انطلقت الثورة ضد المستعمر البريطاني من جبال ردفان في 14 أكتوبر 1963، وتقع منطقة ردفان على بعد 90 كيلومترًا شمال مدينة عدن، ومنذ عشرينيات القرن العشرين تعرضت ردفان لغارات جوية بريطانية، نظرًا لمقاومة الاحتلال ورفض وجوده الاستعماري. وبعد قيام الثورة، قامت بريطانيا بردة فعل عنيفة عقابية لإخماد الثورة ولإخضاع قبائل ردفان، إذ نفّذت حملات عسكرية برية وجوية كبيرة، فبدءًا من يناير 1964، كانت حملة (كسارة البندق) أو كما يسميها المؤرخ سلطان ناجي (كسارة جوز الهند)، ثم تبعتها أربع حملات، أكثر وحشية وضراوة، ومن دون مراعاة للجوانب الإنسانية وحقوق الإنسان التي تدعي بريطانيا الاهتمام بها، "فخلال الحملة، استهدفت القوات البريطانية، عمدًا، سبلَ عيش المدنيين، من خلال طرد السكان من منازلهم، وحرق مخازن الغذاء، وتدمير المحاصيل، وقتل الماشية. وقد خلقت هذه الإجراءات أزمة إنسانية، فقد فر الآلاف من اللاجئين من العنف". لقد عاشت ردفان مأساة حرب وحشية، بشهادة وثائق بريطانية وغربية، ينبغي ألا تُنسى أو يُقلل من شأنها.
تصرفت السلطات الاستعمارية بطرق متناقضة؛ فقد روّجت لحقوق الإنسان من خلال دستور عدن، بينما شنّت في الوقت نفسه حربًا وحشية ضد المدنيين والمقاتلين على حد سواء، في ردفان.
قمع وعنف وحشي
لقد كشفت وثائق بريطانية ودراسات غربية عن الوحشية الاستعمارية في حملة ردفان، بهدف إخماد الثورة، ومن المفارقات الساخرة أنّ الاستعمار كان يصف الثورة بالتمرد. وقد سعى مفكرون وباحثون غربيون إلى بيان أنّ "ممارسات مكافحة التمرد البريطانية كانت تنطوي في كثير من الأحيان، على القمع والعنف الوحشي".
ومن هؤلاء الباحثين: الباحث (برايان دروهان)، وهو باحث في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت، وقد قام بتحليل الملفات البريطانية التي رُفعت عنها السرية مؤخرًا، وكشف عن الوحشية الاستعمارية في عصر حقوق الإنسان، وبيان تناقض السياسة البريطانية.
"A Study in Contradictions: Human Rights and British Counterinsurgency in Aden, 1962-64"
"فخلال الفترة 1962-1964، تصرفت السلطات الاستعمارية بطرق متناقضة؛ فقد روجت لحقوق الإنسان من خلال دستور عدن، بينما شنت في الوقت نفسه حربًا وحشية ضد المدنيين والمقاتلين على حد سواء، في ردفان".
يرصد الباحث (برايان دروهان) تكتيكات الحظر في ردفان، قائلًا: "كان (تريفاسكيس) (المندوب السامي في عدن) وقادته العسكريون يعتزمون استخدام كل أداة تحت تصرفهم لمعاقبة المتمردين الردفانيين. وقد حدّدت التوجيهات السياسية التي صدرت للقوات البريطانية في بداية الحملة توقعات (تريفاسكيس): "إن فعالية الإجراءات العقابية تعتمد على الحزم الذي يتم به تنفيذها". ويتعين على القوات البريطانية "أن تتخذ تدابير عقابية تؤذي المتمردين، وبذلك تترك وراءها ذكريات لن تنسى بسرعة". وكانت الفكرة هي "جعل الحياة غير سارة للقبائل إلى الحد الذي يؤدي إلى كسر معنوياتهم وإخضاعهم". ولتحقيق هذه الغاية، استخدمت القوات البريطانية تكتيك "حظر الأرض"، إذ حددت مناطق معينة بوصفها محظورة. وطُلبَ من جميع السكان، بغض النظر عن وضعهم، مدنيين أو مقاتلين، المغادرة، مما يحوّل سكان المنطقة المحظورة بالكامل تقريبًا إلى لاجئين".
