أخذ محمد أديب (11 سنة)، بيد أخته التي تصغره بسنتين؛ ليعيدها إلى المنزل، ثم ليلحق بعدها بأبيه، الذي ينتظره في الفناء الخارجي، على عتبة الشارع، بحي صينة، غرب مدينة تعز. فجأة سمع أبوه صوتًا غريبًا فهرع إلى المكان مسرعًا، وقبل الوصول، انقض عليه كلب مسعور، عضه في يده ولم يفلتها. يقول الأب: "خضت عراكًا استمر نحو عشر دقائق حتى تمكنت من إفلات يدي من بين فكي الكلب، وصلت إلى محمد ووجهه مضرجًا بالدماء، لقد هاجمه على وجهه بشكل غريب، وأثناء فراره، عضّ شخصًا ثالثًا في الطريق"، ويضيف: "تأكدت هنا أنه مسعور، وعليّ التوجه إلى وحدة مكافحة داء الكلب في المستشفى السويدي للأمومة والطفولة؛ للحصول على المصل المضاد، وجرع اللقاح الخاصة بداء الكلب، لي ولابني".
في وحدة مكافحة داء الكلب أخبرهما القائم بالعمل هناك، بأنه لا يتوفر لديهم لا المصل ولا اللقاح، وأن عليما البحث عنهما بصورة شخصية. "كان ذلك خبرًا صاعقًا، لمن يبحث عن طوق نجاة من أحد أخطر الأمراض التي تضرب الجهاز العصبي"، يقول أديب، الذي انتظر 24 ساعة للحصول على المصل واللقاح من محافظة إب، وهي الساعات الأصعب التي عاشها طوال حياته، كما يقول.
لا مصل ولا لقاح
منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ووحدة مكافحة داء الكلَب في تعز بدون أمصال أو لقاحات، وهي الفترة الأطول التي ينعدم فيها اللقاح منذ 2011، بحسب الدكتور عدنان الشرعبي، القائم بأعمال وحدة مكافحة داء الكلب الوحيدة في تعز.
الدكتور الشرعبي أضاف لـ"خيوط": "كل محاولاتنا لجلب المصل واللقاح باءت بالفشل، بُحّت أصواتنا ولا مجيب، لا مكتب الصحة العامة والسكان، ولا السلطة المحلية بالمحافظة، ولا وزارة الصحة العامة والسكان [التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا] استجابوا لنا"، ويستطرد الشرعبي: "إنه وضع مأساوي للغاية، أعيش تفاصيله بشكل يومي، وأنا أقف عاجزًا أمام المترددين الذين يأتون إلينا لإنقاذهم، وينصدمون بأننا لا نملك شيئًا لإنقاذهم".
ويسرد الشرعبي قصصًا مؤلمة لعدد من الضحايا، وصلوا إليه في مراحل متأخرة، منهم من لا يملك ثمن شراء المصل واللقاح، ويتجاهل الأمر في حينه، ليتفاجأ بظهور الأعراض بعد أسابيع أو أشهر من تعرضه للعضّ، وهنا الخطر الذي يحمله داء الكلب، حسب تعبيره.
نداءات بلا استجابة
تمكنت "خيوط" من الحصول على مراسلات رسمية بشأن توفير المصل واللقاح، موجهة من الوحدة عبر مذكرات رسمية إلى مكتب الصحة في المحافظة، كان آخرها في مطلع يوليو/ تموز 2020. بعدها بيومين أرسل مكتب محافظ تعز مذكرة لوزير الصحة في الحكومة المعترف بها دوليًّا بلا جدوى، إضافةً إلى مذكرة أخرى، وجهها مكتب الصحة بالمحافظة لوكيل وزارة الصحة لقطاع الرعاية الصحية الأولية في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2020، ولم يتلقَ ردًّا حتى الآن بحسب الدكتور ياسين الشريحي، مدير إدارة الترصد الوبائي بمكتب صحة تعز.
الشريحي تحدث لـ"خيوط" عن التعقيدات الكبيرة في هذا الملف، مشيرًا إلى أنه وبالرغم من خطورة الموقف، إلا أن الجميع في دائرة المسؤولية، وفي مقدمتهم مكتب الصحة والسلطة المحلية في المحافظة، اللذان قال إن بيدهما إيجاد حلول بديلة وطارئة للتعامل مع الموقف، وإنقاذ الحالات التي تهرع بغية الحصول على المصل واللقاح، متهماً الجهتين بالتقصير في القيام بدورهما كما ينبغي، حسب تعبيره.
ويرى الشريحي أن مكتب الصحة، بالتنسيق مع السلطة المحلية، يستطيعان شراء كميات معقولة للحالات غير المقتدرة، وبما يضمن بقاء الأمر "في إطار اللاخطر"، منبهًا إلى ضرورة إيجاد حلول جذرية للسيطرة على زيادة حالات الإصابة بالداء في تعز وريفها.
بلغ عدد الذين تعرضوا لعضّات الكلاب منذ مطلع العام 2020 حتى سبتمبر/ أيلول، من السنة ذاتها، 439 شخصًا، وبشكل يومي يتردد على وحدة مكافحة داء الكلب، نحو أربعة أشخاص في المتوسط
أرقامٌ مرعبة
بلغ عدد الذين تعرضوا لعضات الكلاب منذ مطلع العام 2020 حتى سبتمبر/ أيلول، من السنة ذاتها، 439 شخصًا، وبشكل يومي يتردد على وحدة مكافحة داء الكلب، نحو أربعة أشخاص في المتوسط، وهو ما يجعل التدخل لتوفير اللقاح والمصل ضرورة حتمية. ومن بين 711 حالة ترددت على الوحدة، توفيت أربع حالات منذ بداية العام، ومثلها العام الماضي، بحسب الدكتور الشرعبي.
