(2)
في يناير 1965، وصل عبدالله محمد شمسان، برفقة زميله حسن العزي وبعض المعدات الصغيرة، للبدء بتشغيل إذاعة تعز. كانت المدينة في هذا الوقت تعبِّر وبشكل لافت عن التحولات الجديدة في
البلد الخارج من ظلمة القرون، ومستجيبة لروح التحديث، التي حملها الوافدون؛ وتعزّزت أكثر حين نشط رأس المال العائد من مستقرات الهجرة في الاستثمار في المساكن والمتاجر والمعامل الصغيرة والورش، فظهرت المباني الجديدة، وازدحمت المدينة بالباحثين عن فرص جديدة للحياة، في مدينةٍ كانت رئة اليمن الكبيرة.
الشارع الوحيد الذي كان يربط المدينة القديمة -المسوَّرة والمبوَّبة بإحكام- بمركز الحكم في منطقة عُرضي الجحملية، صار بجواره شارعٌ جديد اخترق المدينة من منطقة بئر باشا إلى حوض الأشراف صعودًا من العقبة، وسُمّي الجزء الحيوي فيه بشارع الرئيس جمال عبدالناصر الذي كان في ربيع العام 1964م ضيفًا على المدينة، فعجت بأمواج البشر من كلّ مكان، في مشهد لم ترَ اليمن مثيله، وفي ميدانها الشهير ألقى خطابه الناري حين طالب بريطانيا بحمل عصاها والرحيل عن الجنوب اليمني. كان لهذا الخطاب مفعول السحر في وعي اليمنيّين، فنشطت حركة مقاومة المحتل في الأرياف القريبة من عدن، قبل أن تصل إلى المدينة الأشهر لاحقًا.
الشارع القديم، والذي كان وحيدًا، صار اسمه (26 سبتمبر)، وامتداده داخل سور المدينة صار اسمه شارع (الجمهورية)، ويربط البابين الكبير وموسى، وفي شارع 26 عمومًا بدأت تتشكّل تعز الجديدة؛ المدارس، المقاهي والمطاعم، المستودعات التي بدأت تعرض أفخم المنتجات المستجلبة من عدن، وكانت قبل قيام الجمهورية يندر عرضُها تمامًا.
وعلى حواف الشارع الجديد (شارع جمال)، نشأت المؤسسات الجديدة من بنوك وفنادق حديثة تلبي طلبات الزوّار الكثر للمدينة، التي كانت لا تزال تحمل روح العاصمة بوجود السفارات والقنصليات والمراكز الثقافية. حتى إنّها أصبحت مركزًا متقدّمًا للنشاط السياسي للثوّار اليمنيّين الذين يكافحون من أجل إجلاء المستعمر البريطاني من مدينة عدن والمحميات الشرقية والغربية؛ فقد كانت قيادة الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمنيّ تتخذ من تعز مقرًّا متقدّمًا لنشاطها السياسي، وإنّ منظمة التحرير بقياداتها وكوادرها صارت المدينة حاضنةً حيوية لنشاطاتهم، وألِفت المدينة ومبارزها ومقاهيها وجوهًا، مثل: سالم ربيع علي، وقحطان الشعبي، ومحمد أحمد البيشي، وعبدالله الأصنج، ومحمد سالم باسندوة، وغيرهم.
ولكن قبل ذلك كله، كان في عهد الإمام أحمد الذي اتخذ من مدينة تعز خلال عقد ونصف (1948-1962) عاصمةً لحكمه، وقبل ذلك مقرًّا له بوصفه وليًا للعهد ابتداء من العام 1940، لتنشأ في محيط المقام وفي المناطق القريبة منه أحياءٌ جديدة، وتوسعت خلال عشرين عامًا، وكان أغلب سكان هذه الأحياء من الوافدين الجدد من مناطق الشمال، وعملوا في الدوائر القريبة من القصر وعسكريون لحماية السلطة التي تعرضت لهزتين كبيرتين في 1948 و1955 قبل أن تنفجر بها ثورة سبتمبر. هذه الأحياء (الجحملية، والعُرضي، وسوق الصميل، وحوض الأشراف، وحارة المستشفى)، صارت تعبّر عن التنوع السكاني في عاصمة الحكم ومركز السلطة الجاذب، وصارت بيوتات معروفة، مثل: "بيت الوشلي، بيت أبو طالب، بيت الوزير، بيت العسولي، بيت مالك، بيت شرف الدين، بيت الروضي، بيت الرجوي، بيت الصعر، بيت الشماحي، بيت العمري، بيت الربيع، بيت القصوص، بيت الحمامي، بيت السوسوة، بيت الأكوع، بيت الحيمي، بيت الذاري، بيت شيبان، بيت الويسي، بيت الكبسي، بيت عقبات، بيت مطهر"- جزءًا حيويًّا من نسيج المدينة، حتى وإن كانت التمايزات الثقافية (اللهجة والملبس والطعام)، والمذهبية، والسياسية (ولاءات الحكم)، كانت الفاعل في قراءات الوعي الشعبي واستحكاماته.
كتبت ذات وقت عن الجحملية، أنّها:
"تحضر في تاريخ تعز المعاصر بوصفها حالة للتعدد الجغرافي والثقافي التي تنطوي عليها المدينة ذات الإرث الثقافي والسكاني والهُوياتي المتمايز في اليمن، حتى صارت الجحملية تُعرف باليمن الأصغر.
