(1)
تقعيد وقومسة الملفوظات الشعبية، والبحث عن مصادر كلماتها ونظائرها في المعاجم والقواميس العربية، وغير العربية تدخل في السياق الدرسي للمدونات الشفهية للتراث اللامادي، ودراسات البنى الثقافية ومنظوماتها التفاعلية في المجتمعات المحلية ذات الخصوصيات المتفردة، لتشكل في نهاية المطاف إضافة للتنوع الثقافي في أوطان وجغرافيات متعددة الأعراق والمعتقدات.
قبل سبع سنوات أصدرت مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة بتعز كتاب "ذاكرة المعافر– مفردات خاصة من اللهجات اليمنية لبلاد المعافر"، للمؤلف عبدالله محمد حزام المقرمي، رصد فيه، وبالطريقة المعجمية والقاموسية، مئات الألفاظ والكلمات المتداولة في قرى ومناطق الحجرية التي اعتبرها امتدادًا للهجات وملفوظات حميرية؛ لأن بلاد المعافر - كما يقول- هي من بطون حمير، وامتدت رقعتها الجغرافية من الصبيحة جنوبًا إلى بني مجيد في بلاد المخا غربًا وحتى خدير والجند شرقًا وشمالًا حتى بلاد شرعب.
وإن فكرة تأليفه للكتاب كان بدفع من المؤرخ والشاعر مطهر بن علي الإرياني، بعد أن بقت فكرته تجول في ذهنه، فعرضها على الإرياني، فأشار عليه أن يقوم بالكتابة فيها، ففعل مدفوعًا ومسترشدًا بمعجم الإرياني المسمى "المعجم اليمني في اللغة والتراث"، الذي صدر حتى الآن بطبعتين؛ جاء في ثانيتها كمقدمة: "موضوع هذا الكتاب مشروعٌ مفتوحٌ وفقًا لما جاء في مقدمة طبعته الأولى؛ لأن البلوغ به إلى الغاية المتوخاة، والشأو الممكن، لا يتم إلا بتضافر الجهود وتعدد الأعمال بحسب تعدد اللهجات في المناطق المختلفة، ما أحوج الدارسين -ولا سيما المستعربين- إلى عمل يضم ما في اللهجات اليمنية من المفردات اللغوية الخاصة مما لا نجده في المعجمات العربية".
قبل عام وقليل، أصدر المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية بصنعاء كتاب "قاموس العرف القبلي في اليمن" من ثلاثة أجزاء لمؤلفه أحمد الجبلي، وأهمية هذا القاموس تكمن في كونه دراسات أنثروبولوجية ولغوية وتاريخية معمَّقة للحالة اليمنية، في مواضع قبلية شتى في الشرق والغرب والشمال والجنوب، أما عمقه فيظهر في ذهابه البعيد في قراءة حال القبيلة كبنية وموروث لم تزل هي المشغل الفاعل في العلاقات الاجتماعية السياسية في البلاد، التي تتجاذبها النزاعات بتمظهرات كثيرة، أكثرها تجليًّا الحالة القبلية ذاتها، التي تستدعي كل أدواتها وتُسخِّرُها في الصراع، ولكنها بالمقابل قد تستجلب كل إرثها حين تصير مشغلًا ثقافيًّا وفلكلوريًّا في سياق التنوع الكلي في الجغرافيا في حالة السلم. هذا الكتاب يُغطي كل الجماعات القبلية التي زارها المؤلف، أو صدرت عنها كتابات في اليمن، ويبحث في مدى أهمية وطبيعة العلاقة التي تنشأ بين هذه المكونات والمكونات الاجتماعية والسياسية في البلاد، وتأثيراتها المباشرة في ذلك.
استوقفني في إحدى المكتبات بصنعاء قبل أشهر قليلة كتاب صدر العام الماضي يعنى بمفردات لهجة وأمثال مدينة إب، وأسماه مؤلفه محمد عبدالكريم المنصوب "دليل مفردات لهجة وأمثال مدينة إب ومعانيها"، وهو في محصلته يُعزِّز ما ذهب إليه مؤلف "المعجم اليمني في اللغة والتراث"، وقريب من هذا الكتاب هناك كتاب آخر صدر مؤخرًا في العاصمة الأردنية عمان عنوانه «ملامح الثقافة العربية في أمثال مدينة إب اليمنيّة» لمؤلفه الدكتور محمد علي عزيز الذي يعمل أستاذًا للغة العربية في إحدى الجامعات الأمريكية، والذي "حَرصَ على رصد الأمثال التي تجري على ألسنة أهل مدينة إب، متتبّعًا جميع الأمثال الخاصة بأهل هذه المدينة، معتمِدًا على المؤلفات السابقة، متوقِّفًا عند الأمثال المشهورة في المدينة، والتي أغفلتها تلك الكتب؛ فألحقها في مواضعها، راصدًا جميع الأمثال بنفس لهجة أهل إب، مستعرِضًا شروحها باللغة العربية الفصحى. ووَفْق المؤلف فإنه لم يستطع استيعاب جميع الأمثال هناك؛ على اعتبار أنّ هناك مئات الأمثال المفقودة، ولم يتمكن من البحث عن كلّ منها، مؤكدًا أنه اعتمد على الأمثال المشهورة والمتداوَلة في مدينة إب، ومعظمها يعودُ للفترة التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، حسب عرض للكتاب في موقع اليمني الأمريكي.
