ربما كانت المرة الأولى التي نرى فيها احتفالًا شعبيًّا بثورة السادس والعشرين من سبتمبر، لا يتسم بطابع رسمي. في ليلة الخامس والعشرين من سبتمبر، انتشرت صور عن قيام جنود وسط صنعاء بنزع أعلام اليمن عن سيارات، ومصادرتها. وبصورة عكسية تحوّلت مدينتا صنعاء وإب وبعض المناطق الريفية إلى مهرجان شعبي تلقائي، مواكب سيارات يحمل فيها الشباب والفتيات أعلام اليمن، وهتافات لليمن تُردَّد على مسامع الجميع، مصحوبة بأغانٍ وطنية.
كان المشهد يتخذ مسارًا معاكسًا لتوجهات جماعة الحوثي، فمُنذ سيطرتها على صنعاء في 2014، اختفت ملامح الاحتفالات الرسمية بالأعياد الوطنية، التي شكّلت الهُوية اليمنية، ليس فقط 26 سبتمبر، إنما 14 أكتوبر ذكرى انطلاق الثورة في 1963 ضد الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن، والـ30 من نوفمبر حين غادر آخر جندي بريطاني عدن، لإعلان الاستقلال.
شكّلت تلك المحطات، لحظات تراكم، لا يمكن فصلها عن بعضها، تكلّلت بالوحدة اليمنية في 22 مايو 1990. وجميعها توارت من الفضاء العام الرسمي بالموازاة مع حرب مستعرة شهدتها اليمن منذ مارس 2015، باستثناء مناطق سيطرة الحكومة المُعترف بها دوليًّا، التي تآكلت في مناطق سيطرة المجلس الانتقالي الذي يدعو للانفصال.
وعمليًّا، كانت الجمهورية المُرمَّزة بثلاثة ألوان، الأحمر والأبيض والأسود، تجر معها عِلّات وخطايا صراعات سابقة، نتج عنها مضمون أعرج للسُّلطة، دون إغفال تعقيدات الواقع اليمني. وهذا الواقع الشائك، فرض نفسه على تصميم شكل سلطة قائمة على مركزية هشّة، ظلت تُعاني مع توسع مؤسساتها العسكرية والأمنية والحكومية.
وكل ذلك، قام على اختلال إداريّ، وفساد مستشرٍ، وتنظيم متداخل محكوم بنفوذ قوى عسكرية وسياسية وقبَلية. فاختلطت السياسة بجذور متأصلة في تكوين المجتمعات اليمنية، وشكّلت تعارضًا مع أي توجه لبناء الدولة. وفي قراءة سريعة لواقع الدولة، فإن بنية مؤسسة الدولة، بصرف النظر عن طبيعة الحكم السياسي، ومظاهر تقاسم نفوذه، تصبح مكتسبات عملية يمكن البناء عليها.
غير أنّ إشكالية اليمن كمخيال وطني يصوغ نفسه على انقسامات أكثر التصاقًا بالواقع، وهذا بطبيعته، أنتجته مضامين الصراعات المُركبة خلال الفترة الماضية، فما تم إعلانه كشكل اتحادي خلال الفترة السابقة -وهو ما كنت أراه حلًّا- كان أشبه بسياق حالم، يتعارض مع الواقع، بمعنى أنه بحاجة إلى تراكم سياسي، تعززه بنية السُّلطة ومؤسساتها. فنظرًا لضعف المفهوم السياسي، وطموح النُّخب، تشكّلت الانقسامات المناطقية.
وبالتالي، استعاد هذا الطموح نفسه في ظروف ساعدت على تهيئة قوى جديدة، أعادت إنتاج نفسها وفق مضامين السيطرة التقليدية، لكنها أفسحت المجال لتدخل إقليمي مباشر قادته السعودية.
كل هذا أعاد فرز طموح قوى تحاول أن ترث المنظومة القديمة، وأخرى تعمل على استعادة نفوذها الذي عرضته الاحتجاجات الشعبية للاستلاب، لكنه فرز يستعير حضوره من تشكيلات تقليدية، فرضت نفسها على الواقع، وفقًا لحيز الهيمنة المناطقية.
