بعد أن أنهيت خدمتي العسكرية في مستشفى الصداقة اليمنية المجرية (مستشفى صلاح الدين العسكري)، التحقتُ بالعمل في مستشفى مصافي عدن، وكان ذلك في نهاية العام 1980 من القرن المنصرم. وفي أحد أيام العام التالي، علمتُ أنّ شخصيةً مهمة نزيلة العنبر خمسة، وكان الحرس يقفون خارج غرفته المنفصلة عن بقية غرف العنبر. لم تكن تلك الشخصية سوى الرئيس الأسبق لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية قحطان محمد الشعبي، وهو أول رئيس جنوبي بعد الاستقلال من نير الاحتلال البريطاني، وقد كان حينها في إقامة جبرية فرضها عليه رفاقه في الكفاح المسلح. وبعد أيام قلائل علمت برحيله عبر الإذاعة.
ذكرياتي القليلة تلك هي من دفعتني لأن أقرأ بشغفٍ محموم كتاب (الرئيس قحطان الشعبي ودوره السياسي 1951-1969م) للدكتورة حنان أحمد أبوبكر المرقشي. وهو من إصدارات العام 2023، وقد تمت طباعته بدعم من مطابع الأديب.
الدور الوطني والسياسي
الكتاب في الأصل عبارة عن رسالة قدّمتها الكاتبة للحصول على شهادة الدكتوراة، وقد كان عنوان الأطروحة (الدور الوطني للرئيس قحطان الشعبي 1951-1969م)، ثم أحدثت الكاتبة تحويرًا في العنوان عند طباعته كتابًا في متناول القراء، فأضحى الدور السياسي عوضًا عن الدور الوطني، غير أن الكاتبة قد نسيت أنها تعدّ الكتاب للقرّاء وليس للجنة المناقشة؛ فأهملت حذف ذكر صفتها باعتبارها باحثة؛ إذ ورد هذا الوصف في طيات الكتاب مرات ومرات.
ولقد بذلت الكاتبة جهدًا كبيرًا في الإلمام بكل شاردة وواردة في حياة الرئيس قحطان الشعبي مما له تأثير مباشر أو غير مباشر على دوره الوطني والسياسي في جنوب اليمن إبان الاستعمار البريطاني، قبل تبني الكفاح المسلح خيارًا للاستقلال، وبعد ذلك، وأثناء مباحثات جنيف مع وفد الاستعمار البريطاني، ترأس قحطان الشعبي وفد الجبهة القومية في هذه المباحثات. ثم عاد إلى عدن وأُعلِن الاستقلال.
قسّمت الكاتبة الكتاب إلى ثلاثة فصول، مسبوقة بمقدمة كتبها المستشار سالم صالح محمد، عضو مجلس الرئاسة الأسبق ووزير الخارجية الأسبق، متبوعة بتمهيدٍ هيّأت فيه القارئ -غير العليم- لتتسنى له الإحاطة بدور الرئيس قحطان الشعبي وأهميته، عبر الحديث عن مستعمرة عدن والمحميات الغربية والشرقية، من حيث الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها.
ثم عرجت للحديث في الفصل الأول، في مبحثه الأول، عن شخصية الرئيس ذاته، فأوردت معلومات مهمة في تكوينه الشخصي والثقافي والسياسي، من حيث مولده، وتعليمه، وصفاته، وخلفيته الفكرية. ونعلم من خلال عرضها أنه من مواليد قرية "شَعْب" أحد أودية منطقة طور الباحة عاصمة إقليم الصبيحة، عام 1933، في أسرة ميسورة الحال، وُلد يتيمًا وتربَّى في كنف عمه الشيخ عبداللطيف عبدالقوي الشعبي. التحق بالدراسة في عدن في مدرسة "جبل حديد" التي كانت تعرف بمدرسة "أبناء السلاطين"، وقد أنشأها البريطانيون لتعليم أبناء السلاطين وكبار الشيوخ.