يبحث الكتاب في جذور كلمات المحكي الشعبي لمدينة عدن في المعاجم العربية التقليدية، وقد خلص المؤلف، حسب ما ذهبت إليه مقدمة الكتاب، أنه رأى "فيه معجمًا مصغرًا لمعجم اليمن
(2)
قبل أيام قلائل أهداني الصديق جمال عمر يعقوب كتابًا مهمًّا يحفر في هذا الاتجاه وعنوانه "لسان عدن– معجم لغوي"، لمؤلفه أمين محمد حيدر شمسان "المحامي"، ويبحث الكتاب في جذور كلمات المحكي الشعبي لمدينة عدن في المعاجم العربية التقليدية، وقد خلص المؤلف، حسب ما ذهبت إليه مقدمة الكتاب، أنه رأى "فيه معجمًا مصغرًا لمعجم اليمن، لما لعدن من ميزة خاصة عن سائر مدن اليمن، فهي النسيج الاجتماعي المصغر لأهل اليمن كافة، كونها الميناء التاريخي لليمن والدويلات التي تعاقبت في حكم اليمن من زيادية وصليحية وطاهرية ورسولية وغيرها؛ مما جعل عدن محطّ أنظار أهل اليمن للتوطن والإقامة، فاستوطنها الجميع وشكلوا نسيجها الاجتماعي، فاختزلت لغتهم جميعًا". [ص 14]
وعملية الجمع والتأليف لمادة الكتاب التي امتدت لأربعة عشر سنة، عززت لدى المؤلف قناعة كبيرة "إلى أن أهالي عدن يختزنون كنزًا من لغة العرب، وعلى ألسنتهم مفردات لا يفقهها غيرهم، بل ومفردات من الإنجليزية يجهل أهل اللغة أن أصلها عربي، ولا يتناقلها إلا العدنيون، وقد خلص بعد البحث والتحري -كما قال- إلى أن في عدن كنزًا من لغة العرب ومخزنًا لكثير من مفردات اندثرت من الأفواه رغم وجودها في بطون أمهات المعاجم والكتب. بل أنه وجد كلمات قد خلت من المعاجم كافة لندرتها، ثم تجدها عابرة في معجم دون غيره، إلا أنك تجد هذه الكلمات على ألسن الناس في عدن؛ وكذا وجود كلمات اختلف فقهاء اللغة في تفسيرها، وقال المؤلف لو جاؤوا إلى عدن لأجمعوا عليها". [ص 7]
في تكوين عدن الحديث الذي ابتدأ منتصف الأربعينيات أي بعد أن فرغ العالم من حربه الكونية الثانية، ستكتسب المدينة الكوزموبوليتيّة هويتها التعددية باستيعابها للوافدين الجدد من الريف اليمني المتنوع، بعد أن ارتفع الطلب على الأيدي العاملة بفعل تعاظم النشاط الاقتصادي والتجاري الخدمي في المدينة، "وعمل المستعمرون الإنجليز على أن تكون عدن مدينة عصرية في محيطها المتخلف، فمدّوها بوسائل الحداثة والخدمات، لتجتذب إليها الكثير من المهاجرين من مناطق الريف اليمني الباحثين عن فرص عمل، أو لتكون نقطة عبور لهم إلى غيرها من البلدان والمدن على الضفة الأخرى وأوروبا والعالم الجديد. "وأدّت عدن دورًا مهمًّا باعتبارها فضاءً جوهريًّا ومؤثرًا في حركة الشخصية ومصيرها، وعتبة للتحول والاتصال بين الداخل والخارج، فهي في نظر معظم الشخصيات الروائية، جسر عبور نحو البحر وخوض مغامرة الهجرة"، كما يقول عبدالحكيم باقيس.
ازدادت المدينة اتساعًا ونموًّا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد تحولها إلى قاعدة عسكرية وتموينية تتبع وزارة المستعمرات البريطانية، وصارت موقعًا اقتصاديًّا وتجاريًّا مهمًّا بعد توسيع وتطوير الميناء، وإنشاء مصفاة عدن الصغرى "البريقة"، بواسطة شركة "بي بي" العملاقة "بريتيش بتروليوم"، وهو الأمر الذي جعل المدينة حاضنة لآلاف النازحين من ريف اليمن المتوكلي ومناطق المحميات اليمنية في الجنوب والشرق، الذين كانوا يعانون من التمييز المناطقي في ذروة شعار "عدن للعدنيين"، الذي رفعته الجمعية العدنية أواخر الأربعينيات".