وعلى الأرجح، هو ما عبر عنه زعيم المجلس الانتقالي الداعي للانفصال، عيدروس الزبيدي، بوضوح ودون مواربة لوكالة الأسوشيتد برس الأمريكية؛ بأنهم سيستعيدون دولة الجنوب، بمفاوضات مع الحوثيين. مضيفًا أنها ستكون مفاوضات طويلة.
إذن، يُدرك الزبيدي بأنه لا يزال هناك مسار طويل، يمكن من خلاله استعادة الدولة الجنوبية التي يرفع رايتها. ولا يعني أنه يستبعد حدوث نزاع عسكري مباشر، لكنه، يحدد اعتقادًا واضحًا؛ بأن الساحة السياسية في اليمن، ستفرغ له وللحوثيين، وبموجبها ستعود اليمن إلى ما قبل 90.
هذا ما يُخيل، لرافعي هذا الخطاب، على الأقل من ناحية علامات تعيد شكل الحدود إلى ما قبل الوحدة. بينما ستعود سياسيًّا ومخياليًّا إلى ما هو أبعد بكثير، أي ما قبل ثورة 26 سبتمبر، بوصفها لحظة تحوّل في التاريخ اليمني الحديث، وإعادة توصيف المكان جيوسياسيًّا بقصر اليمن على ما كان عليه خلال فترة حكم المملكة المتوكلية، والعودة إلى المصطلح الاستعماري "الجنوب العربي"، الذي ثارت عليه 14 أكتوبر، وألحقته بالمستعمر الإنجليزي خارج أراضي الجنوب اليمني.
وها هو يعود بأدوات مختلفة، وضمن تدخل إقليمي، لكنه يعيدنا إلى ثورة سبتمبر، التي حفزت انطلاق الثورة في الجنوب، فالمملكة السعودية تدخلت لمساعدة الملكيين، وبدعم غربي قادته بريطانيا وفرنسا، بوصفهما رمزية للاستعمار التقليدي، وما يمنحهما ذلك من إعادة رسم قواعدهما الجيوسياسية في المنطقة.
إذن، تأتي لحظة سبتمبر اليوم، بالتقاطع مع ظروف ومتغيرات تجتاح الواقع السياسي اليمني، ولعل خروج اليمنيين الشعبي للاحتفال بثورة سبتمبر، وفي العاصمة اليمنية تحديدًا، كان ناتجًا عن شعور (لا واعٍ) بمخاطر ما تمر به اللحظة الوطنية.
غير أنه، بصورة أكثر وضوحًا، كان شكلًا من الانتفاضة الناعمة، قالت فيها صنعاء وكذلك إب، كلمتها في وجه جماعة الحوثي. وكان المشهد علامة موثقة لتراكم مدني، عرفته اليمن خلال عقود، ظلّ محاصرًا بخطاب تقليدي تقاطعت فيه مصالح قوى دينية وقبَلية وسياسية.
ما هي الإجراءات التي ستتخذها جماعة الحوثي في الفترة المقبلة، وبالتحديد نحو الفضاء المدني الذي أكّدت الأحداث أنه لا يزال ينبض، متحدّيًا بمقاومته الناعمة، وفي مركز سيطرتها؟
ولا يمكن النظر إلى المشهد بكونه حالة فصل بين المدنية والقبَلية أو الريف؛ لأن ذلك سيكون بمثابة إنكار لواقع، ينم عن تعالٍ وإلغاء لشريحة مجتمعية تتسم بالحضور والفعالية على صعيد الواقع، وكانت جزءًا عميقًا ضمن الوجدان الوطني.