تهجير ومصادرة الممتلكات
وفعلًا هذا ما حدث، فقد هُجّرت قبائل ردفان جميعها من قراهم ومساكنهم، ونزحوا إلى مناطق أخرى، وبعضهم مكث في الكهوف البعيدة. ويضيف الباحث (برايان دروهان): "وحتى بعد أن هجرت القبائل قراها، وتعرضت المنازل والبنية الأساسية لويلات الحرب. وصدرت الأوامر للجنود البريطانيين "بمصادرة الممتلكات، وحرق الأعلاف، وتدمير الحبوب ومخازن الحبوب والماشية". وبالنسبة للقرويين الذين ظلوا في منازلهم وقاوموا، كانت العواقب أشد وطأة. فقد سمحت قواعد الاشتباك البريطانية للقادة باستخدام القصف الجوي والمدفعي "إلى أقصى حد ضروري". وفي مثل هذه الظروف، "يجب قبول الخسائر في صفوف النساء والأطفال".
ومع هذه الإجراءات العسكرية الشديدة: حظر الأرض، والقصف الجوي، "كان (تريفاسكيس) يأمل في استخدام حظر الطيران"، "وبالنسبة لسلاح الجو الملكي البريطاني، فإن الموافقة على حظر الطيران -كما جاء في الملفات السرية- تعني أنه "يمكن مهاجمة القرى بالمدافع والقنابل اليدوية، والسماح للطيارين بالاشتباك مع الماشية والمحاصيل والأشخاص المتسكعين في المناطق المحظورة".
"في رسالة إلى وزير المستعمرات (دنكان سانديز)، وصف (تريفاسكيس) الإجراءات القياسية، مثل مهاجمة الماشية؛ لأنها تمثل ثروة رأس المال، وقصف القرى المحظورة لضمان بقائها خالية من السكان، وإطلاق النار على الحقول الزراعية لردع المزارعين عن الاستمرار في العمل في حقولهم". وكذلك الإجراءات الأخرى تعد مفيدة، "لكنها لم تكن كافية لإنهاء التمرد. فالطائرات فقط، يمكن أن تثبت الفارق في قمع المتمردين؛ بقدرتها على تغطية مساحات شاسعة من الأراضي، والضرب بسرعة -دون خطر كبير لإسقاطها- والضرب بتأثير مدمر".
ويشير الباحث (برايان دروهان) إلى أن (تريفاسكيس) أصرّ على أن "القوات البرية لا تستطيع التعامل بشكل فعّال مع المتمردين".
ويضيف: "ومع ذلك، كان المسؤولون البريطانيون في لندن قلقين بشأن آثار تكتيكات حظر الطيران على الرأي العام الدولي، فقد توصلوا إلى موقف حل وسط يسمح باستخدام الدعم الجوي القريب لمساعدة القوات البرية. وحدّدت التعليمات النهائية أن "العمل الجوي سيقتصر على الحد الأدنى الضروري للعملية، ولن يشمل تكراره استخدام القنابل".
وقد "استسلم (تريفاسكيس) وبدأت الحملة دون موافقة حظر الطيران". لكن نتساءل: هل فعلًا التزم (تريفاسكيس) بهذا؟!
واجه البريطانيون أيضًا تحديات لا علاقة لها بالعدو. فقد أثبتت التضاريس القاسية أنها صعبة على النظام اللوجستي البريطاني. وقد استهلكت القوات الذخيرة والطعام والماء بأسرع ما يمكن تقديم الإمدادات.
