لا أدري إن كان هذا الجيل الناشئ سينجو -على المدى المتوسط- من تداعيات الأزمات التي وجد نفسه عالقًا في توربيناتها، أو إن كان اللون الأصفر -على سبيل الاستشهاد- سيشكل له الدلالة ذاتها التي وضعها علماء النفس، وهم الذين تعرفوا عليه في عيون أقرانهم المصابين بفيروس الكبد واللوكيميا، أو في وهج القصف والغارات، وطوابير جالونات المياه الصفراء التي ينقلون بواسطتها المياه لمنازلهم من (سُبُل المياه) الموقوفة من قبل خيرين في حارات وأحياء العاصمة صنعاء، في الوقت الذي كشفت فيه تقارير دولية أنّ نحو (4.5) مليون طفل يمني يعيشون في منازل لا يتوفر فيها مصدر مياه محسن.
ضمن طابور طويل، ينتظر محمد بندر (12 سنة)، دورَه لتعبئة قرابة سبعة جالونات ماء، سعة عشرين لترًا -هي تقريبًا معدل استهلاك أسرته اليومي للمياه- من سبيل قريب في حارة الفوارس بحي سعوان، الذي يتبع جزءٌ منه أمانة العاصمة، والجزء الآخر مديرية بني حشيش التابعة إداريًّا لمحافظة صنعاء.
يترك محمد المدرسةَ في أحايين كثيرة، ليتسنى له نقل الماء قبل نفاده من الخزان، وفي مرات كثيرة يستدعي الأمر ذهابَه إلى بئر بعيدة نسبيًّا بأطراف الحي (أرتواز الوشاح). مهمة محمد اليومية الشاقة تتجسد فيها معاناة اليمني مع ندرة المياه، ومستقبل الحياة في العاصمة عمومًا.
يتضمن حوض صنعاء المائي 22 حوضًا فرعيًّا، ويمتد ليغطي تسع مديريات، بما فيها أمانة العاصمة، في حين لا تتجاوز مساحته الإجمالية 32.9 كيلو مترًا مربعًا، ويشهد انخفاضًا حادًّا في منسوب المياه السنوي، يتراوح بين 2 و6 أمتار، ولهذا الانخفاض -بحسب مصدر مسؤول في الهيئة العامة للموارد المائية- أسباب كثيرة، في مقدمتها النمو السكاني المتسارع في العاصمة، وزيادة أعداد الآبار المحفورة حول الحوض من 13000 بئر إلى 18500 بئر حاليًّا، بزيادة 5500 بئر، وأشار المصدر، الذي تحفّظ عن ذكر اسمه، في حديث لـ"خيوط"، إلى أنّ أكثر من 6000 بئر من هذه الآبار موجودة في مديرية بني حشيش.
مسافة بين تناقضين
بين الشحة وعطش العاصمة التاريخية الأعرق في الجزيرة العربية، سنوات قليلة لا تتجاوز العقدين، بحسب تقارير أممية، قدّرت أن الطلب على المياه سيزداد بنسبة تصل لـ120% بحلول سنة 2050.
تقديرات لا يفهمها محمد بندر، الطفل الذي يقضي سنوات طفولته الأولى في أزمة خاصة مع الماء، ومن حوله تستنزف المياه الجوفية بصورة تنذر بجفاف وشيك في حوض صنعاء المائي، الذي يتضمن 22 حوضًا فرعيًّا، ويمتد ليغطي تسع مديريات، بما فيها أمانة العاصمة، في حين لا تتجاوز مساحته الإجمالية 32.9 كيلو مترًا مربعًا، والذي يشهد انخفاضًا حادًّا في منسوب المياه السنوي، يتراوح بين 2 و6 أمتار، ولهذا الانخفاض -بحسب مصدر مسؤول في الهيئة العامة للموارد المائية- أسبابٌ كثيرة، في مقدمتها النمو السكاني المتسارع في العاصمة، وزيادة أعداد الآبار المحفورة حول الحوض من 13000 بئر إلى 18500 بئر حاليًّا، بزيادة 5500 بئر، وأشار المصدر، الذي تحفظ عن ذكر اسمه، في حديث لـ"خيوط"، إلى أن أكثر من 6000 بئر من هذه الآبار موجودة في مديرية بني حشيش، المديرية المعروفة بإنتاج العِنَب والقات، وأكّد المصدر أن جلّ مياه الآبار تذهب لصالح ري القات؛ بسبب التوسع الكبير في زراعته مؤخرًا، حيث بلغت كمية المياه المستخرجة من الحوض، خمسة أضعاف مستويات التغذية.