لكن المشهد جسّدته صنعاء وإب، كمدينتين استحضرتا فيه المكونات الرمزية للمجتمع اليمني دون استثناء؛ أي باعتبارهما محطة التقاء دائم بين التكوينات اليمنية، بل إنّ ذلك شكّل صوتًا لا واعٍ إزاء ما تتعرض له الهوية الوطنية من مخاطر، ووفق عاداتهما تعيدان تعميق النبرة الوطنية التي بموجبها ينبغي أن يتخذه وعي اليمنيين باختلاف نخبهم وكياناتهم الاجتماعية.
ليس ذلك بوصفها مسودة حل، إنما حالة انفعالية اقتضتها الأحداث المُتراكمة على أزمة عميقة يعيشها الواقع اليمني.
وبالطبع، ستشكّل جرس إنذار لن يمر مرور الكرام بالنسبة لجماعة تعمل على فرض قبضتها السياسية على الواقع. على الأرجح، ستبدو لها تلك القوة الناعمة، مصدرَ قلق عميق.
ما يفرض علينا سؤالًا حول طبيعة الإجراءات التي ستتخذها جماعة الحوثي في الفترة المقبلة، وبالتحديد نحو الفضاء المدني الذي أكّدت الأحداث أنه لا يزال ينبض، متحدّيًا بمقاومته الناعمة، وفي مركز سيطرتها. وهو ما إن كانت ستتخذ إجراءات أكثر قمعية للتضييق عليه.
صحيح أنّ تدافع اليمنيين للاحتفال، حفزته مشاهد مُتعسفة، عند قيام جنود بنزع الأعلام اليمنية من سيارات، ومصادرتها، في الليلة السابقة ليوم 26 سبتمبر. وبصورة أكّدت أن الجماعة ترى في مظاهر الاحتفال بذكرى الثورة اليمنية، شكلًا مناوئًا لهم، كما أنّ المعتقد السائد لدى الجماعة، أن هناك أطرافًا حركت هذا التفاعل في الخفاء، وفي فترة تتوعد بتغييرات جذرية، أو ما أسمته عملية تصحيح في الحكومة، وهو ما تم الإعلان عنه ليلة احتفالهم بالمولد النبوي، الذي تزامن مع يوم 27 سبتمبر، بإقالة حكومة بن حبتور، وتكليفها بتصريف الشؤون العادية.
فهل كان للاحتفالات الشعبية، دورٌ في تأجيل قرار بموجبه سيتم استئصال ما تبقى من حلفائهم في حزب المؤتمر؟
وفقًا لردود فعل ناشطي جماعة الحوثي -بما في ذلك وصم الأعراض، وصفًا لصور الفتيات اللواتي ظهرن حاملات الأعلام من السيارات التي تجوب شوارع صنعاء، ودون أن نغفل، عدة قرارات فرضت فيها الجماعة شكلًا من حظر الاختلاط في عدد من كليات جامعة صنعاء- المشهد، يحمل تحذيرًا إيجابيًّا بالنسبة لأي سلطة حاكمة، مفاده: أعيدوا النظر في سياساتكم. يمكن اختزال ذلك في أنه كلما زادت أشكال القمع والتضييق، سيقابلها مزيدٌ من الاحتقان والغليان في الخفاء. وهناك خياران؛ إما أن تتخذ الجماعة سياسة أكثر مرونة، تُحفز النشاط الاقتصادي والاجتماعي وبصورة تُحدث انفراجًا، وإما أن تستمر في ممارسات القمع والتضييق.
والأرجح أنّ الخيار الثاني هو الذي ستشهده، وإن كان سيتخذ إجراءات تدريجية، ربما أكثر تسارعًا، لكن سيترتب على ذلك الكثير من المخاطر، لأنّ اليمنيين أرادوا استعادة وطنهم من هاوية، وإن اتخذ، شكلًا مُتخيلًا لهوية تتعرض للخطر، لكنه يتسم بالإنذار والتنبيه. بل وكانت النتيجة أنه للمرة الأولى في تاريخ العالم، تقوم جماعة تعتبر نفسها سلطة حاكمة، باعتقال مئات الشباب لأنهم رفعوا علم بلدهم اليمن، وهتفوا له، واحتفلوا بثورته.
ماذا نسمي ذلك؟!