تم ابتعاثه للدراسة في السودان في عام 1947، وأكمل تعليمه هناك بتخرجه مهندسًا زراعيًّا من كلية الزراعة بجامعة "جوردون" في عام 1951، ليكون أول مهندس زراعي بين أبناء شبه الجزيرة العربية، والوحيد بين رؤساء اليمن، جنوبًا وشمالًا، الذي يحمل مؤهلًا جامعيًّا (حسب ما ذكرته الكاتبة د. حنان المرقشي).
وفي المبحث الثاني، ذكرت الكثير من التفاصيل التي يتضح للقارئ -من خلالها- أن الحس الوطني والعروبي متجذر فيه، فحين كان طالبًا في السودان في العام 1948، شارك في إحدى المظاهرات في الخرطوم، وقد كانت السودان حينها تحت نير الاستعمار البريطاني.
وفي مطلع خمسينيات القرن المنصرم، كان واحدًا من مؤسسي رابطة أبناء الجنوب العربي، التي تأسست –حسب قول الكاتبة- ردًّا على "تجربة الجمعية العدنية"، و"جمعية حضرموت الكبرى". وقد انفصل عنها في العام 1954، ليسعى مع زملاء له لتأسيس "الجبهة الوطنية المتحدة".
وعلى المستوى العروبي، كان قحطان الشعبي عضوًا في حركة القوميين العرب التي تأسست كردّ فعل على الهزيمة العربية عام 1948، وهي الحركة التي لقيت لاحقًا دعمًا مباشرًا من الرئيس جمال عبدالناصر (رئيس الجمهورية العربية المتحدة) حينها، لا سيما بعد العدوان الثلاث 1956.
حوى الكتاب الكثير والكثير مما نحتاج لأن نعرفه عن جزءٍ من تاريخ جنوبنا اليمني الحديث، في مرحلة ما قبل وأثناء وما بعد الكفاح المسلح، وكذا الاستقلال، وما يجب أن تعرفه الأجيال عن أول رئيس وطني لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
تشكيل الجبهة القومية
وفي الفصل الثاني، تناولت في المبحث الأول، علاقته بثورة 26 سبتمبر في شمال الوطن ضد الحكم الإمامي، حيث كان قحطان الشعبي واحدًا من القيادات ممن آزروا ثورة 26 سبتمبر 1962، التي اندلعت في شمال الوطن ضد النظام الإمامي آنذاك، بل إنّ الرئيس عبدالله السلال (أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية)، قد عيّنه مستشارًا له لشؤون الجنوب المحتل، وكان يحق له حضور اجتماعات مجلس الوزراء، والنقاش، ولكن دون تصويت.
وفي المبحث الثاني، تحدثت عن دوره في تأسيس الجبهة القومية، إذ تم في أغسطس 1963 تشكيل لجنة تحضيرية مكونة من 11 عضوًا، اختير قحطان الشعبي رئيسًا لها، وكانت مهمة اللجنة التحضير لتكوين الجبهة القومية، وتحدثت بإسهاب عن دوره النضالي في الكفاح المسلح 1963-1966، وعن دور قحطان الشعبي دوليًّا في إدارة الثورة المسلحة.
وجاء الفصل الثالث، بمباحثه الثلاثة، لتحدثنا د. حنان المرقشي عن الخلافات السياسية بين قوى الثورة المسلحة، وهي الخلافات السياسية التي نشبت بين القوى السياسية في جنوب اليمن، لا سيما بين جبهة التحرير والجبهة القومية، وأثر القرار المصري بدمج الجبهتين في جبهة واحدة، وأبرزت رفض قحطان الشعبي له علنًا، وهو الرفض الذي آزرته فيه القيادة العامة للجبهة القومية، والذي قامت على إثره الحرب الأهلية بين أعضاء وأنصار الجبهتين، ولقد كان صراعًا دمويًّا مُرًّا دارت رحاه في عدن في سبتمبر 1967.