ونوّه المصدر إلى أنّ دولةً شبيهه باليمن، من حيث شحة المياه كالأردن، لا يتجاوز عدد الآبار الأرتوازية فيها حاجز الـ4000 بئر، وهي مفارقة صادمة تعكس الفجوة الكبيرة في رسم وتطبيق السياسات المائية في البلدين.
وكان تقرير صادر عن الأمم المتحدة في 23 مارس/ آذار 2023، أشار إلى أن عمق الآبار تراوح بين 600 و1200 متر، وهي مستويات خطرة تقترب كثيرًا من آخر الطبقات المائية في الحوض، مقارنة بـ200 متر في دول فقيرة مائيًّا مماثلة لليمن.
في القلب من هذا الاستنزاف المضاعف للمياه الجوفية، لا تتجاوز حصة الفرد في الظروف الطبيعية 86 مترًا مكعبًا، ومن المتوقع أن ينخفض أكثر إلى 55 مترًا مكعبًا بحلول عام 2030، وهذه الكمية أقل بكثير من العتبة السنوية لندرة المياه المطلقة البالغة 500 متر مكعب للفرد في العالم.
سباق نحو القاع
وعلى ما يبدو أنه تواطؤ من نوعٍ ما، دخلت إلى اليمن في ظروف غير قانونية أعداد ضخمة للغاية من الحفارات التي استُخدِمت في عمليات الحفر العشوائي لآبار المياه، المصدر السابق أكّد لـ"خيوط" أنّ هذه الحفارات مملوكة لنافذين ومستثمرين وشركات خاصة، وليست مملوكة للدولة، مضيفًا أن ما يزيد على 1500 طلب حفر يصلهم سنويًّا للهيئة وفروعها في المحافظات، لكن الحفر العشوائي، سواء حفر آبار جديدة أو تعميق أخرى قديمة، قائم على قدم وساق.
مصطفى الشهاري، مدير عام الموارد المائية في أمانة العاصمة ومحافظة صنعاء، تحدث لـ"خيوط" أنّ مديريات نهم وبني حشيش وأرحب تمثّل بؤرة للاستنزاف الجائر للمياه الجوفية.
وأضاف الشهاري: "أعلى معدل حفر عشوائي للآبار، متركز في مديريات بني حشيش، ونهم، وأرحب، نتيجة عدم تعاون جهات الضبط الأمنية والقضائية هناك مع الهيئة، لمحاسبة المخالفين وضبط الحفارات غير المرخصة التي أتوقّع أنّ عددها يزيد على 100 حفار دوران ودقاق، بالتزامن مع تصاعد مخيف لأعدادها مستقبلًا في ظلّ الانفلات الأمني، واستمرار الانقسام الحالي الذي يتم عبره تمرير عشرات الخروقات التي ترتقي لمستوى جرائم بحق المواطن والوطن، لن تحتاج لوقت طويل حتى تتجلى نتائجها الكارثية".
ظلت قضية استنزاف المياه خلال العقود الأخيرة في اليمن مهملة، أو محل تجاهل السلطات المختلفة لأسباب متعددة، وبالرغم من صدور قانون المياه رقم (33) لسنة 2002 وتعديلاته رقم (41) لسنة 2006، إلّا أنّ اللائحة الداخلية للقانون لم تصدر إلا في سنة 2011، السنة التي انطلقت فيها الاحتجاجات الشعبية، وما تلاها من أحداث وتداعيات بدت بعدها السياسات العامة للبلد في حالة من الضبابية وغياب الرؤية لصالح احتدام الصراع بين الأطراف المختلفة؛ ما يعكس حجم الجدل الدائر حول هذه القضية على مستوى الدوائر الحكومية وعلى مستوى المنتفعين الكبار، إلى جانب التضارب الواضح بين وزارة الزراعة والري ووزارة المياه والبيئة، فبعد إنشاء الأخيرة سنة 2003 بأسابيع قليلة، قامت وزارة الزراعة بسحب قطاع الري من المياه وضمه لها.
