يمكن تعريف العلم بطرق مختلفة، ويرجع ذلك إلى اختلاف الرؤى الفلسفية والمنهجية لفلاسفة العلم، ولن نخوض في هذه المسألة العويصة في هذه المقالة، وسنكتفي بالتعريف الموجز القائل بأن العلم هو نوع خاص من النشاط المعرفي، الذي يهدف إلى صياغة المعرفة الموضوعية، المنظمة، المثبتة حول العالم.
من هذا التعريف، يتبين أولًا، أنّ منتوجات العمل الأدبي والفني ليست علمًا، وإنما معرفة، وقد سبق أن أشار أرسطو إلى هذا الأمر في نظريته حول المعرفة، وثانيًا، أن العلم المعاصر يشمل، بدرجة أساسية، العلومَ الطبيعية، والعلوم التقنية، والعلوم الاجتماعية.
تكييف ثقافي للنص
هناك العديد من الاختلافات في تعريف التوطين (localization)، وهو، بوجه عام، نوع من التكييف الثقافي للنص، يرمي إلى إقامة تواصل فعّال بينه وبين متلقي النص في بيئة ثقافية أخرى؛ ومن هذه الناحية، يرتبط التوطين ارتباطًا وثيقًا بمفهوم العولمة (globalization)، التي تعرف بأنها عملية التكامل والتفاعل بين الناس والحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم.
وتشمل عملية العولمة كلَّ المجالات الأساسية لحياة المجتمع: الاقتصاد، والسياسة، والعلم، والثقافة، وتجري في ثلاثة مستويات أساسية: المستوى غير الحكومي (بين الشعوب)، والمستوى الدولي، والمستوى الحكومي الداخلي (المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية).
طالَبَ العديدُ من الكتّاب والسياسيين العرب بتوطين الثقافة؛ وذلك من أجل الحد من النتائج الثقافية السلبية للعولمة، وتركز اهتمامهم الرئيسي على السياسات المطلوب اتخاذها من أجل الحفاظ على الهوية الثقافية العربية والإسلامية، التي بدأت تضعف تحت تأثير البثّ الثقافي المتدفق لشبكة الإنترنت.
التوطين هو ترجمة للنصوص من لغة إلى أخرى، مع أنّ هناك من يؤكد أنّ التوطين والترجمة عمليتان مختلفتان، وحجتهم في ذلك أنه إلى جانب ترجمة النص، يشمل التوطين أيضًا تكييف التنسيق والصور ونظام الألوان والعملة والمقاييس.
وهذا الغرض لا يدخل في اهتمام هذه المقالة، التي نهدف من خلالها إلى إيضاح ضرورة توطين العلم في عصر العولمة، وتبيان الصعوبات التي تعترض هذا المشروع، واقتراح بعض الحلول لتلك الصعوبات، التي يمكن أن تكون نواة لسياسة حكومية مستقبلية، تعالج هذه المشكلة بوصفها مشكلة عامة.
وعلى كل حال، نفهم توطين العلم على أنه، بدرجة أساسية، ترجمة للنصوص من لغة إلى أخرى، مع أنّ هناك من يؤكد أن التوطين والترجمة عمليتان مختلفتان، وحجتهم في ذلك أنه إلى جانب ترجمة النص، يشمل التوطين أيضًا تكييف التنسيق والصور ونظام الألوان والعملة والمقاييس.
جرت أول عملية توطين كبرى للعلم في تاريخ العرب بعد توسع الدولة الإسلامية، بفضل الفتوحات، ووصولها إلى الشام ومصر وبلاد فارس، حيث دخل العرب في تفاعل نشيط مع ثقافات تلك الشعوب، وكان أبرز مظاهر ذلك التفاعل: الترجمة.
دار الحكمة ببغداد
نشطت في أيام خلافة أبي جعفر المنصور الترجمةُ من اليونانية والفارسية إلى العربية، وبلغت حركة الترجمة مرحلةً متطورة في عهد هارون الرشيد وابنه المأمون، حيث أسس الأول في عام 857 ميلادي، دارَ الحكمة في بغداد، وعيّن عليها يحيى بن ماسوَيه، من أجل تطوير حركة الترجمة. وبعد وفاة بن ماسويه عيّن الخليفة المأمون تلميذَه حنين بن إسحاق رئيسًا لدار الحكمة، وكان أبرز المترجمين للمؤلفات اليونانية إلى السريانية والعربية. ومن تلامذته الذين ساعدوه في كتاباته وترجماته ابنه إسحاق، وابن أخته حبيش بن الأعسم، وإصطفن بن بسيل، ويحيى بن هارون، وكان يراجع ترجماتهم ليصحح أخطاءها.
