لم يعد "عمار" كما كان، لقد تغير كثيرًا، تدهور مستواه الدراسي بعد أن كان من أوائل الصف، أصبح حبيس جدران غرفته وشاشة موبايله، يُمضي أكثر من سبع ساعات في عراك وهمي وانتصارات كاذبة في لعبة الببجي، ضعف جسمه وأصابه الهزال، لم يعُد يهتم بتناول طعامه، حتى على سفرة الطعام، عيناه تبحلقان في شاشة الموبايل وأصابعه تنقر بتوتر عليها.
هكذا وصفت والدة عمار حاله مع لعبة الببجي، التي أدمن عليها منذ عام.
عمار مراهق يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، يدرس في الصف الأول الثانوي، صار يحرم نفسه من مصروفه اليومي الخاص بالمدرسة لشراء كرت النت؛ ليتمكّن من المشاركة في لعبة الببجي التي صارت همه الوحيد.
تقول والدته لـ"خيوط": "فقدَ ابني عمار الشغف في الحياة، ولم يعد يمارس أيّ نشاط كأقرانه في هذه المرحلة العمرية، أصبح يعيش في عزلة اجتماعية وأسرية، وإن كنّا نجلس معه، نراه يبتسم تارةً وينفعل تارة أخرى، يقطب جبينه ويعقد حاجبيه، يتلفظ بألفاظ لم نعتدها وهو يلعب الببجي، صار يغيب كثيرًا عن المدرسة بسبب سهره ليلًا، فقدَ رغبته في الدراسة والتعلُّم، وأصبح يتكلم كثيرًا عن الموت، ويتصرف بانفعال كثير لأتفه الأسباب".
تضيف والدة عمار: "حزينة كثيرًا على وضعه، وأشعر بقلق كبير لأجله، حاولت كثيرًا أن أمنعه من هذه اللعبة، فلم أستطع، صار يُهدّد بترك المنزل والدراسة".
المبالغة في استخدامها لها انعكاسات سلبية على شخصية اللاعبين بها؛ لِمَا تحمله من مضامين سلبية؛ لأنّها تنمّي في عقولهم العنف وتعلّمهم أساليب ارتكاب الجريمة وحيلها.
العالم يقتتل
عمار ليس الوحيد من يعاني من إدمان الببجي، فهناك الكثير والكثير ممّن أدمنوا عليها، فقد تجاوز عددُ عملية تنزيلها (المليار) في مختلف أنحاء العالم، بحسب تقرير رويترز، وأصبحت هذه اللعبة محطّ اهتمام وشغف الكثير، صغارًا وكبارًا من كلا الجنسين.
وفي اليمن، التي تبلغ نسبة مستخدمي الإنترنت فيها، حوالي 27% من إجمالي السكان المقدر عددهم بما يقارب 33 مليونًا و700 ألف نسمة، بحسب تقرير وكالة آيكون للتسويق الإلكتروني، اتجه الكثير من الشباب نحو هذه اللعبة، حيث تجدهم في مقاهي الإنترنت وعلى الطرقات بالقرب من شبكات النت؛ الأمر الذي يُنذر بعواقب وخيمة على مستقبل الأطفال والمراهقين؛ بسبب هذه الظاهرة التي تتطلب التفات المجتمع إليها وإيجاد الحلول التي تساهم في الحد منها.
وتعود تسمية ببجي بهذا المسمى، اختصارًا لجملة: بلاير أنونز باتل غراواند (playerunknownsBattegrounds) ويقصد بها ساحات معارك اللاعبين المجهولين، وهي لعبة من الألعاب الإلكترونية التي تُلعب على الهواتف الذكية أو الأجهزة الحاسوبية، وتعتمد على قتال مجموعة من اللاعبين مع بعضهم، باستخدام مختلف الأسلحة؛ مما تساهم في توليد العنف والمشاعر النفسية السلبية للأفراد؛ نتيجة تكرار مشاهدتها باستمرار، وتكوين النزعة العدوانية ضدّ الآخرين في سلوكياتهم الواقعية، كما أنّها تعمل على بثّ أفكارٍ لا تتفق مع الدين الإسلامي؛ ممّا تؤدّي إلى تشويش وتدمير عقول الأطفال والمراهقين.
آثار وأضرار
بالرغم من أهمية اللعب للأطفال والمراهقين، وبعض الفوائد الناتجة عن اللعب بالألعاب الإلكترونية التي تنمي لدى الأطفال والشباب بعض المهارات، مثل التخطيط واتخاذ القرار وسرعة التفكير، إلّا أنّ المبالغة في استخدامها لها انعكاسات سلبية على شخصية اللاعبين بها؛ لِمَا تحمله من مضامين سلبية، فهي تنمّي في عقولهم العنف وتعلمهم أساليب ارتكاب الجريمة وحيلها، إضافة إلى الإصابة بعددٍ من الأمراض النفسية والبدنية.
وأشارت إحدى الدراسات الميدانية التي أُجريت على عينة من طلبة جامعة قاصدي مرباح ورقلة بفلسطين، البالغ عددهم 58 طالبًا، إلى أن ممارسة لعبة الببجي نتج عنها الكثير من الآثار، منها: الشعور بآلام جسدية (اليد، الصداع، الرقبة) بنسبة 36%، وصعوبة في التعامل مع الآخرين بنسبة 24%.
