تعتمد قصيدة النثر على البساطة اللغوية في ألفاظها وتركيبها، وتبتعد عن التكلف والمحسنات البديعية، وعن الخطاب والبهلوانية في البلاغة والصياغة، إذ لا تميل إلى التطويل، بل تكتفي بما قلّ ودلّ.
تُعرّف (سوزان برنار) قصيدةَ النثر بقولها: "قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحدة، مضغوطة، كقطعة من بلور. خلقٌ حرّ، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية. إنّ الذين أجادوا في إنتاج قصيدة كهذه هم قلائل؛ لأنّها تتطلب تقنية وأسلوبًا ولغة تختلف عمّا في الشعر العربي القديم والحديث (العمودي وشعر التفعيلة). هذه التقنية جديدة على كُتّابها، ويقول أنسي الحاج -أحد أهم شعراء قصيدة النثر العربية، إن لم يكن أهمهم- عن شروط قصيدة النثر العربية: "لتكون قصيدة النثر قصيدة حقًّا لا قطعة نثر فنية أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة، هي: الإيجاز والتوهج والمغايرة(1)".
يمكننا القول إنّ قصيدة النثر هي ذلك الشكل الفني الذي يسعى إلى التخلص من قيود نظام العَروض في الشعر العربي والتحرر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليدية. وبالإضافة إلى ما تقدّم، فقد عرّفها بعضُ الأدباء والكتّاب والنقّاد بأنّها "نصٌّ تهجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد والنثر الفني، ويتسم بافتقاده للبنية الصوتية الكمية ذات التنظيم، إلا أنّ له إيقاعًا داخليًّا منفردًا بعدم انتظامه، ويبرر ذلك بتوزيع علامات الترقيم والبنية الدلالية وفقًا لبنية التضاد. ومن أبرز روّاد قصيدة النثر في الوطن العربي: محمد الماغوط، أنسي الحاج، توفيق الصايغ، وغيرهم. ومن الواضح أنّ الذين كتبوا قصيدة النثر لم يستقرّوا على تسمية واحدة إلا أخيرًا، ولعلّ من التسميات التي لحقت بهذا النمط الشعري: "قصيدة النص"، و"الكتابة بعيدًا عن الوزن"، و"النص المفتوح"، و"قصيدة الكتلة"، وقد سمّاه حسين مردات "النثر المركز"، وسمّاها الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح "الشعر الأجدّ".
وقال عنها كمال أبو ديب: "خلق إيقاع شعري حديث، ليس عملًا مفتعلًا، إنّه حتمية تاريخية، ولقد جاء حتمًا، ودور المؤثرات الخارجية يجب أن يجدّد من جديد(2)".
اعتمادًا على ما سبق طرحه، سنحاول الاقتراب من مجموعة الشاعرة شفاء العوبلي (لم أعد أشبهني كثيرًا)، التي جاهدت كي تجد ذاتها وسط هذا الركام، وتغامر بفعل الكتابة لتلون الحياة بفصول المعنى والدلالة والتصوير، ويمكن أن نقف في هذه المجموعة عند الآتي:
أولًا: الذاكرة فصولٌ للكتابة
تتشظى الذاكرة هنا إلى ذواكر ثلاث؛ ذاكرة بعيدة المدى، ترجع بنا إلى عقود وعهود تطل الذكريات فيها كجبل الجليد العائم، وذاكرة متوسطة المدى تطوف بنا بضع سنوات نعبر من خلالها إلى القادم، لكن لا بدّ من التكلفة على المستوى الذاتي، وذاكرة أخرى قصيرة المدى تتأرجح بين اللحظة والفقدان والتخلي.
للذاكرة فصول للكتابة، تبدأ هذه الفصول في قصيدة "لم يعُد الفراغ مربكًا" (ص٧):
أناملي تخلّت عن مداعبة النجوم
ولم تعُد مدينتي مأساتها الوحيدة المطر
تعلمت الطرقات كيفية ارتداء معاطفها
وتعلمت ذاكرتي كيف تعانق النسيان
تقف الشاعرة هنا أمام تحدٍّ عاطفي، عنوانه التخلي، فلم يعُد يُربكها الفراغ الممتد داخلها؛ لأنها تجاوزت عذاباتها، فقميص الحزن كما تقول، لم يعُد معلقًا في خزانة روحها، وحتى ذاكرتها تعلمت كيف تعانق النسيان.
فصل آخر للذاكرة تجلى في نص "حلم" (ص٢١):
يتعمد إرباكي
لذيذ ومشاكس
وغالبًا غليظ وجارح
يتحرش بذاكرتي
وهنا أضافت بُعدًا آخر للتحرش، ليس جسديًّا فحسب، إنما تحرش في الذاكرة والتفكير، تحرش غير لطيف وغير قابل للتصنيف.