نشأت هذه المنطقة في السفح الجنوبي لجبل صبر، بالقرب من منطقة ثعبات التاريخية، حيث الهواء النقي والحدائق الوارفة، على غير الحال من المدينة القديمة المكتظة والمسيجة بالسور والأبواب وتداخل الأحياء التي نشأت في سفح القلعة الأيوبية، والتي كانت أيضًا مستوطنة بالملاريا والصفار.
اتخذتها الإدارة الحكومية العثمانية في احتلالها الثاني لليمن (1872–1918م) مقرًّا لكبار الموظفين الحكوميين والقادة العسكريين وثكنات للجيش، بعد أن صارت تعز كمدينة عاصمة (متصرفية) عظيمة في ولاية اليمن، وتمتد سلطتها على المنطقة الممتدة بين سهل تهامة في الحديدة والمناطق المستقلة عن الاحتلال الإنجليزي الممتدة إلى الشمال الشرقي لعدن. وتشمل أراضي المخا والشيخ سعيد، وشمالًا تمتد إلى منطقة السحول الأخضر، وقضاء مذيخرة والعدين.
أُسر وعائلات تركية كثيرة استوطنتها، مثلما استوطنت المدينة القديمة أيضًا، ومن أشهر الأسَر التركية في المدينة: "بيت آغا، وزيوار، ورضا، وجمال، والأفندي، ومحرم، والأغواني"، ونقلت الكثير من مظاهر التمدن، الذي سيؤسّس لاحقًا للاختلاط العجيب فيها.
(**)
كان في المدينة دار ضيافة وحيد، يقدم خدمات فندقية متواضعة في المبيت والإعاشة لضيوف الحكومة، وبأمر من الحاكم، فصار فيها وفي غضون سنوات قليلة، بعد ثورة سبتمبر، أكثر من فندق حديث، مثل فندق الإخوة في قمة جبل الضبوعة، والمواجه تمامًا لجبل صبر، وفندق الوحدة العربية في منتصف شارع 26 بجوار عمارات الغنامي ومكتبة الوعي الثوري.
المشوار الذي يبدأ من باب المدينة الكبير، مرورًا بالشارع الذي انبثقت منه اليمن -حسب تعبير عبدالرحمن بجاش- صعودًا إلى منطقة العرضي، يوصل بكل تأكيد إلى (المركز الحربي) الذي كان وقتها مركز الاستقطاب الحيوي للمتطوعين الشبّان الراغبين بالالتحاق بالتشكيلات العسكرية الجديدة، التي أخذت على عاتقها الدفاع عن ثورة سبتمبر وتثبيت النظام الجمهوري.
كان في هذا المركز خبراء مصريّون إلى جانب خبراء سوفييت، تولى الترجمة لهم بعضُ الشبان العائدين من موسكو، وصاروا بعد ذلك ذوي مكانة كبيرة في تاريخ اليمن الثقافي والسياسي، أمثال: (عمر الجاوي، وأبوبكر السقاف، وعبدالله حسن العالم، وغيرهم).
كان بالقرب من المركز الحربي، ما كان يعرف بالمقام (مقر حكم الإمام أحمد)، والذي شهد قبل عشرة أعوام من ذلك التاريخ حركة 1955، التي قادها المقدم أحمد الثلايا قائد الجيش ضدّ الإمام ومحاولته استبداله بأخيه عبدالله، قبل أن يستعيد الإمام السيطرة على الوضع، ويقوم بتصفية الحركة ورموزها في أبريل من ذات العام.
في هذا الوقت، كانت لجان حصر الممتلكات ومحتويات المقام وقصر صالة، قد فرغت تمامًا عملها في العام 1965، وتحضرني هنا رواية الراحل حسين السفاري أحد أعضاء لجنة الحصر حين قال:
"أثناء التفتيش والبحث، نجد تحت الوسائد الخاصة به رسائل وجوابات وقصائد مديح، وفي الرفوف بعض التحف البدائية، وقناني عطور مستخدمة وأغلفة هدايا (صناديق صغيرة تشبه ما تُحفظ به المجوهرات)؛ أمّا في الحقائب الجلدية الكبيرة إلى جوار السرير، فقد وجدنا فيها شيلانًا وفوطًا وأقمشة إنجليزية راقية كانت تصله كهدايا في الغالب من مأموري الجمارك في النقاط الحدودية في الراهدة والمفاليس ومعبق والمضاربة، ومن التجار والمغتربين والمهاجرين اليمنيّين في عدن وما وراء البحار وأفريقيا، ووجدنا أيضًا علب شوكولاتة تقليدية ماركة ماكنتوش، كواليتي ستريت، بعلبها الصفيحة الملونة، وقناني متعدّدة من الكولونيا الفرنسية العتيقة ريف دور، والتي كنّا نستخدم ما يشبهها في مقرّ القيادة لدعك أجسامنا بمحتواها حينما يعز علينا الحصول على الماء للاغتسال. أيضًا، وجدنا صورًا لبعض من نساء القصر، وهي في الغالب من الصور التي أخذت لأجل الجوازات التي سافرن بها كمرافقات للإمام في رحلته العلاجية الطويلة إلى روما وتجاوزت الأشهر الخمسة في العام 1959".