تمر المرأة اليمنية بالكثير من الأحداث الصعبة التي طرأت على حياتها وتزايدت في الآونة الأخيرة منذ اندلاع الحرب في اليمن، حيث تواجه الكثير من المعوقات والصدمات النفسية نتيجة لعدم قدرتها على التأقلم وتقبّل كلّ ما مرت به من ظروف قاسية بسبب فقدان أب أو زوج أو الانتقال والتهجير من مدينة لأخرى أو مواجهة الفقر وانعدام الخدمات الأساسية.
وأصبحت المرأة عرضة للكثير من الاضطرابات النفسية والسلوكية التي سببت لها صدمات وأمراضًا نفسية عديدة؛ فالمرأة -بطبيعة الحال- كائن رقيق وحساس وضعيف جدًّا عند مواجهة الصدمات التي تؤثر عليها وتحدث تغييرًا كبيرًا في حياتها.
وعلى الرغم من مكابدة المرأة في المجتمع وتحملها للكثير من المسؤوليات داخل وخارج المنزل إلا أنها تتعرض دائمًا إلى الكثير من الاتهامات والانتقادات غير المنصفة، كما أجمعن النساء اللاتي أجرت "خيوط" معهن استبيانًا حول ذلك؛ حيث ترى الغالبية، وبنسبة 79,9%، أن البعض في المجتمع، وخاصة الأسرة لا يقدرون آلامهن النفسية ولا يعيرونها أي اهتمام، ويعتبرونها أحيانًا شكلًا من أشكال المبالغة. فالحرب في البلاد لم تستثنِ أحدًا من الضغوطات النفسية، حيث تعرضت الكثير من النساء في اليمن للانتهاكات والاعتداءات والنزوح.
كل ذلك أثر على صعوبة وصف المرأة لمعاناتها وضعف صحتها النفسية عند المُقاساة وتحمل أعباء الحياة الثقيلة، فظهرت اضطراباتها النفسية عن طريق علامات ظاهرة على الجسم يصعب تشخيصها من قبل الأطباء.
انعدام الأمان
تعاني العديد من النساء اضطرابات نفسية؛ نظرًا لعاطفتهن المفرطة، وتداخل مشاعرهن عند تلقي الصدمات والانتكاسات؛ حيث أفادت منظمة الصحة العالمية في تقريرها لعام 2020، أن عُشر سكان العالم يعانون من اضطرابات نفسية.
ويقصد بالاضطرابات النفسية Mental Disorders، "حالة عضوية نتجت عن خلل في مواد كيميائية في المخ تسمى "موصلات الإشارة العصبية"، ويسبب هذا الخلل عددًا من المشاعر السلبية التي تجعل الإنسان غير قادر على القيام بالأمور اليومية الطبيعية، كما أنها تتسبب له اضطراب في وظائفه الأساسية، مثل التفكير أو السلوك".
لم تكن تدرك عائشة أنها ستعيش حياة بائسة وآلامًا متتالية بعد أن رفضت الزواج من أحد أبناء قريتها بلا مبرر، إذ لم تعِ ما كانت تمر به من حالة نفسية جعلتها فيما بعد عرضة لأساليب الجهل ووسائله، بالرغم من تعنيف والدها وضربه الشديد له، لكنها رغم ذلك أصرت على قرارها بالرفض وعدم القبول بالزواج.
وتعتبر مشاكل الصحة النفسية من بين أكبر خمسة أسباب رئيسية للأمراض غير المعدية، حيث تؤدي إلى عجز كبير وتكبد تكاليف اقتصادية واجتماعية فادحة، ويلعب الحزن دورًا كبيرًا على صحة الفرد.
ويؤكد تقرير منظمة الصحة العالمية، أن واحدًا من كل خمسة أشخاص في العالم مهددون بخطر الإصابة باضطرابات نفسية تؤدي إلى الانتحار، وتصدر التقرير الدول العربية التي تشتد فيها الحروب النزاعات، كاليمن نتيجة لتفاقم العنف فيها وغياب الاستقرار وانعدام الأمان وعدم تقنين الانتهاكات، خاصة التي تتعرض لها المرأة، في حين يذكر التقرير أن أربعة من كل خمسة أشخاص مصابين بالمرض النفسي نساءٌ، وهذا يؤثر سلبًا على كل جوانب حياتهن.
