استطلاع / سعيدة عبدالغني- وفاء سليم
"بعد ضربة نقم من قبل الطيران، قبل حوالي أربع سنوات، انشق السقف، حاولنا رفعه بدعامات وعملنا سيليكون، لكن للأسف مع أي مطرة، خصوصًا خلال الفترة الحالية والفترات القليلة الماضية، تتحول الغرفة إلى مسبح دخل المطر من أماكن كثيرة ويخرب الأثاث الذي فقدنا معظمه خلال الأمطار الراهنة"؛ هكذا تعبر مريم عن معاناتهم، لـ"خيوط".
أيام صعبة تعيشها صنعاء، التي تشهد كغيرها من المدن والمناطق اليمنية أمطارًا غزيرة متواصلة منذ منتصف أغسطس/ آب 2024، حيث يقضي سكان كثيرٍ من المناطق في العاصمة ساعات يومهم في قلق من غزارة الأمطار التي تغمر منازلهم، خصوصًا تلك التي تأثرت بسبب القصف الجوي للتحالف بقيادة السعودية والإمارات.
تتركز المعاناة التي ترصدها "خيوط"، في المناطق والأحياء القريبة والمحاذية من جبال نقم وعطان والنهدين وغيرها، التي نالت النصيب الأكبر من القصف طوال سنوات الحرب في اليمن منذ العام 2015.
إضافة إلى منطقة صنعاء القديمة التاريخية، والمناطق والأحياء التي تنتشر فيها "العشوائيات" والمكتظة بالمنازل الشعبية، حيث تتزايد عملية الانهيارات للمساكن، بالتزامن مع عمليات نزوح داخلية للأسر التي تضررت منازلها نحو أقارب لهم داخل مدينة صنعاء.
تشكو كثيرٌ من الأسر في أحياء ومناطق عدة بمدينة صنعاء، معاناتهم الشديدة بسبب الأمطار الغزيرة المتواصلة خلال الأيام الحالية، حيث يبيتون في مساكن ممتلئة بمياه الأمطار وما خلفته من دمار وعبث، في ظل الجهود الواسعة والمنهكة التي يبذلها جميع أفراد الأسر لتفادي دخول مياه الأمطار أو في عملية إخراجها.
في هذا الخصوص، يقول مسعد جابر، من سكان منطقة حدة (جنوب صنعاء)، لـ"خيوط": "كل النوافذ خرجت من أماكنها بسبب القصف الذي تعرض له جبل النهدين على مدار السنوات التي تعرضت فيها صنعاء لقصف الطيران المتواصل، حيث قمنا بإصلاح الزجاج أكثر من مرة، والآن مع الأمطار الشديدة دخل المطر من كل مكان، بالرغم من محاولاتنا الترميم بالأسمنت، لكن بدون فائدة".
منازل هدّتها عشرات الغارات
خلال العشر السنوات الأخيرة، تعرضت اليمن لما يقارب الـ1065 ضربة جوية، وفق تقرير صادر عن منظمة مواطنة لحقوق الإنسان؛ إذ ألحقت هذه الضربات أضرارًا بالمنازل المحيطة بالأماكن المستهدفة، فتعرضت للتشقق وتكسر النوافذ، إضافة إلى تعرض بعض المنازل للشظايا التي أحدثت ثقوبًا بالجدران، ومع انهيار الوضع الاقتصادي عجزت الأسر عن ترميم ما أحدثته الضربات الجوية؛ مما جعلها في الوقت الراهن من أكثر المنازل تضررًا من الأمطار .
كما ذكر تقرير إحصائي حقوقي، أنّ ما يزيد على 27 ألف منزل ومنشأة مدنية دمرتها الحرب الدائرة في اليمن، حيث أوقع القصف الذي تعرضت له المدن اليمنية منذ بدء الحرب والصراع خسائر فادحة على البنية التحتية، وأدّى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد.
خالد العمراني، من سكان مناطق شمال صنعاء القريبة من "الفرقة الأولى مدرع"، وهي من الأماكن التي تعرضت للقصف خلال سنوات الحرب، يؤكّد لـ"خيوط"، أنّ أسرته تعيش أيامًا صعبة بسبب الأمطار الغزيرة التي تفاجؤوا هذه المرة بالمستوى الذي وصل إليه سقف منزلهم وضعفه واهترائه وتشقّق الجدران، في حين يقول علي النقيب، من سكان منطقة حدة القريبة من جبل عطان لـ"خيوط"، إنّ مياه الأمطار تغمر منازلهم التي تأثّرت كثيرًا بالقصف؛ بشكل يومي حيث لا يجدون وقتًا كافيًا لإخراجها مع تواصل الأمطار، خصوصًا لمعظم ساعات الليل في كثير من الأيام.