كانت عدن، ولم تزل، مزيجًا اجتماعيًّا من أبناء اليمن كافة ورمزًا لنسيجه الاجتماعي ووحدته الثقافية والحضارية وجامعة مفتوحة للهجات أبنائها وأبناء من وفدوا إليها، فاختزلت لغتهم جميعًا، مما أكسبها ثروة لغوية عظيمة
ويذهب صاحب "لسان عدن" إلى قول مشابه لهذا الطرح حين قال: "في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين في بداية تأسيس شركة "مصافي عدن" باتت عدن من أهم الموانئ في المنطقة آنذاك؛ حيث كانت ترسو في ميناء عدن، للتزود بالوقود سنويًّا خمسة آلاف سفينة. وأمام هذا الرقي الحضاري والاقتصادي والاجتماعي، الذي جعل من عدن قبلة لأهل اليمن كافة، ومحط أنظارهم، يتقاطرون عليها فُرادى أو جماعات، للتجارة أو التوطّن والإقامة، فكانت موطنًا لكثير منهم، فتباركت أرضًا بهم وتباركوا بها، فامتزجت ثقافتهم بثقافتها، في نسيج اجتماعي وثقافي وحضاري أساسه التسامح الديني والمساواة، بعيدًا عن الفكر الطبقي السلالي، فكانت عدن لهم الوطن والقبيلة، مما جعل الاعتزاز بالانتماء إلى عدن أحد أهم الأسباب في نبذ العصبية القبلية وعدم الاهتمام بتوثيق سلالات الأنساب". [ص 29]
وتبعًا لكل ذلك "كانت عدن، ولم تزل، مزيجًا اجتماعيًّا من أبناء اليمن كافة ورمزًا لنسيجه الاجتماعي ووحدته الثقافية والحضارية وجامعة مفتوحة للهجات أبنائها وأبناء من وفدوا إليها، فاختزلت لغتهم جميعًا، مما أكسبها ثروة لغوية عظيمة". [ص 30]
وسنتوقف في هذه المقاربة أمام ثلاثة نماذج يقدمها الكتاب، تستحق أن تكون نماذج واضحة لمحتوى الكتاب، وهي على النحو التالي:
- في باب حرف الميم تأتي كلمة "مَاتِك"، وتعني في اللهجة العدنية الطعام الذي بدون ملح، والذي يعرف أيضًا بالطعام "التَّافل"، وعند البحث في معاجم العرب عن معنى "ماتك" وجدها المؤلف بمعانٍ كثيرة، ومنها "المَتكُ" وهو ما تبقى من بظر المرأة بعد ختانه. فـ"الماتك" لُغةً المرأة المختونة، فمن عادات بعض الأقوام ختان البنت؛ "لكسر شهوتها وإخماد أنوثتها"، وهو ما يعرف بالمرأة الباردة، وقياسًا عليه يقال في عدن للأكل البارد الذي لا يستساغ "ماتك"، ويقابلها قولهم امرأة مملوحة، ومن الطرائف في عدن أن يقال للمرأة السَّافية الباردة "إنها تحتاج جونية ملح".
- في باب حرف الطاء نصادف كلمة "طَسِيسٌ"، والطسيس هو الغشيم الأجوف فارغ العقل، يقال: "فلان طسيس" أي لا يفقه شيئًا، والطسيس جمع "طاسة وطست"، فقد ورد في لسان العرب "الطَّسُ والطسَّة والجمع أطساس وطسوس وطسيس"، ورأى المؤلف أن الأجداد أرادوا تشبيه صاحب العقل الأجوف بالطاسة، كونها جوفاء من الداخل، ونشأ منها المثل العدني الذي يقول: "الطاسة الفارغة تطِّن".
- في باب حرف الزين تظهر كلمة "زَقزَقَ"، والزقزقة شرب الماء، ويغلب استعمالها في شرب الخمر، فيقال في عدن: "فلان يزقزق" أي يشرب الخمر، وأصلها من "الزِّق" وهو اسم من أسماء الخمر، كما ورد في معاجم العرب.
كثير من الكلمات غير العربية دخلت إلى اللهجة العدنية، ومنها أسماء أشياء شائعة وكثيرة التداول، ومنها كلمة: "شَمبَل"، و"الشمبَل" جمعه شنابِل، وهو الحذاء الخفيف المصنوع من البلاستيك، وأصل الكلمة هندية (جِبل - Chppl)، وكلمة "شُولة"، والشولة الموقد (البوتجاز)، وأصل الكلمة هندي أيضًا "choola"، أما كلمة "شِيدَر"، وتطلق على عباءة القماش سوداء اللون، وتلتحف بها المرأة من رأسها -دون الوجه- حتى أخمص قدميها، فهي فارسية وأوردو "جادر- chader".