ولا يتوقف الانحدار عند قصور تنفيذ السياسات المائية، وتضارب الاختصاصات، والتهاون في ضبط المخالفين، بل شكّل اتجاه أكثر من 30% من المزارعين في منطقة الحجر الرملي -تحديدًا- ومناطق الطمي في حوض صنعاء، مثل مديرية بني حشيش، وأرحب، وهمدان، نحو استخدام الطاقة الشمسية لأغراض الري والضخّ، تحدِّيًا إضافيًّا يعجّل بالعطش المحتمل سنوات، بالنظر إلى قلة تكلفة استخدام الطاقة الشمسية، وبساطة تشغيلها، إلى جانب تدني تكاليف صيانتها، وهو ما أكّده المزارع، دحان العقاري، الذي لجأ إلى استخدام منظومة الطاقة الشمسية سنة 2018، عقب معاناته الكبيرة مع توفير مادة الديزل لتشغيل مضخات الري، إذ كانت أسعار الوقود باهظة تفوق عشرات المرات، مردود القات والعِنَب الذي تنتجه مزارعه، نتيجة اضطراره لشرائه من السوق السوداء.
العقاري أضاف في حديث لـ"خيوط": "معظم المزارعين هنا في منطقة بني حشيش، ومناطق أخرى في محافظة صنعاء، اتجهوا لاستخدام المنظومة الشمسية، التي تتفاوت تكلفة تركيبها تباعًا لأعداد الألواح الشمسية، وجودة العلامة التجارية، لكنها تظل أقل تكلفة مقارنة باستخدام الديزل، والحمد لله منطقتنا مسطحة وليست جبلية، وهذا يخدمنا كثيرًا، مع وجود استثناءات بسيطة في الأيام الغائمة التي قد تحدّ من فاعلية المدّة التشغيلية للمنظومة".
قدم محسن العيني مشروع قانون يقترح حظر إنتاج القات لصالح "الأوقاف" التي تستخدم الأراضي الحكومية، وحظر مضغ القات في المكاتب الحكومية، ورفع الضرائب والعوائد المالية على القات بنسبة 30%، غير أنّ مراقبين يرجحون أن مضي العيني في هذا المشروع، وإصراره على تمريره كان سببًا رئيسيًّا في إجباره على الاستقالة. عقب ذلك، وتحديدًا في سنة 1991، أصدرت الحكومة قانون 70 الذي يقضي بتخفيض الضرائب المفروضة على زراعة القات إلى 10%، ومِن ثمّ العودة الشرسة إلى زراعة القات، الغول الأكبر الذي يستنزف المياه الجوفية.
سطوة أم احتياج
"مصدر رزقنا هي الزراعة، وهي بدورها ترتكز على وفرة المياه التي نستخدمها في ري عديدٍ من المزروعات كالخضروات والفواكه، إلى جانب العنب الذي تشتهر به اليمن، وفي مقدمتها منطقة بني حشيش، وهذا الأخير يحتاج إلى سقاية كل ثلاثة أربعة أيام صيفًا، وكل أسبوعين أو أكثر خريفًا أو شتاء، لكن هذه ليست قاعدة ثابتة للري، فالأمر متروك لتقدير المزارع ولمدى احتياج التربة للرطوبة"، استطرد العقاري حديثه.
وتابع: "لكن زراعة العنب وحتى الخضروات محكومة بمواسم معينة، إضافة إلى تكلفة الاهتمام والرعاية العالية حتى الحصاد؛ لذلك تحقق لنا زراعة القات مكسبًا اقتصاديًّا مجديًّا، يعيننا على الوفاء بمتطلبات الحياة بالنظر إلى دورة حصاد القات التي قد لا تتجاوز الأسبوعين، خاصة مع توافر الأسمدة والمبيدات التي تساهم في سرعة حصاده، إضافة إلى المعدل العالي لاستهلاك القات بشكل يومي لدى اليمنيين".
تقدر تقارير أنّ معدل استهلاك القات يصل لـ40% من المياه الجوفية المستخرجة من حوض صنعاء، بسبب التوسع الكبير في زراعته، واعتماد المزارعين على طريقة الري بالغمر في سقاية أشجاره، فيما تشير منظمة الصحة العالمية في تقرير لها، إلى أن 90% من الذكور اليمنيين، و50% من الإناث اليمنيات، يمضغون القات، النبتة التي باتت تشكّل جزءًا من الثقافة الشعبية اليمنية، رغم المحاولات المعدودة للحدّ من انتشاره، بينها محاولة محسن العيني -رئيس وزراء الجمهورية العربية اليمنية لخمس ولايات متتالية- الذي قدم مشروع قانون، يقترح حظر إنتاج القات لصالح "الأوقاف" التي تستخدم الأراضي الحكومية، وحظر مضغ القات في المكاتب الحكومية، ورفع الضرائب والعوائد المالية على القات بنسبة 30%، غير أنّ مراقبين يرجحون أن مُضي العيني في هذا المشروع، وإصراره على تمريره، كان سببًا رئيسيًّا في إجباره على الاستقالة، عقب ذلك وتحديدًا في سنة 1991، أصدرت الحكومة قانون 70 الذي يقضي بتخفيض الضرائب المفروضة على زراعة القات إلى 10%، ومِن ثمّ العودة الشرسة لزراعة القات، الغول الأكبر الذي يستنزف المياه الجوفية.