كما ترصد "خيوط"، ما تعيشه بعض المناطق، مثل: "مذبح"، والحصبة، و"شملان" (شمال صنعاء)، ومناطق أخرى في جنوب وغرب وشرق صنعاء، وبشكل خاص صنعاء القديمة، حيث وصلت مأساة كثير من السكان إلى ذروتها مع وصول الأمر إلى سقوط سقوف المنازل وغيرها من التأثيرات التي جعلت مياه الأمطار تجتاح منازلهم وتدخل إلى معظم غرفها.
انشقاق الأسقف وتسرب الأمطار
تشكو كثير من الأسر في عدة أحياء ومناطق بمدينة صنعاء معاناتهم الشديدة بسبب الأمطار الغزيرة المتواصلة خلال الأيام الحالية، حيث يبيتون في مساكن ممتلئة بمياه الأمطار وما خلفته من دمار وعبث، في ظلّ الجهود الواسعة والمنهكة التي بذلها جميع أفراد الأُسر لتفادي دخول مياه الأمطار أو في عملية إخراجها.
أسرة محمد ناصر، من سكان نقم، تعبر لـ"خيوط"، عن وضع منزلها مع الأمطار التي شهدتها العاصمة صنعاء: "من يوم القصف الذي تعرض له جبل نقم، ونحن نحاول ترميم الشقوق والسقف. نقلنا الأثاث إلى غرفة تم اعتبارها في مأمن من دخول المطر، لكن الأمر لم يكن كذلك هذه المرة، حيث كانت المفاجأة بأنها هي الأخرى لم تعد كذلك بعد ملاحظة تعفُّن في الفُرُش والأثاث بعد تسرب المطر إليها".
لم تكن ضربات نقم وحدها من أثّرت على منازل من يسكنون بجوارها، فعبدالكريم ردمان، القاطن بجوار "التموين العسكري"، يحكي لـ"خيوط" عن معاناته بسبب الآثار التي سبّبتها الضربات الجوية التي تعرض لها الجبل وعديد الأماكن القريبة منه، بالقول: "نحن المواطنين من ندفع ثمن هذا النزاع الذي سلبنا كل ما نملك من رواتب وتعويضات لخسائرنا النفسية والمادية منذ عشر سنوات".
يضيف: "نعاني من دخول المطر إلى منزلنا، حيث لم نستطع بناء سقف جديد يحمي أطفالي"، متسائلًا: "كيف يمكن أن أقوم بذلك، وأنا لم أستطع توفير لقمة العيش، فأنا مواطن بلا راتب ولا عمل منذ بداية الحرب".
أزمات وتأثيرات مناخية قاسية
منذ اندلاع الحرب في 2015، وبدء التحالف شنّ ضربات جوية على المدن اليمنية، بدأت الانتكاسات الاقتصادية تصيب الأُسر اليمنية التي تسعى جاهدة لتوفير لقمة العيش لأبنائها، فالصراع الدائر رحاه في البلاد، قد جعل 75% من السكان بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، وفق تقارير للأمم المتحدة .
ظلّ المواطن اليمني يُقارع الحروب السياسية والأزمات الاقتصادية، وصولًا إلى التغيرات المناخية وتغير أنماط هطول الأمطار وغزارتها .وقد شهدت محافظات يمنية عديدة أمطارًا غزيرة خلّفت أضرارًا كبيرة، وسط تنبؤات باستمرارية الأمطار وتحذيرات ممّا تخلفه بكثافتها .
يوضح الباحث الاقتصادي رشيد الحداد، لـ"خيوط"، أنّ الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للناس متردية للغاية، في ظل عدم وجود أيّ آمال بتعويض المتضررين من الحرب؛ لأنّ بند التعويضات لم يُطرح في أيّ تفاهمات معلنة أو غير معلنة. يتابع: "بالنسبة لعدم قدرة الناس على ترميم منازلهم نتيجة الأضرار الناتجة عن الأمطار، فيعود إلى تدهور الأوضاع المعيشية وتراجع معدلات الدخل".