ومن الأسماء التي نبغت في الترجمة في القرن التاسع والقرن العاشر الميلادي: يحيى بن البطريق، الذي كان يلقّب ويعرف أيضًا بـيوحنا الترجمان، وعبدالمسيح بن عبدالله بن ناعمة الحمصي، وقسطا بن لوقا، وأبو بشر متى بن يونس القنائي، ويحيى بن عدي.
لعب هؤلاء المترجمون دورًا عظيمًا في توطين الفلسفة والعلوم اليونانية القديمة، ولم تكن هذه العملية سهلة كما قد يبدو للناس العاديين، الذين لا يعرفون صعوبات ترجمة العلوم من لغة إلى أخرى، حيث تتطلب معرفةً عميقة بالموضوعات العلمية المترجمة، وامتلاك قدرات لغوية خلّاقة.
على سبيل المثال، لم يكن العرب قبل ترجمة أعمال أرسطو إلى العربية يعرفون كلمة «مقولة»؛ لأنّ المترجمين العرب أوجدوا هذه الكلمة مقابل الكلمة اليونانية «كاتيجوريا» (κατηγορία)، مع أنّ المعنى الحرفي لهذه الكلمة هو: (عبارة، اتهام، علامة أو سمة).
وكذلك، أحدث المترجمون العرب كلمة «منطق»، التي لم تكن معروفة للعرب قبل حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية، مقابل الكلمة اليونانية «لوجيكي» (λογική)، المشتقة من الكلمة اليونانية «لوجوس» (λόγος)، وتعني: (علم، نظرية).
وجعلوا كلمة «ماهية»، التي شكلوها من دمج الكلمتين (ما هو) في كلمة واحدة، مقابلًا للكلمتين اليونانيتين «أُسيا، أبوستاسيس» (οὐσία, ὑπόστᾰσις;)، وهذه الطريقة في الترجمة في غاية الإبداع، حيث يركب المترجم من كلمات اللغة التي ينقل إليها كلمةً جديدة تمامًا.
كما لجأ المترجمون العرب أحيانًا إلى التعريب، على سبيل المثال: عربوا الكلمة اليونانية (μελαγχολία) بكلمة «ملنخوليا»، والكلمة اليونانية «كولون» (κόλον) عربوها بكلمة «قولون»، والكلمة اليونانية «جيوجرافيا» (γεωγραφία) عربوها بكلمة «جغرافيا».
طرق ثلاث للتوطين
إذن، لتوطين مصطلحات العلم ثلاثُ طرق رئيسة:
1- استخدام المصطلحات العلمية المعروفة في اللغة الأم للتعبير عما يقابلها من المصطلحات العلمية الأجنبية.
2- تكوين مصطلحات علمية جديدة في حالة عدم وجود مقابل في اللغة الأم للمصطلح العلمي الأجنبي.
3- استعمال المصطلح العلمي الأجنبي كما هو، مع نوعٍ من التغيير الملائم للغة الأم.
لكن لا يقتصر توطين العلم على توطين مصطلحات العلم، حيث إنّ لكل علم طريقة خاصة في التعبير تميزه عن سائر العلوم، وإلى جانب ذلك هناك سمات مشتركة بين كل طرق العلم في التعبير، وهذا الأمر يجب أن نأخذه بعين الاعتبار عند الحديث عن توطين العلم.
تعتمد كل الجامعات الحكومية والخاصة في سوريا اللغةَ العربية لغةً لتدريس العلوم والتقنية، ولا نسمع شكاوى عن تدني التحصيل العلمي في هذه الجامعات، واستطاع بعض خريجيها مواصلة التعليم العالي في الجامعات الأوروبية والأمريكية بنجاح تام.
وتوضيحُ هذا الأمر في غاية الصعوبة؛ لأنه من غير الممكن صياغة قواعد واضحة، يمكن بواسطتها تمييز خصوصية التعبير في علم معين عن خصوصيته في علم آخر، ومع ذلك كل أستاذ جامعي يعمل في تخصص معين يشعر شعورًا حدسيًّا بطريقة التعبير الخاصة بمجال تخصصه، ويسترشد بهذا الشعور حين يصحّح الرسائل والأطروحات الجامعية، التي يشرف عليها.
ومن القضايا الهامّة التي يجب أن يشملها التوطين في العالم العربي، تدريسُ العلوم كلها باللغة العربية، ولكن -كما نعلم- ما زالت العديد من التخصصات العلمية في الدول العربية تدرس في الجامعات باللغة الإنجليزية، وأهم تلك التخصصات: الطب، والهندسة، والحاسوب.
وتقدم الجامعات، التي تعتمد اللغة الإنجليزية لتدريس تلك التخصصات، بعضَ الحجج غير المقنعة لصالح هذا النظام التعليمي، ومنها وفرة الكتب المتعلقة بالطب والهندسة والحاسوب باللغة الإنجليزية، ولأن مصطلحات هذه العلوم باللغة الإنجليزية، صارت معروفة حول العالم.