وبالنظر إلى المتوسط الشهري لعدد الحالات التي تعرضت لعضة كلب، جاءت مديرية جبل حبشي الواقعة في ريف تعز أولًا، تلتها مديريتا المظفر والقاهرة، وحلّت مديرية صبر رابعًا، طبقًا لحديث الشرعبي، ما يجعل التحرك لوضع حلول ملموسة على الأرض، ضرورة إنسانية، ومسؤولية اجتماعية، تقتضيها الحالات المتزايدة، إذ لا تفرق الكلاب بين ضحاياها، ويؤكد الشرعبي على أن ما يصله من حالات يشعره بالغصة؛ لعجزه عن التدخل، واكتفائه بتقديم مهدئات مؤقتة، لا تقدم ولا تؤخر.
تتراوح فترة حضانة فيروس داء الكلب عادة من شهرين إلى 3 أشهر، ولكنها قد تتراوح ما بين أسبوع وسنة، ويتوقف ذلك على عوامل، مثل موضع دخول الفيروس إلى الجسد والحمل الفيروسي
ما هو داء الكلب؟
وتفيد منظمة الصحة العالمية بأن داء الكلب مرض يمكن الوقاية منه باللقاحات، ولكن بمجرد ظهور الأعراض السريرية، يصبح داء الكلب قاتلًا بنسبة 100% تقريبًا.
وتُعد الكلاب المنزلية مسؤولة عن انتقال فيروس داء الكلب إلى البشر في نسبة تصل إلى 99% من الحالات. ومع ذلك، فإن داء الكلب يصيب الحيوانات المنزلية والحيوانات البرية سواءً بسواء، وينتقل إلى الإنسان والحيوان محمولًا عادة باللعاب عن طريق العضّ أو الخدش، وفق تعريف المنظمة الدولية.
الجدير بالذكر أن فترة حضانة فيروس داء الكلب تمتد عادة من شهرين إلى 3 أشهر، ولكنها قد تتراوح ما بين أسبوع وسنة، ويتوقف ذلك على عوامل، مثل موضع دخول الفيروس إلى الجسد والحمل الفيروسي، فيما تشمل الأعراض الأولية لداء الكلب الحمى المصحوبة بألم، والشعور غير العادي أو غير المبرر بالوخز أو الألم الحارق (تنمّل الأطراف) في موضع الجرح، ومع انتشار الفيروس في الجهاز العصبي المركزي، يحدث التهاب تدريجي ومميت في الدماغ والحبل النُخاعي، بحسب الموقع الرسمي للصحة العالمية.
على صعيد متصل، ترى المنظمة أن المرض يتخذ شكلين اثنين، على النحو التالي:
داء الكلب الهياجي، الذي تحدث فيه الوفاة بعد بضعة أيام نتيجة للتوقف القلبي والتنفسي.
وداء الكلب الشللي الذي يشكل نحو 20% من مجموع الحالات البشرية. ولا يتطور هذا الشكل على نحو مفاجئ، مثل الشكل الهياجي، ويتخذ مسارًا أطول في العادة. وتُصاب العضلات بالشلل تدريجيًّا، بَدءًا من موضع العضّة أو الخدش.
ويدخل الشخص ببطء في حالة غيبوبة، ويتوفى في نهاية المطاف. وكثيرًا ما يُساء تشخيص الشكل الشللي لداء الكلب، ما يسهم في عدم التبليغ الكامل عن المرض.
ويصاب الأشخاص عادة بالعدوى إثر تعرضهم للعض أو الخدش العميق بفعل الكلاب أو الحيوانات المصابة، وتمثل حالات العدوى البشرية المنقولة من الكلاب المصابة 99% من الحالات.
وتشير المنظمة في مادتها التعريفية بالداء إلى العلاج الوقائي بعد التعرض للعض، وهو العلاج الفوري للشخص بعد تعرضه لداء الكلب عن طريق العض. إذ يمنع هذا العلاج دخول الفيروس إلى الجهاز العصبي المركزي، الذي يؤدي إلى الموت الوشيك. ويتمثل العلاج الوقائي بالغسل الجيد والعلاج الموضعي للجرح الناجم عن العض أو الخدش في أسرع وقت ممكن بعد التعرض المشتبه فيه، ينطوي هذا التدبير من تدابير الإسعاف الأولي على شطف الجرح وغسله جيدًا لمدة لا تقل عن 15 دقيقة بالماء والصابون أو بمادة منظّفة أو بمادة البوفيدون اليودي أو غيرها من المواد التي تزيل فيروس داء الكلب وتبيده.
الخضوع لدورة لقاح داء الكلب الناجع والفعّال، المطابق لمعايير المنظمة، ومن شأن بدء العلاج فور التعرض لفيروس داء الكلب أن يمنع على نحو فعّال من ظهور الأعراض والوفاة.
هذا ويحتفل العالم في الـ28 من سبتمبر/ أيلول، من كل سنة باليوم العالمي لداء الكلب، إذكاءً للوعي بمسألة الوقاية من داء الكلب، وإبراز التقدم المُحرز في دحر هذا المرض المرعب.
وهو اليوم الذي يصادف أيضًا ذكرى وفاة العلامة الفرنسي لويس باستور، المتخصّص في الكيمياء وعلم الأحياء الدقيقة، الذي طوّر أول لقاح مضاد للداء.