من نزوح لآخر تتفاقم المأساة
تضررت الكثير من الأُسر اليمنية نتيجة هطول الأمطار وشدتها، وفق تقرير حديث صادر عن الأمم المتحدة، الذي يشير إلى أنّ حوالي 38 ألف أسرة تضررت من الفيضانات في اليمن، كما تسببت السيول الجارفة في وفاة ثمانية نازحين، منهم أربع نسوة وطفل، بالإضافة إلى إصابة 34 آخرين.
إضافة إلى ذلك، فقد جرفت السيول آلافًا من المخيمات، التي أُجبر النازحون على العيش فيها منذ 10 سنوات بسبب الصراعات المتتالية في مواطنهم الأصلية المشتعلة طيلة أمد الحرب .لم تجرف السيول قطعًا من قماش الخيام التي أوت النازحين لعقد من الزمن هذه المرة، ولكنها جرفت خيامًا ظلت تواري سوءة أطراف الصراع اليمني وعجزهم المستدام .
لم يثنِ النزوحُ ناصر الحملي، من محافظة حجة، الذي نزح مع أسرته إلى مدينة الحديدة ثم استقر به المطاف في العاصمة صنعاء، عن أن يسعى لتوفير حياة مستقرة كريمة له ولأطفاله بعيدًا عن تجمعات النازحين المكتظة والمساهمة بنشر الأمراض والأوبئة نتيجة لانعدام الأساسيات، كالصرف الصحي.
يروي ناصر لـ"خيوط"، عن وضعه بعد وصوله لصنعاء، قائلًا: "وجدت صعوبة كبيرة في وجود منزل مناسب يتلاءم مع قدرتي المادية، خاصة أنه عمل حر، فأنا أمتلك عربة متنقلة لبيع الكوافي والأحزمة، ولكني لم أجد بيتًا يؤويني بحوالي 30 ألف ريال شهريًّا، وبعد بحث طويل وجدت منزلًا شعبيًّا في شارع خولان بصنعاء، ومن يوم سكنته صرت أكره حياتي في كل موسم لسقوط المطر، بل صرت أكره المطر ذاته.
يعاني ناصر وأسرته كالكثير من النازحين، في صعوبة الحصول على منازل مناسبة للعيش بما يتكافأ مع قدرته المادية، فغالبية المنازل التي تؤويهم بسيطة، تدخلها مياه الأمطار طيلة أيام نزولها؛ الأمر الذي يتسبب بأمراض ومشاكل نفسية وصحية لدى أطفاله الصغار من شدة البرد.
وفي السياق، قالت زوجة ناصر لـ"خيوط": "أعمل جاهدة للحفاظ على صحة أطفالي، دون جدوى، وأقوم يوميًّا بإخراج الأثاث إلى الشارع لتعريضه للشمس، وعندما ينشف تعود الأمطار وأعود مرة أخرى، مضيفةً: "تعبت جدًّا من هذه الحالة، لم أعد أشعر بظهري من التعب". وكأنه كُتب في جبين النازحين أن يذوقوا ويلات هذا الصراع بالرغم من محاولاتهم في العيش وتمسكهم بالأمل في هذه الحياة.
بيوت منهارة وتاريخ مهدّد
"بعد أشهر من المتابعة لدى الجهات المعنية، بأن بيتنا الكائن في بستان السلطان (صنعاء القديمة)، قد يسقط كونه من البيوت المهددة بالسقوط، وقد تتأثر البيوت المجاورة أيضًا، ومع العلم أن البيوت في بستان السلطان تعتبر بيوتًا تاريخية لا يسمح بهدمها أو تصليحها، للأسف ما خفنا منه حصل. سقط البيت وتضررت كل البيوت المجاورة له، والحمد لله لم يتأذَّ أحد"؛ هكذا عبر أحد المتضررين من السيول في صنعاء القديمة على مواقع التواصل الاجتماعي عقب انهيار جزءٍ من منزله في حي البستان بصنعاء القديمة، التي تعتبر من أهم المنشآت المعمارية التاريخية، والتي صنفتها اليونسكو عام 1986، على قائمة المنظمة للتراث العالمي.
كما أعادت تصنيفها مرة أخرى على قائمة التراث العالمي المعرض للخطر سنة 2015، بسبب تداعيات الصراع، وتراجع جهود حماية المدينة وصيانة تراثها؛ إذ لم تكن هذه المرة الأولى التي تتعرض بها منازل صنعاء القديمة للانهيار بسبب كثافة الأمطار منذ مطلع آب/ أغسطس من العام الجاري، فالإهمال أيضًا طال أجزاءً واسعة منها .
