليست سلسة فحسب، بل توظف بطريقة تخدم أغانيه وتصنع مفردات نغمية جميلة.
لا يتعامل زيدي مع هذا الأسلوب بطريقة تقليدية. فهو لا يعود في اللحن مع نهاية كل مقطع إلى المقام الأصلي، بل يخضع الأغنية لمقتضيات السياق اللحني. ففي أغنية (وراسك)، ينتقل من مقام إلى مقام، ومن جنس إلى جنس دون العودة إلى المقام الأساس، ونجد هذا الأسلوب في أغنية (نسيت اللي اتفقنا عليه).
اعتنى زيدي إلى جانب التلوين المقامي بالتلوين الإيقاعي، فنراه ينتقل من الموازين (4) إلى (6)، ومثل هذا الانتقال يضفي زخات جمالية على أغانيه، فيشد المستمع إليها، فيشيع بداخله حرارة الاستماع والاستمتاع.
كل موسيقيّ كبير ينسج مع المقامات علاقة خاصة، فتجد هذا الموسيقيّ أو ذاك يولع بمقام النهاوند، مثل: أحمد قاسم، وآخر بمقام البياتي، مثل: علي الآنسي، وثالث لا يتعامل مع مقام الصبا، ويعده مقامًا مغلقًا، وزيدي كان مولعًا بشدة بمقام (الراست)، فنجد أغلب أغانيه انحازت لهذا المقام، مثل أغنية (السعادة) التي دوخت بقلوب العذارى، بحسب تعبير جابر. وأغنية (يا حبيب العمر أحبك)، وجميل الوجه والقامة، وصياغاته اللحنية لهذا المقام مائزة. وعلى الرغم من صلابة وشدة هذا المقام، فإن زيدي طوعه بما يستجيب لهزات آهاته وزفرات وجدانه وتطلعات أشواقه وآماله الجمالية. وجابر استنتج من علاقة زيدي بـ(الراست) فكرة تحتاج تأمُّلًا، وهي أن العنصر الحاسم في البناء الموسيقي هو الفنان، وليس المقام أو أي عنصر آخر.
إنّ لمعان زيدي في سماء أغنية الشعراء الكبار هو بأن يغني لهم، مثل: مصطفى خضر، والجابري، وأحمد أبو مهدي.
وزيدي حينما يفتتح أغانيه بمقام البياتي، لا يعود إليه، بل ينتقل إلى جنس (الراست).