تضاريس قاتلت البريطانيين
يذكر الباحث (برايان دروهان) أن: "الدوريات البريطانية أصيبت بالإحباط؛ نظرًا لقدرة عدوها على بدء الاتصال والاختفاء بسرعة، لكنّ البريطانيين واجهوا أيضًا تحديات لا علاقة لها بالعدو. فقد أثبتت التضاريس القاسية أنها صعبة على النظام اللوجستي البريطاني. وقد استهلكت القوات الذخيرة والطعام والماء بأسرع ما يمكن تقديم الإمدادات".
"وبعد أن قرر أن الحملة تسير ببطء شديد، طلب (تريفاسكيس) مرة أخرى، الإذن بحظر الطيران. وفي مذكرة شخصية مطولة إلى (دنكان سانديز) (وزير المستعمرات)، أدان (تريفاسكيس) "التدابير غير المدروسة" و"العمل غير الجاد"، مؤكدًا اقتناعه بأن النجاح يتطلب اللجوء إلى "تدابير قمعية صارمة تُتخذ بدقة وبتصميم". "وفي الثاني من مايو، أرسل (تريفاسكيس) برقية إلى المكتب الاستعماري في لندن، واصفًا الموقف بأنه "خطير للغاية". "وإضافة إلى حجج (تريفاسكيس)، أرسل الفريق أول (هارينجتون) رئيس أركان الدفاع، برقية إلى وزارة الدفاع يطلب فيها أيضًا الإذن باستخدام القصف المحظور".
وأعرب (تريفاسكيس) عن يأسه قائلًا: "بصراحة لا نستطيع أن نتحمل الاستمرار على هذا النحو فترة أطول"؛ لأن الوقت كان جوهر الأمر. إن الفشل في إخضاع ردفان بسرعة من شأنه أن يؤدي إلى "ثلاثة ردفانات أخرى" في المناطق المجاورة والتي من شأنها أن تطغى بسهولة على القدرات العسكرية المحدودة لبريطانيا".
"فخوفًا من فشل الحملة وانتشار التمرد، وافق الوزراء في لندن على حظر الطيران من حيث المبدأ في الثامن من مايو/ أيار. ولكن (دنكان سانديز) ظل قلقًا إزاء ردود الفعل الدولية المحتملة، فقرر زيارة عدن على الفور لمناقشة تنفيذ حظر الطيران مع (تريفاسكيس) شخصيًّا". لكن بحسب المؤرخ سلطان ناجي، فإن (دنكان سانديز) "اضطر أن يأتي في عز شهور الصيف المحرقة إلى جبال ردفان لرفع معنوية الجنود البريطانيين المنهارة في تلك الحرب التي لم يعتادوها".
حملة الأرض المحروقة
يؤكد الباحث (برايان دروهان) أن "حظر الطيران كان يعني أن سكان ردفان شعروا بالقوة الكاملة للإكراه الاستعماري، حيث قصفت القوات البريطانية القرى، وقتلت الماشية، ودمرت المحاصيل، لقد كانت الماشية والمحاصيل مصدرًا لعيش القبائل الردفانية وقوتهم. وكانت الهجمات ضد هذه الأهداف بمثابة حرب اقتصادية شنت ضد مجتمعات بأكملها دون محاولة التمييز بين المدنيين والمقاتلين. لقد كانت حملة الأرض المحروقة تُشن من الجو".
ويضيف نقلًا عن الملفات السرية: "في إحدى الهجمات، أطلقت قاذفة واحدة من طراز شاكلتون 600 طلقة مدفع عيار 20 ملم، وأسقطت 60 قنبلة يدوية. وأفاد الطيار بإطلاق مدفعه على قطيع من الماعز ووادٍ، بينما أسقط ست قنابل جوية على قطيع آخر من الماعز، وإحدى عشرة قنبلة على "ماشية"، وثماني قنابل على "أشخاص" -دون تحديد مدنيين أو مقاتلين- وأربع قنابل على "أشخاص في الوادي"، وست قنابل أخرى على "أشخاص وأربعة جمال"، وأربع عشرة قنبلة إضافية على "أشخاص تحت الأشجار، وفي أكثر من 600 طلعة جوية فوق ردفان، أطلقت القوات الجوية الملكية البريطانية 2500 صاروخ، وأطلقت 200 ألف طلقة مدفعية".