كانت الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية قد أجرت في العام 2017، حصرًا لمعظم أجزاء مدينة صنعاء القديمة المتضررة، بإجمالي 2542 منزلًا، حيث أظهرت نتائج هذا الحصر أن 1467 منزلًا يحتاج إلى تدخل سريع؛ بسبب الأضرار المتفاوتة ما بين متوسطة وجسيمة، في حين قد تكون الإحصائية أكبر من هذا الرقم في حال تم حصر الإضرار التي حصلت خلال السنوات الثلاث الماضية، التي تشهد فيها جميع مناطق اليمن، منها صنعاء، تغيرات مناخية واسعة وأمطارًا غير موسمية شديدة الغزارة، ينتج عنها سيول وفيضانات مدمرة.
إلا أن معاناة المواطنين الذين يقنطون أحياء صنعاء القديمة مستمرة مع كل موسم للإمطار، وعلى الرغم من تقديم ملف إعادة ترميم وتطوير المستوطنات الحية؛ كونها الوجه المضيء للتراث الثقافي والعمراني للأحياء الأثرية كل عام، فإن المنازل المتضررة تزداد عامًا بعد عام .حيث قُدم للهيئة العامة ما يقارب مئة بلاغ من مُلاك منازل في أحياء صنعاء القديمة لمبانٍ معرضة للسقوط .
في السياق، عقدت اللجنة العليا للمحافظة على مدينة صنعاء التابعة لسلطة الحوثيين في العاصمة اليمنية، اجتماعًا طارئًا يوم 26 أغسطس/ آب 2024، ناقشت فيه أوضاع مدينة صنعاء القديمة، وسبل تحسين الخدمات فيها، ومعالجة الأضرار التي تعرضت لها جراء السيول والأمطار الغزيرة والتشوهات بما يضمن بقاءها في قائمة التراث العالمي .
يأتي ذلك في ظل الدعوات المتصاعدة التي تدعو إلى توفير الدعم اللازم وبذل الجهود والتدخل السريع من جميع الجهات المعنية لإنقاذ منازل المواطنين في صنعاء القديمة جراء الأمطار الغزيرة التي تشهدها البلاد.
ويلاحظ محدودية الجهود الإغاثية في هذا الجانب، إذ تعاني اليمن من نقص حاد في الموارد؛ بسبب الصراع المستمر في البلاد .وقد دعت المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية إلى تقديم المساعدات العاجلة للمتضررين، مشيرة إلى أن العديد من الأُسر تعيش في ظروف صعبة دون مأوى أو طعام. يعتبر هذا الوضع جزءًا من أزمة إنسانية أوسع تعصف باليمن، حيث يتفاقم الوضع بسبب التغيرات المناخية وغياب البنية التحتية القادرة على مواجهة مثل هذه الكوارث الطبيعية.
ومع استمرار التغيرات المناخية، يتوقع خبراء أن تزداد مثل هذه الحوادث في المستقبل، مما يستدعي ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لتأهيل البنية التحتية وتعزيز قدرة البلاد على مواجهة الكوارث الطبيعية.
القصف يفاقم التكيف مع قسوة المناخ
الجدير بالذكر أن المهندس علي محمد السراجي قد ذكر في كتابه (اليمن: أثر الحرب والتغيرات المناخية) أنه منذ بداية حرب التحالف على اليمن في عام 2015، تفاقمت نتائج التغيرات المناخية، حيث تعرضت اليمن لأكثر من عشرة أعاصير ضربت سواحل المحافظات الجنوبية؛ كمحافظة أرخبيل سقطرى، وحضرموت وشبوة والمهرة وأبين وعدن خلال الفترة من 2015 إلى 2024، وتسبّبت التأثيرات المباشرة لتغير المناخ بهطول كميات كبيرة من الأمطار، أحدثت فيضانات وسيولًا جارفة، وفي الحقيقة أنّ التغيرات المناخية التي تمثلت بالفيضانات قد أثرت بشكل مباشر على الأطراف المتضررة من الحرب .
وذكر أيضًا أن الحرب أدت إلى تراجع الوضع الاقتصادي للمجتمعات المحلية جراء انقطاع مصادر الدخل وتعرض أغلبها للدمار، وهي كلها أسباب كانت قد أسهمت في إضعاف قدرتها على مواجهة آثار الفيضانات، فضلًا عن التمكن من التكيف مع التغيرات المناخية.