وبالرغم من كمية الخطر الذي تسببه الأزمات النفسية، إلا أن البعض تمتنع عن اللجوء للعلاج النفسي أو مراجعة طبيب نفسي خوفًا من ردّة الفعل والاتهام بالجنون أو السخرية والاستهزاء وضعف في الإيمان والشخصية، وذلك بنسبة 57.9%، حسب الاستبيان الذي قامت به "خيوط"، وشمل مجموعة من النساء لا تتجاوز أعمارهن 40 عامًا، فيما 23% لا يمانعن من الذهاب لعيادات نفسية لأخذ الاستشارة.
أما البقية 19.1%، تعلل عدم التفكير بالذهاب إلى طبيب نفسي عند الشعور بالاكتئاب، نتيجة لتكاليف الجلسات النفسية الباهظة، خاصة مع تردي الأوضاع الاقتصادية وقلة المراكز المتخصصة بالعلاج النفسي في اليمن.
في السياق، تقول الكاتبة الروائية ريم توفيق لـ"خيوط"، إنها مرّت بظروف نفسية صعبة بسبب الحرب، وبرغم تفكيرها بزيارة طبيب نفسي إلا أنها لم تذهب؛ لأنها استعادت نفسها عن طريق الكتابة، ولكنها أحيانًا تلجأ لاستشارات دون الخضوع لجلسات نفسية.
وتضيف: "أحيانًا لا نستطيع الوقوف على قدمينا دون مساعدة حين تصبح الحياة معتمة ملبدة بالغيوم نعجز عن رؤية الوجه الجميل في الحياة؛ لذا علينا أن نلجأ للطب النفسي؛ لأن النفس كالجسد تحتاج لطبيب أيضًا".
تغيرات هرمونية
تشير دراسات في الطب والصحة العامة أن مرض الاكتئاب النفسي، يتسبب بنسبة 40% من المشاكل النفسية الأخرى، ويزداد بشكل كبير نتيجة للأعباء الاقتصادية، كما هو الحال في الدول النامية مثل اليمن، وخاصة عند فئة النساء.
ويعود ذلك نتيجة للضغط النفسي القاسي والقلق والتوتر؛ مما يجعل المرأة أقل قدرة على التفكير، إذ إن الإجهاد النفسي يؤثر على صحة الدماغ في وقت لاحق من العمر، كما تسهم اضطرابات الاكتئاب والقلق في أكثر من نصف إجمالي السنوات الضائعة التي تُعزى إلى المشاكل النفسية.
ويرى الدكتور محمد عبدالرزاق، أخصائي نفسي في حديثه لـ"خيوط"، أن التغيرات الهرمونية للمرأة والتي تحدث شهريًّا أو قبل سن اليأس، تسبب الكثير من الاضطرابات النفسية وتحدث تغيرات في المشاعر، مثل اليأس والمزاج المكتئب والغضب وضعف التركيز وانخفاض الطاقة، فتشعر المرأة بالوحدة وعدم القدرة على البوح بمشاعرها بكل صراحة؛ لذا ينبغي على الأسرة الوقوف إلى جنبها.
ويشير إلى أن التغيرات الهرمونية التي تطرأ على المرأة قبل الدورة الشهرية، تزيد من الكآبة، وهو "حدث شهري فيسيولوجي لكل امرأة، يؤثر على الصحة النفسية بشكل يختلف من امرأة لأخرى".
يتحدث طبيب نفسي عن مرض يصيب عادة الرجال بنسبة أكبر، إلا أن هناك فتيات يصبن به نتيجة لتجارب مؤذية في الطفولة من إيذاء جسدي أو جنسي، وقد يكون نتيجة تعرضهن لعنف أسري "رضوض نفسية في مرحلة الطفولة" تظهر عند الكبر.
ويتابع الدكتور محمد، أن تغيرات اضطراب الدورة الشهرية، يزيد من ارتفاع معدل خطر الإصابة باضطراب الاكتئاب، حسب دراسة طبية بنسبة تتراوح من 2 إلى 10%؛ لذا يشدّد على ضرورة أن يستوعب الرجل التغيرات النفسية المصاحبة لفترة الحمل؛ لأنها أكثر تعقيدًا وتسبب للمرأة الكثير من التغيرات النفسية والجسدية، وتقديم الدعم النفسي والامتنان لها ولدورها في الحياة حتى لا تتفاقم المشكلة، ومِن ثَمّ تؤدي إلى حدوث اكتئاب ما بعد الولادة.
الجهل وقلة الوعي
لم تكن تدرك عائشة أنها ستعيش حياة بائسة وآلامًا متتالية بعد أن رفضت الزواج من أحد أبناء قريتها بلا مبرر، إذ لم تعِ ما كانت تمرّ به من حالة نفسية جعلتها فيما بعد عرضة لأساليب الجهل ووسائله، بالرغم من تعنيف والدها وضربه الشديد لها، لكنها رغم ذلك أصرّت على قرارها بالرفض وعدم القبول بالزواج.
