يدٌ عارية ترمم الخراب

مزارعو صنعاء القديمة يعيدون الحياة لبساتينها
محفوظ الشامي
October 1, 2021

يدٌ عارية ترمم الخراب

مزارعو صنعاء القديمة يعيدون الحياة لبساتينها
محفوظ الشامي
October 1, 2021

يعمل محمد عصبة (43 سنة) في بستانه المسمى ببستان "القاسمي" الواقع في حارة "القاسمي" ضمن مدينة صنعاء القديمة. الاسم المتعارف محليا لهذا البستان هو "المِقْشامة"، يعمل فيه صباحًا ومساءً بجهد وعزم كبيرين لكي يعيل أسرته في زمن الحرب التي قضت على فرص كثيرة للعيش.
يقول عصبة لـ"خيوط" إن الأعمال في بساتين صنعاء القديمة توقفت منذ أن بدأت الحرب، بسبب عوامل كثيرة أبرزها "توقّف الدعم الذي كنا نتلقاه من الجهات الحكومية المعنية"، حيث تمثل البساتين معلمًا إنسانيًا وتراثيًا يخص صنعاء القديمة. كما أن ارتفاع أسعار المياه تأثرا بارتفاع أسعار المشتقات النفطية، يعد ضمن العوامل المؤثرة في انحسار الاهتمام ببساتين المدينة القديمة. ويضيف المزارع الدؤوب: انتظرنا كثيرًا وعود أمانة العاصمة في تقديم المساعدة لإحياء البستان، لكنها وعود تبخرت ولم يتحقق منها سوى منحنا بعض الشتلات التي زرعناها في البستان، رغم زيارة أمين العاصمة حمود عباد، ووعوده لنا بتقديم كل ما يلزم لإعادة البستان، وقد عدنا مجددًا للعمل بجهودنا الذاتية، كخيار حتمي لضمان الحصول على لقمة العيش.
عُرف الإنسان اليمني بحكمته وإرادته وحبه للحياة، ولذا فقد أبدع سكان صنعاء القديمة في خلق شكل هندسي معماري مميز للمدينة، ووضع في أولويات التخطيط، إيجاد متنفسات في المدينة من خلال ترك مساحات معينة في كل حارة لغرض الزراعة الحضرية، وهكذا أنشئت بساتين صنعاء "المقشامات" التي يصل عددها إلى 40 مقشامة، وتوفر للسكان الخضار والفواكه والبقوليات. وإلى ذلك، تستضيف البساتين سكان المدينة الذين يخرجون للتنزه والترفيه. ومنذ منتصف القرن العشرين على الأقل، تزايد توافد الزوار للمدينة التي يعود إنشاؤها إلى 2500 سنة، لرؤية هذه التحفة التي عبثت بها عوامل التعرية ولم تسلم من عبث الإنسان. ومع ذلك، لم تعدم صنعاء أيديًا تؤازرها في كل المراحل العصيبة التي مرت بها.

ما تفسده الطبيعة أو تنقضه الحرب، يعيد الإنسان اليمني بناءه. يروي الحاج علي زيد (65 سنة)، وهو صاحب بستان الجامع الكبير، لـ"خيوط"، تفاصيل العودة للاهتمام بالبستان بعد انقطاع دام لسنوات خلال الحرب الجارية. يقول: لم يكن سهلًا علينا رؤية هلاك البستان أمام أعيننا وهو مصدر دخلنا بفعل ظروف الحرب، لقد عدنا للاعتناء به لسدّ حاجتنا وللحفاظ على المنظر الأخضر الذي لطالما تميزت به صنعاء القديمة عن غيرها من المدن. ويضيف زيد: "كنا نتلقى مساعدات مائية وبذور وشتلات ودعم معنوي يتمثل في الإشراف والزيارات من قبل المعنيين في وزارتي الأوقاف والثقافة وأمانة العاصمة، لكن كل شيء انقطع تمامًا، ونحن اليوم نعود لسابق عهدنا بجهود ذاتية لتأمين رزقنا وحرصًا على إظهار مدينتنا في صورتها المألوفة. فصنعاء القديمة لا يذكر اسمها بدون الإشارة لجمالية طرازها المعماري ونظام البستنة الاستثنائي فيها، ولهذه المميزات ومواصفات أخرى، أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلم "اليونسكو" في العام 1986، ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، وتم اختيارها بوصفها "تمثل تحفة عبقرية خلاقة من صنع الإنسان".
في واحدة من صور الحرمان وانقطاع سبل الترفيه، يقول علي المروني (38 سنة) لـ "خيوط"، إنه خلال سنوات الحرب ظل يشتاق للجلوس تحت شجرة وارفة في بستان "عِنْقاد"، في حين صار المكان أجرد ويكتظ بأكياس البلاستيك. ويضيف المروني، وهو رب أسرة مكونة من أربعة أولاد: طال أمد الحرب التي ألحقت الأضرار بكل المواطنين وبالبساتين، وعندما يئس المزارعون من تقديم أي عون رسمي لهم، بدأوا بإمكانيات محدودة يحيون البساتين لتكتسي بالاخضرار الذي كان سمة صنعاء القديمة. اليوم نرى المتنفسات تعود مرة أخرى ويمكننا التنزه في البساتين التي نأمل أن تعود جميعها كما يليق بمدينة يتوقف في رحابها الزائر والمقيم مذهولًا بجمالها.


