من الإشكالات التي رافقت الأعمال المدنية الحديثة في مجتمعاتنا، مثل العمل الحقوقي والعمل الصحفي والعمل الإغاثي وحتى العمل البحثي في حقول الدراسات النظرية وغيرها من الأعمال، التصاقُ رواد هذه المهن والمهمات بوظائف أخرى، تختلف وتتناقض في مضامينها وأدواتها ومركزها الأخلاقي مع المهام التي يُفصح عن الانتماء لها حيثما اقتضى المقام التعريف بالنفس والمهنة ومجال النشاط والاختصاص.
ففي الأغلب الأعم يتورط الحقوقي أو الصحفي أو الباحث في مزاحمة السياسي أو العسكري أو المقاتل في موقعه وأدواته ومنطقه، ليفقد حينئذ قوة موقعه ورسالته ووسائله، مع فشله في إتقان الدور الذي حاول تقمصه، ليصير مثل ذلك الغراب الذي أعجبته مشية الحمامة، فبذل جهده ووقته لتقليد مشيتها، وبعد محاولات ومحاولات فشل في إتقان مشيتها، وحين أراد العودة إلى مشيته الأصلية، خانته ذاكرته فنسيها، فصار مسخاً في مشيته، لا حمامة ولا غُراب.
بعيداً عن الموقف الأخلاقي من كل موقع ومهمة اختارها الإنسان لنفسه، فإن دور من يختار الانخراط في الإعلام الحربي، أو حتى السياسي في معركة انتخابية، مع أحد الأطراف، على سبيل المثال، يختلف عن دور الصحفي المستقل الذي اختار أن يعمل في نفس الظروف وعلى نفس القصة. وهذا ينسحب على الكيفية التي يتم التعامل بها مع ما يقوله ويكتبه ويفعله، مع الأخذ بالاعتبار أثر ماهية المركز العام للوسيلة التي يستخدمها، وهو ذات الأمر بالنسبة للحقوقي والباحث والعامل في المجال الإنساني، وينسحب أثر محددات الدور المُنتخب على المركز القانوني والعام للاعب ذلك الدور، فمن يعمل في تغذية الجنود والمقاتلين، على سبيل المثال، يختلف عن مقدم الإغاثة المستقل عن دورة العمل العسكري، وهكذا.
ولذلك، فاختيار الدور يتطلب عناية فائقة ومستنيرة من البداية، متحصنة بدراية كاملة بتبعات ذلك الدور، وفهم لمضامينه وأدواته، مع التوقف الدوري لاختبار اتساقها وثباتها مع الاختيار المؤسس وموجهاته القيمية والمعرفية والمهاراتية. وهذه الحساسية العالية ليست ترفاً، فهي مطلوبة بإلحاح، في الظروف الطبيعية والمستقرة للأفراد والمجتمعات، وفي حال الظروف الاستثنائية للمجتمعات (الحروب والتحولات الحادة)، تصبح أكثر إلحاحاً؛ فمحددات هذه الحساسية تمثل أنبوب اختبار دقيق لكفاءة وفاعلية وجدارة وأثر أي دور ومهمة في الظروف الطبيعية والاستثنائية على حد سواء.
في جملة من المهن، تكون الاستقلالية فيها شرطاً أساسياً لها. وفي سبيل تجسيد ذلك، طورت الكثير من المجتمعات المتقدمة آليات ومحددات وشروط فعالة لضمان استقلاليتها ضمن خطواتها للتطوير والتحديث. ومن نفس المنطلقات تأسست فكرة الفصل بين السلطات والمهام والوظائف، وفكرة الهيئات الرقابية المستقلة والمجتمع المدني والصحافة. وفي التجارب المتقدمة حُظر على الحكومات امتلاك وسائل إعلام أو دعمها، ضمن تأسيس هذه المجتمعات لأدوار فردية ومؤسساتية فاعلة وذات كفاءة في الرقابة والمساءلة كأحد شروط ضمان تحقيق الصالح العام.
وفي مجتمعاتنا الغارقة في متوالية طويلة من الظروف الاستثنائية، يمثل الوعي المبكر بتلك المحددات والمضامين الخلاقة، وبالتالي انتهاجها والتزامها، وخلق نماذج فردية ومؤسساتية ممتثلة لأعلى معاييرها، أحدَ مفاتيح التغيير الكبيرة والمهمة، وأحد أوجب واجبات اللحظة التي تقع على عاتق الفاعلين فيها من أبناء هذا الجيل. وبدون النجاح في إنجاز هذا التغيير فعلياً، على المستوى الفردي والمؤسساتي، فإن النجاح في التغيير الأشمل سيكون أصعب، بل وتصبح أحاديثنا الناقدة للأنظمة والحكومات والأحزاب والقوى والتشكيلات التقليدية التي ندينها بالفشل وعدم الكفاءة والفساد، مجرد أحاديث جوفاء وفارغة من أي معنى أو أي قيمة، ومنعدمة الأثر. وسنكون حينئذٍ، متلبسين بذات خطايا كل من أشبعناهم نقداً وذماً، بإساءة تعاملنا مع ما بين أيدينا من فرص متاحة، كاختبار حي لإثبات تصوراتنا للكفاءة والنزاهة والتحديث والمعارف والقيم التي نقدمها كشرط لتغيير واقع مجتمعاتنا المتخلف.
في الوضع الأمثل فإن الرقابة والمساءلة تمثلان جوهر مهمة الصحفي والحقوقي والباحث والناشط وما إلى ذلك من وظائف ومهام. والإخلال بشروط ومحددات ومضامين هذه الأدوار، هو استقالة فعلية عنها. واختيار أدوار أخرى يتطلب فقط الشجاعة والنزاهة للإفصاح عن تسميتها الجديدة والاستعداد لتحمل تبعاتها بمسؤولية واتساق.
يقتضي الالتزام بالمهمة، أي مهمة، إيمانًا وإدراكًا راسخَين، والتزامًا صارمًا بالقواعد المهنية والقيمية والفنية لها، والصمود أمام أشكال متعددة من الضغوط والابتزاز والإكراه. وعندما تتغير القناعة بها، يمكن تغييرها ببساطة ووضوح والانتقال لأي مهمة جديدة بشجاعة وإيمان ونزاهة.