إنّ المرأة في الحضارات القديمة، وفي العصور الوسطى، وإلى وقت قريب، كانت توضع في مرتبة أدنى من الرجل، ولم تكن تتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها، حتى بعد أن أعلنَت الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1787، "حقوق الإنسان والمواطن"، بقيَت المرأة الأوروبية محرومة من حق الانتخاب، مثلًا، في بعض جهات أوروبا إلى بداية القرن العشرين.
ولكن كيف كانت حقوق المرأة في الإرث والزواج أيام الجاهلية وصدر الإسلام؟ وهل هناك ما يبرر الخوض في مسألة الحد من تعدد الزوجات في الإسلام، في الوقت الحاضر؟
إنّ حقوق المرأة في الإرث والزواج في المجتمع البدوي القبَلي قبل الإسلام، كان لها ما يبررها، في ظل الظروف الاجتماعية والثقافية والجغرافية التي كان يعيش فيها المجتمع الجاهلي، إذ كان مجتمعًا رعويًّا، والملكية شائعة على مستوى المراعي خاصة، والعلاقة بين القبائل الرعوية علاقة نزاع حول المراعي، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، نجد أنّ الزواج لم يكن مجرد علاقة بين رجل وامرأة فقط، بل كانت علاقة مصاهرة، أي علاقة بين أهل الزوج وأهل الزوجة، ومن ثَمّ بين القبائل، والمصاهرة بين القبائل كانت تقوم في المجتمع العربي في الغالب، على تفضيل الأباعد على الأقارب. وتزويج البنت بشخص من غير قبيلتها، كان يثير مشاكل تتعلق بالإرث في حال وفاة أبيها؛ ذلك لأنه إذا كان لها أن تأخذ نصيبًا مما ترك؛ ماشية كان أو مجرد الحق في المرعى المشترك، فإن هذا النصيب سيؤول إلى قبيلة زوجها، على حساب قبيلة أبيها؛ وهذا قد يتسبب في منازعات وحروب، ومن أجل تلافي هذه المشاكل عمدت بعض القبائل العربية في الجاهلية، إلى عدم توريث البنت بالمرة، بينما منحتها قبائل أخرى الثلث أو أقل.
كذلك توريث البنت في المجتمع القبَلي الرعوي، قد يؤدّي إلى الإخلال بالتوازن الاقتصادي –في حال صح هذا التعبير- خاصة إذا أخذنا في الاعتبار محدودية المال المتداول في هذا المجتمع، خاصة مع تعدّد الزوجات الذي كان معمولًا به في المجتمع الجاهلي.
إثارة مسألة تعدد الزوجات في الإسلام، في الوقت الحاضر، له ما يبرره؛ لأن الدين لم يوجبه ولا حثّ عليه أو نصح به، بل عمل على الحد منه بوضع شروط تميل إلى المنع، إذ اشترط الإسلام العدل بينهن في جميع الأمور، وهو شيء متعذر، في حين أنّ مسألة تعدد الزوجات كما وردت في القرآن، تحتمل أكثر من تأويل؛ لأنه ربط بينها وبين أموال اليتامى.
لذا فإن تعدد الزوجات في حالة توريث البنت نصيبًا كنصيب الرجل، يتحول إلى وسيالة للإخلال بالتوازن الاقتصادي في المجتمع العربي القبَلي، إذ قد يرث الرجل عن طريق زوجاته من قبائل متعددة، ما قد يؤدي إلى تركُّز الثروة فيه، فيختل التوازن وتنشب نزاعات وحروب. وعلى هذا، فحرمان البنت من الإرث كما كانت تفعل بعض القبائل، كان تدبيرًا تفرضه الوضعية الاجتماعية.
لم تكن المرأة في التراث الديني مسلوبة الإرادة والحرية، أو منقوصًا من فاعليتها، وهذا ما نلمسه في مسألة المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام، فالاتجاه العام السائد في القرآن والحديث، هو التسوية بينهما مع تخصيص المرأة بوصفها أُمًّا، بمكانة سامية.
منهجية المساواة بين الرجل والمرأة
إنّ المرأة مكلفة بما كُلِّف به الرجل نفسه في الواجبات الدينية، وساوى بينهما في المسؤولية، ما عدا تلك التي لا تتحملها المرأة، كالجهاد فهو غير واجب عليها. وقد ورد في القرآن مرات عديدة عبارة "من ذكر وأنثى"، وعبارة "المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات"، في معرض المساواة بين الرجل والمرأة، كما حرَّم وَأْدَ البنات، وهي عادة كانت سائدة في الجاهلية.