ونظرًا لوقوف قوى الجيش مصطفّة مع عناصر الجبهة القومية ضد جبهة التحرير، فقد حسم الصراع لصالح الأولى؛ وبذا فقد ارتأى الاستعمار البريطاني أنّ الجبهة القومية هي القوة الوحيدة على الأرض، ولهذا فقد قرر إجراء مباحثات الاستقلال معها في جنيف.
من الاستقلال إلى الانقلاب
وكان الفصل الرابع في المبحثين الأول والثاني، مفردًا للحديث عن مفاوضات الاستقلال الوطني ثم عن تحقيق الاستقلال وانتخاب قحطان الشعبي رئيسًا، وحالما انتهت المباحثات بين وفد الجبهة القومية والوفد البريطاني عاد الوفد إلى عدن، وفي مساء يوم الاستقلال أقيم مهرجان جماهيري ضخم في "مدينة الاتحاد" سابقًا -"مدينة الشعب" حاليًّا- ألقى فيه الرئيس قحطان الشعبي بيان الاستقلال، وتم عقب ذلك تكليف القيادة العامة له برئاسة الجمهورية وإعلان تشكيل الحكومة.
وفي المبحث الثالث، أوردت مقدرة الرئيس قحطان محمد الشعبي وحنكته في إدارة الدولة داخليًّا في المجالات المختلفة سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا، وذكرت علاقاته مع دول الجوار والدول العربية والدول الأجنبية أثناء فترة حكمه القصيرة، وامتدت علاقات الدولة في أيامه غربًا وشرقًا وشمالًا وجنوبًا مع الدول العربية، وكثير من دول العالم.
أما الفصل الخامس، وهو الفصل الأخير، فقد أوردت في مباحثه الثلاثة الخلافات السياسية الداخلية عقب الاستقلال والعقبات التي جابهته وأعاقت مساعيه في تحقيق ما يصبو إليه، وذلك بسبب العناصر المناهِضة لسياساته، وهي العناصر التي كان يصفها بالطفولية، حيث كانت تسعى للتوجه الماركسي، والانحياز نحو الدول الاشتراكية، وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي. وأوضحت فيه كيف تمت الإطاحة به بعد أن احتدمت الصراعات بين جناحَي الجبهة القومية؛ اليميني بقيادة الرئيس قحطان الشعبي بمعية رئيس الوزراء عبداللطيف الشعبي، وجناح اليسار بقيادة عبدالفتاح إسماعيل وعلي عنتر وغيرهما، وكانت حركة 20 مارس 1968، ثم أعقبتها أحداث 14 مايو من العام نفسه، وتلاحقت أسباب الجفوة والفُرقة بين الفريقين، قرّر إثرها الرئيس قحطان الشعبي ورئيس الوزراء عبداللطيف الشعبي تقديمَ استقالتيهما؛ حقنًا للدماء وحفاظًا على اللحمة الوطنية، وتم قبول الاستقالتين في 22 يونيو 1969، أو ما عرف بيوم الخطوة التصحيحية.
انقلب الرفاق على رفيقهم في رحلة الكفاح المسلح، وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية، وفُرضت عليه الحراسة المشددة حتى وفاته في 7 يوليو 1981.
حوى الكتاب الكثيرَ والكثير ممّا نحتاج لأن نعرفه عن جزء من تاريخ جنوبنا اليمني الحديث، في مرحلة ما قبل وأثناء وما بعد الكفاح المسلح، وكذا الاستقلال، وما يجب أن تعرفه الأجيال عن أول رئيس وطني لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
ومن الأمور الجميلة التي حظيَ بها الكتاب، إضافة 44 صورة للرئيس قحطان محمد الشعبي، في أزمنة وأماكن مختلفة، في مراحل شتى من حياته قبل الرئاسة وبعدها، داخل البلاد وخارجها.
وممّا يعيب الكتاب أنه قد حوى كثيرًا من الأخطاء النحوية والإملائية والطباعية، وبعضًا من الأخطاء التاريخية التي نبهتُ إليها أنظار الكاتبة بصورة فردية، وأرجو أن تتنبه لها في طبعة قادمة.