معالجات تنتهي حيث تبدأ
"نحاول التخفيف من الاعتماد كليًّا على المياه الجوفية، لكن هذه المحاولات تبوء بالفشل لسبب أو لآخر، لكن عدم توافر الدعم الحكومي، وغياب التنسيق بين الجهات المعنية بالزراعة والمياهـ تقف على رأس أسباب الفشل"، يقول لـ"خيوط"، صالح أبوست.
وبحدة يتابع أبوست حديثه: "اذهبوا لسدّ مختان في قرية خربة سعوان بني حشيش، وشاهدوا الأضرار الكبيرة في هذا السد، التي بسببها تتسرب المياه مباشرة فور امتلائه، من دون أن يحرك هذا للمعنيين ساكنًا، أسألوا عن محطات المعالجة التي يفترض أنها رديفٌ لتخفيف الطلب الكبير على المياه الجوفية؛ أين هي؟! أسألوا عن مشاريع السدود والحواجز العاثرة لتعرفوا أنّنا المزارعين ليس بأيدينا حيلة، بل إننا نصبح ضحايا محتملين بسبب (البورة) -كساد المنتجات الزراعية- التي نمنى بها في معظم المواسم؛ بسبب غياب الدور الرسمي المعني بتنظيم التخزين والتسويق للمنتجات التي يشتغل عليها المزارع طوال الموسم ليخرج بعده في أحسن أحواله بسلامة الرأس، إن لم يكن قد خسر رأس المال؛ ولذلك وبمرور السنوات بات القات خيارًا مجديًا لاستمرار حياتنا".
تعمل السدود على تغذية المياه الجوفية، إلى جانب استخدامها في عملية الري، والأعمال المنزلية، لكن الموجود منها يبدو دون الحدّ الأدنى في صنعاء العاصمة، المهدّدة بالجفاف.
في سياق متصل، كانت قد وجهت اتهامات لمشروع السائلة، وهي مجرى وادٍ مرصوف يخترق العاصمة صنعاء من الجنوب حتى الشمال، بطول يبلغ 3300م تقريبًا، بالوقوف حائلًا دون السماح بتغذية حوض صنعاء المائي، اتهام دحضه المهندس عارف الشجاع، الذي لعب دورًا مهمًّا في إدارة وتنفيذ وتصميم عددٍ من مشاريع السائلة، مؤكدًا أن حلول تغذية المياه الجوفية تحتاج لقرار سياسي ودعم مالي للحفاظ على المياه الجوفية.
أما قلع الأحجار فيعني فقط تدمير مشروع حماية المدينة من أضرار السيول، منوهًا إلى أنّ هناك قنوات وشبكات تحت الأرض يزيد طولها على 120 كيلومتر، مولتها الحكومة اليمنية وقتها. لكن أحدهم ذهب إلى اختراع مقولة أنّ مشروع السائلة مؤامرة أمريكية يجب هدمها، وربما هدم ما تبقّى من جانب مشرق لمدينة تتهالك.
في المقابل، محطة واحدة بأمانة العاصمة لمعالجة مياه الصرف الصحي، يقول محمد العريقي- مدير المحطة بالأمانة، إنها مرت بتحديات كثيرة منذ بدء الحرب، إذ كادت أن تتوقف في السنوات السابقة بسبب انعدام الوقود.
ويتابع العريقي في حديث لـ"خيوط": "أبرز تحدٍّ نواجهه حاليًّا، هي ضعف حصة الفرد من المياه، ما ينعكس سلبًا على عمل المحطة، ومِن ثَمّ انخفاض كمية المياه المعالجة، التي من الممكن أن يتم الاستفادة منها في عملية الري وتخفيف الطلب الكبير على المياه الجوفية".