تتابع الشاعرة فصول الذاكرة، منطلَقًا للبوح والتنفيس والأماني البيضاء، ففي نص "نص" (ص٢٧):
أسرق نصًّا
من ذاكرة
تحترف
النسيان
أتفاجأ به
منسلًّا من قلب الذاكرة
ففي هذه القطعة النثرية، المفعمة بالتضاد بين النسيان والذكرى، الذاكرة احترافية ما بين النجوى والشكوى والسلوى.
كذلك في نص "أوراق في كتاب الذاكرة" (ص٣٢)، يمتد فعل الذاكرة عبر الذكريات والأجراس وقهوة الصباح، يتجلى ذلك في تبعثر أوراق كتاب الذاكرة بين مقعد الذكريات المطل على سنين الفرح، وصوت جرس الباب في ليل شاحب، وحبات القهوة العائمة في أنفاس الصباح.
وهناك في نص "فصل أخير للذاكرة" (ص٣٤)، الشاعرة تخاطب عقلها الباطن في ثنايا الذاكرة، لتعبر عبر نثرياتها إلى الشرفات والطرقات والممرات حتى تتخلص من خوفها غير المبرر كي لا يطفو نبضها فوق مياه الحياة، فتصبح ورقة مكشوفة في محيطها القامع.
نصٌّ يُعرِّي المحيط الاجتماعي القامع، ويُعرِّي معه أيضًا، حياتنا الداخلية التي تستخدم كل الحيل الدفاعية لتبرير خيباتنا وإسقاط كل فشل على الآخر، ونُقنع أنفسنا أننا نحن ذواتنا، ولا نعيش حياة مفصلة على الآخر الطارد، وليس علينا كيانًا وكينونة، حتى غدا التكيف السلبي إحدى الميكانزمات الدفاعية التي تذوّت فينا كي لا نواجه، ونظل في هروبنا المستمر ونكوصنا المفجع.
ثانيًا: تشظي الذات إلى ذوات أكثر خوفًا
تعيش الذات غربة مركبة في نصوص هذه المجموعة، ذاتٌ صامتة مسلوبة فاقدة الإرادة ومصادرة الفعل ومبهمة حتى من نفسها، تعيش صراعًا داخليًّا حادًّا مريرًا بين ما تريد وما لا تريد، ففي نص "حروف صامتة" (ص١٦)، تقول:
وفي حالة صمتي
أرغب بالصمت
وحينما يشتد الصراع بداخلي
وتضرب الأعاصير مساحات استقراري..
أرغب بالصمت
وازداد صمتًا
فالشاعرة تصمت في كل الأحوال وتزداد صمتًا مع كل تجربة حتى أصبح الصمت حياةً أخرى لها سلوى تناجي بها نفسها من وحشة الوحدة وتخلِّي الآخر.
وتتوالى تشظيات الذات إلى ذوات متوحدة بالطبيعة وبالآخر، ففي نص "أنثى حبرية" (ص٢٩)، تقول في مطلع النص:
أنا أنثى
ذات مزاجٍ حبريّ
لا أخشى الإنفاق
السرية للكلمات..
إلى أن تقول:
أنا أنثى
ذات فصول
ذات مطر
ذات صباح
ذات قمر..
فالحبر يُشير إلى الغموض، والذات تخاطب الآخر عبر الحرف وتُعلي من قيمة أنوثتها عبر الكلمات، ولا تخشى البوح والتعبير بأي صورة من الصور، فالذات مبعثرة بين الحلم والمزاج والغموض، تقف مجرّدة من كينونتها وصيرورتها حتى إشعار آخر.
وفي نص "لم أعُد أشبهني كثيرًا" (ص٣٣)، التي عنونت الشاعرة به هذه المجموعة، تقول في نهايته:
سأرسل روحي اعتذارات ومواساة
لعلي أرمم دمار خرابك
فالدمار الداخلي عربد في ذاتها، بل في ذواتها جمعاء حتى أفقدها ذاتها الحقيقية، فهي ذات مهشمة تواسي نفسها عبر صرخات رفض واعتذارات تحاول أن ترمم خرابها الذي لم يعُد قابلًا للترميم.