"وأشار المسؤولون البريطانيون إلى أن الحملة أدت إلى تشريد 8000 شخص في منطقة ردفان. وعلى حد تعبير وكيل عريف، كان الدمار عارًا دمويًّا".
وفي هذا الإطار، يكشف المؤرخ البريطاني (مارك كوتيس) أنه "لم تكن هناك قيود على استخدام "القنابل المضادة للأفراد، التي يبلغ وزنها 20 رطلًا -والتي تشبه ما يسمى الآن بالقنابل العنقودية- على الرغم من أن التعامل معها يحتاج حذرًا شديدًا، كما أشارت وزارة الدفاع. وبناء على ذلك، طلب وزير الدفاع (بيتر ثورنيكروفت) من رئيس أركان القوات الجوية "ضمان سرية العملية" لاستخدام هذه القنابل".
ويمضي الباحث (برايان دروهان) في تحليله للملفات، قائلًا: "ولقد أثبتت التكتيكات العقابية فعاليتها بالفعل، ولكن الحظر الجوي والبري تسبّب أيضًا في أزمة إنسانية استغلتها الدعاية العربية بسرعة. فقد أفادت البرامج الإذاعية التي بثتها إذاعة "صوت العرب" في القاهرة، أن سلاح الجو الملكي البريطاني "نفذ غارات وحشية على مواطنين مسالمين في ردفان"، وزعمت جامعة الدول العربية أن هناك 30 ألف لاجئ...".
يتعين علينا أن نتذكر ذلك باعتباره دليلًا على كيفية ممارسة السياسة الخارجية البريطانية في الواقع، وكيف لا نكتشف هذا الواقع الحقيقي إلا عندما يتم الإفراج عن الملفات الحكومية بعد عقود من الزمن.
خيال الفظائع البريطانية
والملاحظ أنه فوق ارتكاب هذه المجازر يسعى المستعمرون إلى إخفائها وتبريرها، يقول الباحث (برايان دروهان): "ولقد عبّر المسؤولون الاستعماريون عن سخطهم الشديد إزاء الانتقادات الدولية، وأعربوا عن الحاجة إلى دحض هذه الأكاذيب، حول "خيال الفظائع البريطانية". وبالنسبة لهم، لم يكن بوسع الحكومة السماح بمرور فكرة مفادها أن السياسة البريطانية هي سياسة "السلام من خلال الإرهاب، وأن هدف عملنا المسلح هو تشريد الآلاف من الأبرياء وتجويعهم. كان هدف بريطانيا إنهاء الثورة، وليس التسبب في التشرد والجوع، ولكن التشرد والجوع كانا واضحين ومقبولين كوسيلة لإنهاء الصراع". لقد كانت الوحشية أداة رئيسة لسحق أية ثورة أو مقاومة شعبية تسعى إلى طرد المستعمر.
وإذا كانت ذاكرتنا الوطنية تتناسى هذه المآسي، فإن في الغرب من يوثق ويكشف حجم المأساة، ويواجه السرد الاستعماري ومغالطاته. ولعلنا نتأمل في قول المؤرخ البريطاني (مارك كورتيس) وندرك مقاصده، إذ يقول: "لقد اندثرت ثورة ردفان التي اندلعت في اليمن في أوائل عام 1964 [يشير إلى انطلاق الحملات الوحشية ضد ردفان بعد انطلاق الثورة] من الذاكرة التاريخية منذ زمن بعيد، ولكن يتعين علينا أن نتذكر ذلك باعتباره دليلًا على كيفية ممارسة السياسة الخارجية البريطانية في الواقع، وكيف لا نكتشف هذا الواقع الحقيقي إلا عندما يتم الإفراج عن الملفات الحكومية بعد عقود من الزمن".