ولكن تجارب الكليات الطبية في سوريا، تقدّم مثالًا ساطعًا على نجاح تدريس الطب باللغة العربية، وجامعة دمشق، على وجه التحديد، هي صاحبة الريادة في هذا المضمار، حيث بدأت بتدريس الطب منذ عام 1919؛ أي حين كانت سوريا لا تزال تحت الانتداب الفرنسي.
وحسب علمي، تعتمد كل الجامعات الحكومية والخاصة في سوريا اللغةَ العربية لغةً لتدريس العلوم والتقنية، ولا نسمع شكاوى عن تدني التحصيل العلمي في هذه الجامعات، واستطاع بعض خريجيها مواصلة التعليم العالي في الجامعات الأوروبية والأمريكية بنجاح تام.
ولو التفتنا إلى الطب في عهد الخلفاء العباسيين، لرأينا أنه كان يدرس باللغة العربية، وقد أبدع العلماء المسلمون في هذا المجال العلمي على نحو رائع، ولذا ترجمت أهم أعمالهم إلى اللغة اللاتينية، وكانت من المراجع الرئيسة لطلاب الطب في الجامعات الغربية طيلة القرون الوسطى.
حجج يدحضها النقد
يؤكّد أنصار تدريس الطب والهندسة والحاسوب باللغة الإنجليزية، أنّ هذا النظام التعليمي يسمح للطلاب بالاطلاع على كل ما هو جديد في مجالات تخصصهم، أي إنه بفضل تطبيق هذا النظام تتطور حصيلة الطلاب في اللغة الإنجليزية، ويصيرون قادرين على قراءة المصادر والمراجع العلمية ذات الصلة باللغة الإنجليزية.
ولكن هذه الحجة لا تصمد للنقد، إذا وجدت برامج عصرية مدروسة بعناية لتدريس اللغة الإنجليزية لطلاب الجامعات العربية، ومؤسسات تقوم بترجمة ما يحتاجه الطلاب من موضوعات علمية من اللغة الإنجليزية أو من اللغات الأخرى، مثل: الفرنسية، والروسية، والألمانية.
على الجامعات العربية أن تنشئ مؤسسات للترجمة، تقوم بنقل كل ما هو جديد في مجال العلم والتقنية إلى اللغة العربية بحسب طلبات كل قسم علمي، وهذا يتطلب إعداد مترجمين على درجة عالية من الكفاءة، وتخصيص مبالغ كافية لهذا الغرض.
إن الإصرار على تدريس الطب والهندسة والحاسوب باللغة الإنجليزية من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف اللغة العربية؛ لأن اللغة العلمية هي إحدى المكونات الأساسية لأية لغة، ويعني هذا على المدى الطويل فقدانَ الهُوية الثقافية للشعوب العربية.
كما أنّ هناك سلبية أخرى لتدريس العلوم لطلاب الجامعات العربية باللغة الإنجليزية، وتتمثل في عدم إجادة المحاضرين والطلاب إجادةً كافية للغة الإنجليزية، وهذا من شأنه أن يؤثر على استيعاب المادة العلمية، ولا يمكن المراهنة على تحسن الحصيلة اللغوية للطلاب مع الزمان، وهذا ما أثبتته العديد من تجارب الجامعات العربية، الآخذة بهذا النظام التعليمي.
وبالإضافة إلى كل ذلك، من المعروف أنّ العلاقة بين الفكر واللغة علاقة وثيقة، حيث إنّ اللغة تصاحب كل عمليات التفكير، ومن ثم عندما يكون التعليم في الوطن بلغة غير اللغة الأم، فإن الطالب يحتاج إلى ترجمة داخلية للعبارات التي يستمع إليها أو يقرؤها، ويخسر وقتًا غير قليل في كل عملية من هذه العمليات.
وخلاصة القول؛ يجب على الجامعات العربية أن تنشئ مؤسسات للترجمة، تقوم بنقل كل ما هو جديد في مجال العلم والتقنية إلى اللغة العربية بحسب طلبات كل قسم علمي، وهذا يتطلب إعداد مترجمين على درجة عالية من الكفاءة، وتخصيص مبالغ كافية لهذا الغرض.
وعلى خطٍّ موازٍ لهذه الخطوة الجبارة، يجب إعادة النظر في طرق تدريس اللغة الإنجليزية للطلاب الجامعيين، من قبل متخصصين تربويين ولغويين، واقتراح طرق جديدة وفعّالة لتدريسها، تضمن وصول حصيلة الطلاب الجامعيين باللغة الإنجليزية إلى المستوى الأكاديمي المنشود.