(1)
تمهيد
لم يكن الغناء في اليمن بعيدًا عن الصراعات السياسية، بل تأثر بها وكان أحيانًا جزءًا منها. ومؤخرًا ذكر لي صديقي المخرج آدم الحُسامي عن لقاء جمعه بأحد الفنانين اليمنيين، في القاهرة، أثناء تصوير لقاء معه للتلفزيون، وأخبره أنه ذات مرة هاجمه بقسوة في مقالة، وكان رد الخواجة: "الله يلعن السياسة؛ فرقت بيننا".
ومقولة الفنان الذي غنّى داعمًا للانفصال، لم تكن سوى صورة بليغة لتأثير الصراعات السياسية في اليمن على الغناء. ففي ذروة تصاعد الخطاب الانفصالي، انخرط بصوته الجميل مُغنيًا وداعمًا. لكنه بعد سنوات، سيدرك أن عباءة السياسة أصغر من مساحة الفن. أو أنه لم يعد راغبًا بجعل فنه وسيلة لتغذية الشقاق.
فعلى الأرجح انخرط نفس الفنان في الغناء بهدف أن يحمل مطالب سياسية مشروعة ضد مظالم رأى أن النظام ارتكبها، وليس لإشاعة فُرقة أو كراهية. وهكذا لم يُخفِ امتعاضه من أثر السياسة على الغناء، بل أبعد من ذلك؛ على العلاقات الاجتماعية.
يقول الحسامي، أنه منذ تلك اللحظة تشكّلت صداقة مع ذلك الفنان والإنسان، أزالت تلك الحمولات الملغومة بالسياسة.
قبل ذلك بحوالي نصف قرن، اندلعت ثورة 26 سبتمبر في شمال اليمن ضد الحكم الإمامي، عقب ذلك حروب استمرت سنوات بين الجمهورية الوليدة ومناصري الملكية، ولم يتخلف الغناء عن قاطرة الصراع.
والتحق فنانون كُثر بركب الثورة، لعل أبرزهم الفنان علي الآنسي، الذي لم يكتفِ بأغانيه الثورية، والداعمة للثورة ضد الإمامة. إنما أيضًا، غنّى للمدافعين عن الجمهورية في جبهات القتال، بما في ذلك فترة حصار السبعين.
وفي خضم الصراع، انحاز فنان آخر من جيل الآنسي بالجبهات الأخرى في صفوف الملكيين. كان محمد أبو نصار يصغر الآنسي بثماني سنوات، وينتسب لأسرة حميد الدين الحاكمة قبل سقوطها عام 62.
عرَّضت الصلة العائلية (أبو نصار) للحبس بداية العهد الجمهوري، وبعد خروجه من الحبس أصبح صوته مناصرًا لحكم أسرته.
اللافت، أن صاحب "يا مجلس الأمن" سجّل أول أغانيه لإذاعة صنعاء في العهد الإمامي. وخلافًا لعُرفٍ لدى تلك الأسر، بازدراء الغناء وتحريمه، فرضت موهبته نفسها ليحظى بتشجيع أسرته، فسجّل أول أغانيه لإذاعة صنعاء أواخر العهد الملكي.
ولعل اختياره اسم "أبو نصار" كان نوعًا من التوافق على استمراره بالغناء، مستبعدًا لقب الأسرة حتى لا يثير حساسيتها. لكنْ هناك أمران: أولهما تخفف موقف الأسرة الحاكمة في آخر السنوات إزاء الغناء، وفي نفس الوقت ربما كانت مقتنعة بما للغناء من دور سياسي، ولعلها رأت في صوت (أبو نصار) سندًا وداعمًا مضمونًا لها.
وفي ذروة المعارك من أجل استرداد الحكم الإمامي، كان أبو نصار عونًا لها، غير أن أغانيه السياسية الداعمة للملكيين ضاعت نتيجة الصراع السياسي، ولم يُكتب لها البقاء، فكانت أغانيَ مارقة في نظر الجمهورية.
ورغم اختلاف الانحياز السياسي، بين الآنسي و(أبو نصار)، فستجمعهما صورة جنبًا إلى جنب، تجمعهما روح الفن، الذي بإمكانه إزالة شوائب السياسة، ولدى (أبو نصار) أغنية من كلمات شقيقه يقول مطلعها: "يا مجلس الأمن ذُل المستهام اليماني وهو كريم الحسب".
من الوهلة الأولى قد يخطر للذهن بأنها ربما إحدى تلك الأغاني السياسية التي دعم بها الملكيين، لكنها أغنية شكوى بهجر الحبيب تدعو تدخل مجلس الأمن.