وفي دراسة أجراها مشري، عام 2017، بعنوان "أثر الألعاب الإلكترونية عبر الهواتف الذكية على التحصيل الدراسي للتلميذ الجزائري"، أفادت بأن الألعاب الإلكترونية تؤثّر على التحصيل الدراسي للتلاميذ؛ بسبب الإفراط في استخدامها.
الإفراط في ممارسة الألعاب الإلكترونية يعرض الدماغ إلى شحنات كهربائية، قد تتسبّب في انهيارٍ عصبيّ للشخص وجعلِه انفعاليًّا وعدوانيًّا.
مخاطر صحية
أكّدت الدكتورة أمل أحمد الرياشي، اختصاصي أول في الطب النفسي ومعالجة الإدمان بصنعاء، أنّ ممارسة الألعاب الإلكترونية، ومنها الببجي، ساعات طويلة وبشكل مستمر، تسبّب الإدمان عليها؛ ممّا يصيب الفرد بآثار نفسية، منها: العزلة والانطوائية، والتخلي عن الأنشطة الأسرية والاجتماعية، وإصابة الفرد بالاكتئاب والقلق؛ الأمر الذي ينعكس على سلوكه الاجتماعي.
وتضيف الرياشي أنّ الإدمان على الألعاب الإلكترونية، ومنها الببجي يؤدّي إلى الإصابة بالأَرق وقلة النوم؛ ممّا يؤثّر على الدماغ ومراكز التفكير والتركيز، فيؤثر على مستوى التحصيل الدراسي، إضافة إلى أنّ الصور المتوهجة التي تصدر من الموبايل تؤثر على الدماغ، ويمكن أن تصيب الأشخاص بنوبات صرعية.
وأشارت الدكتورة أمل الرياشي، إلى أهمية معالجة هذه الأعراض النفسية، عن طريق التقليل من استخدام الألعاب الإلكترونية، وإشراك الأطفال والشباب في أنشطة حقيقية رياضية واجتماعية، والخروج مع الأصدقاء والأهل.
ونوّهت بأنّه في حالة الإدمان الكبير على الألعاب الإلكترونية، ينبغي أن يتلقّى الشخص علاجًا سلوكيًّا معرفيًّا في العيادات النفسية.
انسحاب اجتماعي
وأشار الاختصاصي الاجتماعي والمعالج النفسي، الأستاذ صخر طه الشدادي، إلى الآثار الاجتماعية الناتجة من الإدمان على ممارسة الألعاب الإلكترونية، ومنها لعبة ببجي، التي لم تقتصر على الأطفال والمراهقين، بل بين كثيرٍ من الشباب وحتى المتزوجين، وأهمّها ضياع الكثير من الوقت الذي من الممكن استثماره في تعلم مهارات جديدة، والاستفادة منه في إنجاز أعمال مثمرة للإنسان.
ويقول الشدادي: "إنّ الإدمان على ممارسة هذه الألعاب يؤدّي إلى آثار خطيرة مثل الانسحاب الاجتماعي، الأمر الذي يؤثّر على علاقة الشخص بأسرته ومجتمعه، وفصل أفراد الأسرة عن بعضهم، وإضعاف الروابط الأسرية نتيجة العزلة التي يعيشها الأشخاص، إضافة إلى ضياع القدوة، واختلاق شخصيات وهمية وخيالية، وصعوبة التكيف مع الواقع". وأضاف: "إنّ الإفراط في ممارسة الألعاب الإلكترونية يعرض الدماغ إلى شحنات كهربائية، قد تسبّب انهيارًا عصبيًّا للشخص، وتجعله انفعاليًّا وعدوانيًّا".
وقال الأستاذ صالح بغاشة، ناشط اجتماعي، بأسف: "راح من كل شيء أحسنه، حتى ألعاب زمان".
مشيرًا إلى تغير كثيرٍ من صور العلاقات الاجتماعية عمّا كانت عليه سابقًا، وغياب الكثير من الألعاب القديمة التي كانت تُمارس فيما مضى، وكانت تعزز الروح الجماعية والتعاون بين الأفراد والجماعات، والتي كانت تمثّل ظاهرة صحية متمثلة في لعب الأطفال والمراهقين بألعاب تتميز بأنشطة حركية وتفاعلية حقيقية، تُدخِل السرور في نفوس الأطفال، وتساهم في تنمية القدرات والتخلص من المشاعر السلبية والنشاط الزائد.
وينصح بغاشة ولاةَ الأمور إلى توجيه أبنائهم وبناتهم إلى الألعاب المفيدة التي تساهم في الإبداع والابتكار، وتشجيع أبنائهم للعب بها مع تقنين أوقات اللعب بالموبايل.
ودعا المجتمع إلى إحياء الألعاب الشعبية في نفوس الأطفال والشباب، وممارستها بأشكال جماعية؛ للتخفيف من العزلة التي صار كثيرٌ من الأطفال يعيشونها، وإلى إقامة أندية مجانية للأطفال والمراهقين لممارسة الألعاب الرياضية والأنشطة الثقافية والترفيهية الهادفة، التي تساهم في تخفيف الضغوط النفسية لدى أبنائنا، وتعمل على بناء شخصيتهم بطريقة سليمة.