لا يكاد يخلو بيتٌ في حضرموت من المباخر التقليدية، التي تنشر الروائح الزكية في الأرجاء، الأمر الذي جعل صناعتها اليدوية حرفةً مزدهرة؛ يشارك فيها الرجال والنساء على السواء، لكنها تحظى باهتمام أكبر من جانب المرأة الحضرمية، التي تمارسها بإبداعٍ وتناسق.
ليست هذه الحرفة حِكرًا على حضرموت وحدها، بل منتشرة في مناطق كثيرة، لكن ما يميزها في حضرموت عن غيرها، يعود إلى طبيعة البيئة هذه المحافظة، وارتباطها الحضاري بالطين الذي شُيدت منه المباني الشامخة، المزينة بالنقوش والزخارف الجميلة، إضافة إلى براعة المرأة الحضرمية في صناعة "المقاطر" كما كانت تسمى قديمًا والمباخر حديثًا_ في هذه الحرفة، التي تعدُّ لدى البعض حرفةً ومصدرَ دخل.
عراقة تتجدد
في المجتمع الحضرمي، ما يزال اسم "المِبْخَرة" مرتبطًا بالمناسبات السعيدة والحزينة أيضًا. صانعةُ المباخر، زينب عبد الله (43 سنة)، تُوْضِحُ لـ"خيوط"، أن تلك الاختلافات لا تُعبِّر عن ذائقةٍ شخصية، بقدرِ ما تعبِّر عن نوعية المنطقة؛ كل منطقة في حضرموت (كالمكلا، وسيئون، وتريم، والشحر)، لها طابعٌ مختلف يميزها عن غيرها.
تذكر زينب، أن دافعها إلى ممارسة هذه الحرفة، يعود إلى قيمتها الفنية؛ تقول إنَّها تُشعِرها بالفخر والتفوّق، "لا علاقة للقيمة المادية بممارستي لهذه الحرفة، إنما لعراقتها وقيمتها الفنية التي لا تُقدَّر بثمن، كما أنها تحتاج إلى براعة وجهد لإتقانها، حتى يُعجَب بها كل من يراها"، تضيف.
في حديثها لـ"خيوط"، ترى الأخصائية الاجتماعية، ناهد بالعلا، أن من المهم أن تحافظ المرأة الحضرمية على هذه الحرفة؛ تلك الأهمية _بحسب بالعلا_ تأتي من ضرورة الإبقاء على الدور الفاعل للمرأة في جميع المجالات، وجعْلها تعتمد على نفسها بشكلٍ أكبر، بما يحقق استقلاليتها.
تتعدد أشكال المباخر الحضرمية وأحجامها؛ منها الصغير، والكبير، كذلك منها المطلي بالألوان الزيتية المستخدمة في البيوت، وهناك أيضًا المزينة بالأقراص المنفوخة، أو المرايا، بناءً على طلب الزبائن الذين يستخدمونها في البيوت والمساجد.
تردف: "يجب تفعيل دور الجهات المختصة، من أجل الاهتمام بهذه المجالات والصناعات اليدوية، لأنَّها تُمثل حضارةً وتاريخًا انتشر في كل مكان، وتطويرها عن طريق استخدام الوسائل الحديثة في صناعتها، توفيرًا للجهد والوقت، بحيث يمكن انتاج عددٍ أكبر، في وقتٍ أقلّ".
الخامة وطريقة الاعداد
عن طريقة استخراج المادة الأولية، والتحضير لصناعة المباخر، تشرح أم زيد (56 سنة) لـ"خيوط"، أنها تذهب إلى جبل في منطقتها؛ تأتي منه بالطينة الصفراء (تكون على هيئة أحجار قوية)، ثم تقوم بتكسيرها إلى قطع صغيرة جدًا قبل إذابتها في الماء، حتى تصبح عجينة لينة متماسكة، بعد أن تضيف إليها نِشَارة الخشب.
تتابع: "ثم أبدأ في عمل الجزء الأسفل، وتعريضه إلى أشعة الشمس لمدة يومين، قبل أن أبدأ في العمل على الجزء الأعلى، الذي أعرِّضه أيضًا لأشعة الشمس مدة يومين. بعد هذه المرحلة، أقوم بنحته وإزالة الزوائد، إلى أن يصبح ملمسه ناعمًا، ثم تأتي مرحلة تلوينه بالألوان الصبغية، وإضافة النقوش والزخارف، في عملية تستغرق من 8 إلى 10 أيام".
وتتعدد أشكال المباخر الحضرمية وأحجامها؛ منها الصغير، والكبير، كذلك منها المطلي بالألوان الزيتية المستخدمة في البيوت، وهناك أيضًا المزينة بالأقراص المنفوخة، أو المرايا، بناءً على طلب الزبائن الذين يستخدمونها في البيوت والمساجد، وفقًا للسيدة أم زيد.
فيما يخص الإقبال على هذه الصناعة، تقول إن "عليها كثير من الطلب، لكن في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد دخول المباخر المستوردة المصنوعة من المعدن، بدأ الطلب يقل على الأصناف الطينية، واقتصر الطلب عليها من قبل محلات العطور، أو المسافرين إلى الخارج من أبناء حضرموت، الذين يقدمونها كهدايا للمغتربين".
تراجع التقليدي لصالح المستورد
رغم ما تتميز به صناعة المباخر الحضرمية، إلى جانب كونها مصدر دخل لبعض الأسر، بدأت تشهد تراجعًا يهدد مستقبل هذه الحرفة، التي يؤكد العاملون فيها، أن الصناعات اليدوية والتقليدية، تشهد انحسارًا لصالح المنتج الصناعي، المواكب "للتطورات الحديثة"، حسب أم زيد.
من جهتها، تشدد بالعلا، على ضرورة قيام الجهات المختصة بتقديم الدعم والاهتمام، للحفاظ على الموروث الحضرمي، الذي "بدأت ملامحه بالاختفاء تدريجيًا، الأمر الذي يستوجب تقديم الدعم والأدوات الحديثة، لزيادة العملية الإنتاجية وتشجيع المرأة على الاستمرار في عملها".