قبل عرض جوانب بسيطة من تجربتي مع الإنشاد الديني، سأمهّد بهذه الإطلالة عن هذا اللون، وخصوصيته التي تتجلى أكثر في شهر رمضان. يمتاز فنّ الإنشاد اليمني بأشياء كثيرة، منها أنه لا تُصاحبه أيُّ آلة موسيقية، وتتضمن كلماته شعرًا غزليًّا عذريًّا، وشعرًا توسليًّا، والمدح في رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأيضًا الشعر الصوفي وغيره. وثمة ميزة بارزة، وهي أن من ينشد يظهر بأبهى حلة، وهو يلبس زيًّا تقليديًّا متفردًا ونادرًا، كما أنّ الإنشاد اليمني يطرب لسماعه كل شخص، والموشح اليمني يُعَدّ المرجع لمعظم الموشحات العربية إن لم يكن جميعها. كما يقول المنشد علي محسن الأكوع، رئيس جمعية المنشدين.
فلا نجد موشحًا في العالم العربي إلا وله خيط تقاطُع مع الموشح اليمني وشعرائه وملحنيه، وهو ما أكسبه شهرة كبيرة قديمًا وحديثًا، واتخذ الموشح والإنشاد في اليمن ميزةً متفردة؛ كونه يتناغم مع المناسبات الاجتماعية، سواء كانت مناسبة الحج أو الزواج أو المآتم، وغير ذلك من المناسبات التي لا تخلو من موشح أو منشد.
وتشير كتب الأدب والتراجم إلى أنّ عمر الموشح اليمني يمتد إلى (500 عام)، حيث برز منذ ذلك التاريخ شعراء الموشح والملحنون والمتغنّون به، وأن الموشح اليمني هو الأصل للموشحات في بعض الدول العربية، حيث كان لهجرة اليمنيين ومشاركتهم في الفتوحات دورٌ كبير في انتشار الموشح ووصوله حتى الأندلس.
ويتميز الموشح اليمني بالقبول محليًّا وعالميًّا، رغم عدم مصاحبته لآلات الموسيقى، حيث تنبع موسيقاه من حناجر منشديه، كما أنّ مميزات الموشح اليمني تكمن في أنّ أكثره يكون متضمّنًا للذِّكر، والغزل في الذات الإلهية، والدعوة لصفاء النفس البشرية؛ لهذا سرعان ما يلبث أن يلتصق بالوجدان سريعًا. ويعدّ اعتراف منظمة اليونسكو بالتراث الإنشادي اليمني في وقت سابق تراثًا عالميًّا شفهيًّا، والمساعي الجادّة للمحافظة عليه، علامةً بارزة على القيمة التي يمثلها في التراث العالمي.
وقصتي مع الإنشاد الديني، بدأت عندما كنتُ أزور جاراتي وصديقاتي في جلساتهن النسائية بعد العصر، وخصوصًا تلك المرتبطة بالمناسبات المختلفة، مثل: الولادة أو الزفاف، ومجالس العزاء، وكنت أستمع إلى المنشدات وأتأثر بأصواتهن الجميلة أيما تأثر، قبل أن تدخل التسجيلات والمؤثرات الصوتية وإيقاعاتها في الصالات والمنازل أو ما تعرف بالـ(دي جي) وتقتل روح الاستماع وتحوّل المناسبات إلى كتلة من الضجيج الفج. ومنذ صغري تأثرت بأصوات منشدين عديدين كانت تَعرض تسجيلاتهم شاشةُ التليفزيون، وتُسمِعنا أصواتهم الإذاعة، غير أنّ الأكثر تأثيرًا بي هو صوت المنشد عبدالرحمن العمري، صاحب الحنجرة الذهبية.
كنت عندما أنشد أرى انبهار وإعجاب الحاضرين في الفعالية بالقصيدة، التي تمرنت عليها بصنعاء، ولم أكن أعرف فحوى كلماتها وأثرها القوي، وعندما سألت عنها وجدتها تحمل بعدًا نفسيًّا وثقافيًّا كبيرًا لدى الأتراك، فكانوا يلوّحون بأيديهم طربًا ويُعربون عن إعجابهم بأدائي.
وقبل أن أخوض غمار التجربة، بدأت بتجميع القصائد المنقولة من الكتب، وتعلّمت الإلقاء والترديد منذ العام 2009. وبعد مران طويل، أصبحتُ أجيد إنشاد الموشحات المرتبطة بالمولد النبوي وقصائد المديح. حتى جاءتني فرصة السفر إلى تركيا للمشاركة في المعرض السياحي اليمني هناك، إلا أنّ طلبي للسفر رُفِضَ لأسباب لا أعرفها رغم معرفتهم بي مرشدة ودليلة سياحية، لكني لم أيْئَس فقدّمت طلبًا جديدًا باستيعابي ضمن فريق الإنشاد، فكان استغرابهم كبيرًا، وعندما نسقت مع المنشدين المشاركين، تم قبول طلبي وبدون عوائق.
وحتى أشارك فعليًّا تم تدريبي على ترديد قصيدة دينية شائعة باللغة التركية، وبالفعل سافرت مع الوفد المشارك وكنت أحمل بداخلي اتجاهين؛ الأول: سياحي، هو شغفي الكبير، فقد كنت أقف على المكتب الأمامي وأوزع البروشورات السياحية عن اليمن، إلى جانب تقديم القهوة والضيافة اليمنية من الزبيب واللوز، ووضع البخور. وهكذا حقّقت رغبتي بالسفر والمشاركة في المعرض السياحي الذي تشارك فيه معظم الدول العربية والأجنبية. والثاني: دوري كوني منشدة مع الفرقة الإنشادية، وكنت عندما أنشد أرى انبهار وإعجاب الحاضرين في الفعالية بالقصيدة التركية التي تمرّنت عليها بصنعاء، ولم أكن أعرف فحوى كلماتها وأثرها القوي، وعندما سألتُ عنها وجدتها تحمل بعدًا نفسيًّا وثقافيًّا كبيرًا لدى الأتراك، فكانوا يُلوِّحون بأيديهم طربًا ويُعربون عن إعجابهم بأدائي.
وفي العام الثاني 2015، طلبت الانضمام إلى الفرقة الإنشادية الثانية من حضرموت، وأنا لستُ على دراية كافية بخصوصية الإنشاد الحضرمي. وبالمقابل، كانوا لا يعلمون شيئًا عن القصيدة التركية، فتوجهت إليهم وشرحتها لهم وعرّفتهم بمدى ارتباطها الوجداني بالسماع التركي، فلم يتردّدوا في تأديتها وأتقنوها وردّدناها معًا. ومنهم تعلّمت بعض المشارب الحضرمية وأعجبت بها، وهي ذات خصوصية ثقافية تختلف عن خصوصية الإنشاد في تهامة والإنشاد في صنعاء. وبقيتُ إلى وقت قريب أنشد في كثير من المناسبات الاجتماعية النسائية، وأتطلع إلى إنشاء جمعية نسائية للإنشاد الديني، نستطيع بواسطتها التعريف أكثر بهذا الإرث الثقافي في أوساط النساء بدرجة رئيسية.