قامت أسرتها التي تقطن إحدى المناطق الريفية التابعة لمحافظة صنعاء، بالذهاب بها إلى أحد "المشعوذين" في القرية، يدعي القدرة على معالجة أمراض لا يقدر عليها في الحقيقة، لعلاجها، إذ قد تكون تعاني من (سحر) يمنعها من الزواج.
استغل هذا الرجل الذي يعمل في مجال السحر والشعوذة جهل أسرة عائشة طيلة ثلاث سنوات خضعت فيها الشابة لأسوأ أنواع العلاج من كي شوّه جسدها وضرب وأعشاب للتداوي وخلطات متعددة دون جدوى، أدّت إلى تفاقم أزمتها النفسية والجسدية، وسببت لعائلتها أضرارًا مادية ومعنوية واجتماعية وإحباطات وضغوط جعلتهم يتركون القرية والانتقال إلى المدينة.
اطّلعت "خيوط"، على قصة هذه الفتاة من خلال زيارة قامت إلى أحد المراكز المتخصصة بالعلاج النفسي، إذ مرت بأزمة نفسية صعبة تم على إثرها تحويلها من قبل طبيبة في العاصمة صنعاء إلى مركز للعلاج النفسي لتلقي العلاج المناسب وإعادة تأهيلها، حيث اتضح أنها تعاني من اضطراب نفسي بسيط يدعى الجامو فوبيا (gamophobia)، وهو الخوف الشديد من الزواج، وقد يؤدي في بعض الأحيان إلى نوبات هلع تساوي نوبات الخوف من الموت بشكل كبير.
ويتحدث طبيب نفسي لـ"خيوط"، أن هذا المرض يصيب عادة الرجال بنسبة أكبر، إلا أن هناك فتيات يصبن به نتيجة لتجارب مؤذية في الطفولة من إيذاء جسدي أو جنسي، وقد يكون نتيجة تعرضهن لعنف أسري "رضوض نفسية في مرحلة الطفولة" تظهر عند الكبر.
عائشة كمئات من الفتيات والنساء اللاتي تعرضن لاضطرابات نفسية إلا أن وقوعهن في مأزق الشعوذة الرائج بصورة تبعث القلق في قرى ومدن يمنية عديدة بسبب آفة الجهل وقلة الوعي بالصحة النفسية، زجّت بهن إلى الهاوية بسبب تأخر العلاج.
الأمان الذاتي
تعدّ الصحة النفسية الأمان الذاتي للإنسان، وهي جزء أساس من الصحة العامة، ويقصد بها "القدرة على الثبات العاطفي والاستمتاع بالحياة".
وتعتبر سعدية العولقي، طبيبة نفسية، في حديث لـ"خيوط"، أن الصحة النفسية حالة من الشعور التام بالسعادة أو الراحة الجسمية والعقلية والاجتماعية، وليس مجرد الخلو من المرض وانتفاء العجز والضعف".
وتضيف أنها تمثل مدى توافقنا ورضانا عن أنفسنا وكل ما حولنا، ومدى قدرتنا على أن نكون أكثر مرونة لكي نستطيع حل أي مشكلة تواجهنا، وأن نكون قادرين على الخروج منها بأقل خسائر ممكنة، فالصحة النفسية، وفق حديثها، تعني أن نكون أكثر وعيًا بكل تصرفاتنا وسلوكياتنا الناتجة عن المواقف التي نتعرض لها في حياتنا اليومية.
وقد تتغير الصحة النفسية مع مرور الوقت بسبب المشاكل النفسية التي تنجم غالبًا بفعل الأزمات الاجتماعية ومتاعب العمل والحروب والنزاعات التي تؤثر على الأدوار والوظائف التي نقوم بها.
كما أصبحت الصحة النفسية مصطلحًا بعيدًا كل البعد عن قاموس المرأة، بالرغم من احتياجها الشديد إليه، وهو ما تجسده أهداف مبادرات توعوية وإرشادية ظهرت مؤخرًا، تعمل على تعزيز ثقافة الصحة النفسية عبر المركز الاستشاري للإرشاد النفسي. لكن المشكلة تتمثل برفض كثير من النساء يعانين من مشاكل نفسية في تلقي العلاج.
وترتبط الصحة النفسية بالعديد من العوامل، كتحسن الصحة الجسدية والإنجاز التعليمي الأفضل، وزيادة فرص العمل والإنتاجية وتحسين المهارات للفرد، وهو ما يجعلها مسؤولية الجميع.