وأيضًا في نص "نبص باهت" (ص٣٥):
فمشاعرك الزجاجية
ستعكس ذاتي لكل المارّين على أرصفتك
وحزني الجليدي سيترك ضبابًا
على نافذتك يشوّش الرؤيا
في هذا النص، الذات امرأةٌ ومرآة معًا، فهي امرأة بذاتٍ شفافة تعشق الضوء برغم حزنها الكبير يشوّش نافذة الرؤية ويضع حجابًا وجدارًا نفسيًّا عميقًا...، وهي مرآة تعكس كلَّ ما يقع عليها، لكن أبعادها ومقاساتها ليست مطابقة للواقع.
ثالثًا: الفصولُ معطياتٍ طبيعيةً للبوح
تقف الشاعرة في منتصف الوقت لتتربع على فصول كتابتها وتنثر نصوصها دون تحفظات أو ثقل الالتزامات، لتعبر بها إلى الحرية والبوح، تلعب بها من كل الساحات، فالشاعرة تريد كلمات تسري في الفصول والبحر والأرجاء، لترسل للمطلق شكوى الوطن الجريح وعذابات المجتمع الكفيف الفاقد للبصيرة وليس البصر.
ففي مطلع نص "هنا وهناك" (ص٢٢):
هنا رصيد الوقت يهدر في
الغياب والرحيل
الحرب والموت
وانتظار منسيّ قدومه
هناك
على بعد
فالشاعرة هنا، أجادت العزف بواسطة سيمفونية متعددة الوتريات، ألحانها فصول الغياب القارس والرحيل الخريفي والموت بحرارة الانتظارات، ولا تخلو من ربيع مدهش يتجاوز المكان واللحظة، فكل هذه الفصول جوقة موسيقية، كانت الشاعرة المايسترو الوازن لإيقاعاتها.
وتستمر الفصول معطياتٍ للبوح والنثر، فنص "آخر فصول الهزيمة" (ص٦٠)، قسّمته الشاعرة إلى عشرة أجزاء نثرية قصيرة، وكلّ نص يقدّم فصلًا آخر؛ فصلًا للاعتذار للنفس على تهتك ذاكرتها بالحنين، وفصلًا للتفاؤل مع وقف الأحلام، وفصلًا للوداع بطريقة الدم دون مقدمات ولحظة وداع موجعة، وفصلًا أخيرًا للأمل المتلازم بالضياع، تتوالى الفصول، حتى تصل بنا الشاعرة إلى ضفاف العمر، حيث تعيد سردياته بصور تراجيدية دامية.
فنَصّ "شفائيات" (ص٦٦):
مأساتنا الأكثر خوفًا
أننا...
لم نستطع الركض في ساحة العشرين الفسيحة.
قطفت سنواتنا قبل أن تزهر
ففي أزقة أي أربعين سنعيش؟!
نحن عالقون في أشياء لا تشبهنا...
نصٌّ يُعرِّي المحيط الاجتماعي القامع، ويُعرِّي معه أيضًا حياتنا الداخلية التي تستخدم كل الحيل الدفاعية لتبرير خيباتنا وإسقاط كل فشل على الآخر، ونقنع أنفسنا أنّنا نحن ذواتنا، ولا نعيش حياة مفصلة على الآخر الطارد، وليس علينا كيانًا وكينونة، حتى غدا التكيف السلبي إحدى الميكانزمات الدفاعية التي تذوّت فينا كي لا نواجه، ونظل في هروبنا المستمر ونكوصنا المفجع.
بعد هذا التحليق العابر في مسارات الذاكرة وأغوار الذات وتجليات الفصول، يمكننا أن نشير إلى الآتي:
١- جاهدت الشاعرة بصور متعددة في الإيجاز والتكثيف في الشعور، أدواتُها الأحاسيسُ واللغة والصورة الشعرية والرؤى والمكان والزمان.
٢- بنية جمل النص وفقراته تسحب القارئ حتى يُنهي قراءة النص.
٣- هناك حالة من الاسترسال والإطناب والشرح في بعض النصوص؛ ممّا يفقدها جماليتها.
٤- طغى الشحن العاطفي والتعبئة الوجدانية على أغلب نصوص هذه المجموعة، حيث إنّ هناك نصوصًا عدّة تعبّر عن نفس الموضوع وبنفس الدلالات والكيفيات.
٥- تجربة كتابة قصيدة النثر تحتاج إلى المزيد من القراءات المعمقة في كتابات أدونيس ونازك الملائكة وغيرهم، وذلك للاستلهام والمغايرة.
الهوامش:
1- أحمد بزون: قصيدة النثر العربية (الإطار النظري)، دار الفكر الجديد، الطبعة الأولى، 1997م.
2- محمد عبدالوكيل جازم: "الفضاء، النص، الخيال"، مركز الدراسات والبحوث، صنعاء– اليمن، الطبعة الأولى، 2011م.