وإذا نظرنا لحقوق المرأة من وجهة نظر الدين الإسلامي، فيما يتعلق بالإرث، فسنجد أنه راعى الوضعية الاجتماعية السائدة في المجتمع العربي الجاهلي، ونظر إلى وجه المصلحة، فقرر نوعًا من الحل الوسط الذي يتناسب مع المرحلة الجديدة التي بدأها الإسلام، فجعل نصيب البنت نصف نصيب الولد، وجعل نفقة المرأة على الرجل، سواء كانت أمًّا أم زوجة.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار الوضعيةَ الاجتماعية ومعطياتها زمنَ نزول التشريع، اهتدينا إلى ما يمكن أن يصلح لالتماس التبرير العقلي لمسألة نصيب البنت من الإرث، تمامًا مثلما يمكن التماس المعقولية في أحكام أخرى، مثل قطع يد السارق، الذي كان متعارفًا عليه أيام الجاهلية، لعدم وجود سجون ولا جهات خاصة أو دولة تعتقل السارق وتنظم وتشرع العقوبات، لقد كان العقاب البدني هو الوسيلة الزجرية الوحيدة التي تعاقب السارق وتجعله معروفًا ليُحتاط منه، ولمّا جاء الإسلام احتفظ بهذا التدبير مراعاةً للوضعية ذاتها، مثل الاحتفاظ بأحكام كانت جارية من قبل، ومعلوم أن الفقهاء المجتهدين استخلصوا من روح التشريع الإسلامي قاعدة تنص على أنه إذا تعارضت المصلحة مع النص، رُوعيَت المصلحة؛ لأنّها هي الأصل في ورود النص.
التعدُّد وسياسة المصاهرة
إنّ تعدُّد الزوجات في المجتمع العربي القبَلي الجاهلي قبل الإسلام، كان ظاهرة اجتماعية مقبولة ومعمول بها، بل إننا نجد أنها مطلوبة في ظل الوضعية الاجتماعية التي كان يعيشها المجتمع الجاهلي، حيث كان الهدف منه -إضافة إلى المتعة- توثيق العلاقات والصلات بين القبائل عن طريق المصاهرة بينها، إذ كان هذا يخفف من النزاعات والخلافات، ولربما الحروب التي كانت تسود المجتمع القبَلي في الجاهلية.
وهكذا نجد لدى العرب في الجاهلية، أنهم إذا وجدوا رجلًا يعاني عداوة مع رجل آخر، قالوا له: "تزوج ابنته واكسره"؛ لأنّ المصاهرة في المجتمع القبَلي وسيلة من وسائل إقرار السلم والأمن وإطفاء العداوة، كما فعل النبي محمد (ص)، بعد صلح الحديبية مباشرة، عندما بعث إلى الحبشة من يخطب له أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت إليها مع زوجها الذي تُوفِّي عنها هناك.
أما إثارة مسألة تعدد الزوجات في الإسلام، في الوقت الحاضر، فله ما يبرره؛ لأنّ الدين لم يوجبه ولا حثّ عليه أو نصح به، بل عمل على الحد منه بوضع شروط تميل إلى المنع، إذ اشترط الإسلام العدل بينهن في جميع الأمور، وهو شيء متعذر، في حين أنّ مسألة تعدد الزوجات، كما وردت في القرآن، تحتمل أكثر من تأويل؛ لأنه ربط بينها وبين أموال اليتامى؛ ذلك أنه أمر أولياء اليتامى بالعدل في أموالهم؛ بمعنى تجنُّب أخذها أو الإضرار بها، وكان الرجل في الجاهلية يتزوج عددًا من الأرامل قد يزيد على العشرة طمعًا في أموال أولادهن؛ ولهذا نهى الدين عن ذلك، وحصر عدد الزوجات المسموح بهن إلى أربع، شريطة أن يعدل بينهن في كل الجوانب المادية والمعنوية، يقول تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، (حوبًا تعني: ظلمًا).
إن هذه العلاقة بين اليتامى وتعدد الزوجات في الآية السابقة، تحتمل أكثر من معنى، حيث نجد أنّ المفسرين أولوها تأويلات مختلفة، ولكن مع الإبقاء على تعدّد الزوجات في حدود الأربع شيئًا مباحًا، وهكذا فإن الحديث عن الحد من تعدد الزوجات، يُعَدّ من الأمور التي تقبل التفكير فيها، في ضوء المبدأ الثابت في الإسلام، الذي هو المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وما دام القرآن اشترط العدل، الذي يعد أمرًا مستحيلًا أو مشكوكًا فيه في جميع الأحوال؛ يقول تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾، وهذا ميل واضح إلى المنع.