ما بين السطو على مساحات البساتين، وإهمال السلطات الرسمية والجهات المعنية بمعالم الخضرة والبستنة، ووسط حرب تعيق كل جهود التنمية، يصر الإنسان اليمني، وبجهوده المحدودة، على إعادة روح الحياة للأرض.


الصورة الأكثر مأساوية في شؤون بساتين صنعاء القديمة، هي أنها كانت تمثل مصدر دخل وحيد لعشرات الأسر العاملة فيها. وحين حلت الحرب على البلاد، تأثرت هذه البساتين كغيرها من القطاعات، وتحولت من مروج خضراء إلى مساحات يابسة. في هذا الشأن يقول محمد دقاس (55 سنة)، وهو مالك جزء من بستان الجامع الكبير: طيلة عشرات السنوات ظللنا نعتمد على "المقشامة" في كسب رزقنا من خلال ما تنتجه من بصل وجرجير وكراث، وبعض الفواكه، كالرمان والزيتون والبرقوق. كانت هذه المنتجات تسد احتياجاتنا، وعندما تعرض البستان للهلاك، فقدنا مصدر عيشنا وهو ما تسبب بالشقاء للأسرة. ويضيف دقاس في حديثه لـ"خيوط": نعود الآن لزراعة البستان رغمًا عن كل الظروف القاهرة، ونأمل أن يدر علينا دخلًا يضمن معيشتنا كما في السابق.
تتعدد جوانب التكافل الاجتماعي بين ساكني صنعاء القديمة بشكل يبعث الإعجاب والتقدير، فبحسب شهود عيان من سكان المدينة، لا يبيع مزاوعو البساتين كل منتجاتهم، بل يوزعون جزءا منها بالمجان لجيرانهم ولمن يزورهم من خارج المدينة، وهي عادة قديمة لسكان المدينة التاريخية. جاءت هذه الإفادة على لسان علي العمري (34 سنة) الذي تحدث لخيوط قائلًا: يوزع أصحاب "المقشامات" الخضار وبعض ثمار الفواكه بشكل دائم لجيرانهم بدون مقابل، ويكرمون من يزورهم، وهذه سمة من سمات أهل صنعاء القديمة الذين يشكلون نموذجًا إنسانيًا وتكافليًا منقطع النظير.
في بدايتها، ومن خلال أولى الضربات الجوية على اليمن في 25 مارس/ آذار 2015، أثرت الحرب الدائرة إلى الآن، على شرايين الحياة المختلفة في أرجاء البلاد، ومنها بساتين صنعاء القديمة، حيث تعرضت للإهمال بسبب انعدام الإمكانيات التي كانت تساعد المزارعين على الاستمرار، وبسبب خوفهم من القصف، وما إلى ذلك من الأسباب التي أفرزتها حرب شاملة. حينها تحولت بساتين صنعاء إلى مساحات جرداء أثارت أطماع نافذين حولوا بعض أراضيها إلى مساحات للبناء الحديث.
وتقدر الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، عدد المساجد في صنعاء القديمة بنحو 46 مسجدًا وأن لكل مسجد "مقشامة"، كون الترابط الحيوي في المدينة يبتدئ من المسجد والبئر وينتهي بـ"المقشامة". ويأتي هذا التخطيط الدقيق لغرض الاستفادة من المياه وعدم إهدارها، إضافة إلى أن مساحة البساتين و"المقشامات" كانت أكبر من مساحة البناء، لكنها اليوم أصبحت أقل، وهو ما يؤكد تعرض البساتين للسطو العمراني.

ما بين السطو على مساحات البساتين وضمها للبناء في أهم مدينة تاريخية في البلاد، وبين الإهمال من قبل السلطات الرسمية والجهات المعنية بمعالم الخضرة والبستنة داخل مدينة حدائقية فريدة، ووسط حرب تعيق كل جهود التنمية، يصر الإنسان اليمني، وبجهوده المحدودة، على إعادة روح الحياة إلى نباتات وأشجار لطالما أعانت عشرات الأسر على كُلفة الحياة، واتحدت مع جدران المباني لإظهار المدينة بصورة متناهية الدهشة والجمال.

•••
محفوظ الشامي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English