وبصرف النظر عن موضوعها العاطفي، فهي نتاج تأثر بالصراع السياسي الذي شهدته اليمن بعد ثورة سبتمبر؛ فاستدعاء "كريم الحسب" لوصف العاشق، يبدو استدعاء للفكرة الجوهرية التي يقوم عليها حكم الإمامة، أي ارتباط الحكم بالانتساب العائلي، وما إلى ذلك من امتيازات، وهو نفس الانتساب الذي ينتمي له الشاعر يحيى حسين حميد الدين، والمغني أبو نصار، وهما شقيقان.
وبطبيعة الحال، تتضمن الأغنية تجسيدًا غير مباشر عن محنة منظومة الحكم العائلية التي تزين استبدادها بصكوك دينية، فعلى الأرجح لا يقتصر هذا الاستدعاء على سياق اجتماعي، إنما سياق سياسيّ، وهي نفسها الصيغة الموجهة لمجلس الأمن.
ولن نذهب بعيدًا في التأويل، لنفتش عن آمال كانت حاضرة لدى الجانب الملكي بالحصول على دعم دولي يتم انتزاعه عبر قرار من مجلس الأمن. ففي تلك الفترة كلف الأمين العام للأمم المتحدة (يوثانت) أولَ مبعوث أممي إلى اليمن، للتدخل في الصراع. وتدخل المبعوث (رالف بانش) في محاولة لإقناع السعودية ومصر من الانسحاب أثناء الحرب بين الجمهوريين والملكيين.
فالأغنية، وإن تضمنت خطابًا عاطفيًّا يطالب فيها العاشق بتدخل مجلس الأمن، فإنها بصورةٍ ما كانت نتيجة لتقاطع الغناء مع الصراع السياسي في اليمن، على الأقل بتوظيفها دلالات على صلة بحرب استمرت عدة سنوات.
وفي تاريخ الغناء اليمني، سنرى عشرات الأغاني ذات الدلالات السياسية، ظهرت في جنوب اليمن وشمالها، ففي سبعينيات القرن الفائت ظهرت أغنية الآنسي "أنا الشعب يا فندم"، وكانت ترميزًا واضحًا تنتقد فيه حكم العسكر، بعد ما جرى تسميته "حركة التصحيح 13 يونيو" بقيادة إبراهيم الحمدي، وما تلاها من تجميد لمجلس الشورى.
وفي الجنوب، ظهرت أغنية "نشوان"، كلمات سلطان الصريمي، وألحان وغناء محمد مرشد ناجي. ولعدة سنوات، كانت الأغنيتان محظورتين في شمال اليمن، حتى إنّ أغنية المرشدي، تداولها الجمهور بوصفها إدانة لمقتل الحمدي، مع أنها موجهة لنقد سياسي لا صلة له بتلك الواقعة، فالقصيدة نشرت أول مرة في الأول من يونيو العام 1974، بمجلة الحكمة؛ أي قبل أن يصعد الحمدي للحكم، وليس مقتله فقط.
على أنّ السياسة أيضًا، فرضت على الغناء تفسيرها الخاص، وكانت الدوافع جاهزة لدى الجمهور اليمني بالتعاطي مع أغانٍ لوصف واقع سياسي أو موقف، بل إنّ بعض الأغاني السياسية ارتفع شأنها بسبب ما تعرضت له من الحظر، مثلها مثل السجناء السياسيين والمناضلين، فلم يكن اللحن هو المغزى، إنما ما تحمّلَه من معنى، حتى إنّ البعض وجد في الاستماع لها دلالة عن موقف معارض للنظام السياسي، وأحيانًا عن قدر من النضال، لأنها ممنوعة ومحتمل أن تتسبب في الحبس، وهكذا تسللت خفية بنوع من المخاطرة.
وفي سياق حديثنا عن الغناء السياسي في اليمن، سألني صديقي عن الفرق بين الأغنية الوطنية والأغنية السياسية، فأجبته أنّ ما يمكن اعتباره غناءً سياسيًّا، هو ذلك المارق والمحظور في نظر الحاكم، بينما الغناء الوطني هو ما يحظى باتفاق أوسع من أكثر الشرائح.
ومن الممكن أيضًا أن يصبح الغناء السياسي وطنيًّا، وفقًا للتفسير العام، أو لتفسير طرف سياسي وربما العكس، لكنه أيضًا يصبح بالنسبة للنظام مارقًا، وكذلك خطرًا على السكينة العامة والوطن، وما إلى ذلك من دلالات تتماشى مع الخطاب السياسي للسلطة، لكن ما هو ممنوعٌ ليس بالضرورة سياسيًّا، أو أن الغناء أصبح سياسيًّا في بعض المناطق اليمنية؛ وذلك نتيجة الحظر المفروض عليه من جماعة الحوثي، والتي تسعى لحكر الغناء على الزامل، والنشيد الديني، الذي أصبح أداتها الدعائية.
ويمكن لنا الخوض في سياق أوسع حول الأغنية السياسية، وما يجعلها مختلفة عن الأغنية الوطنية، وأين النقاط المشتركة إن وجدت، في القادم من مقالاتنا.