عادة ما كان يستلهم الكتاب الرموز والشخصيات التاريخية والتراثية والأحداث في العديد من الأساليب، كالاستدعاء والقناع والمحاكاة والترميز وغيرها من آليات إنتاج النصوص التي تحاور الماضي وتوظفه في بنية نصية جديدة. وقد جرى ذلك في أدبنا اليمني الحديث بقوة ووضوح في الإبداعات الشعرية منذ السبعينيات، في أثناء السعي إلى حداثة النص الشعري أسوة بنماذج عربية. غير أن توظيف التاريخ اليمني القديم بأحداثه ورموزه سرديًا ظل خافتا جدا، إن لم نقل غائبا تماما، ما يجعل بروزه في السنوات الأخيرة يشكل ظاهرة جديرة بالتأمل في ظل تحولات كبرى شهدتها اليمن مؤخرًا تتصل بقضايا كبرى منها الهوية والوطن والحرب والوجود وأسئلة الحاضر وخطاباته ونزعاته كالسلالية والقومية والمذهبية والمناطقية، ما استدعى ضرورة الاستجابة التناول سرديًا في العديد من الكتابات، ومن بينها الرواية في توجهها نحو التاريخ والتخيل التاريخي.
دائمًا ما يكون اللجوء إلى التاريخ بوصفه حصنًا من حصون الهوية في الأزمنة التي تعاني فيها المجتمعات تحديات كبيرة، وفي هذا السياق يمكن أن نفهم بروز ظاهرة الأقيال (القومية) بوصفها ردة فعل في مواجهة السلالية (الهاشمية)، حركة الأقيال التي لها خطابها ورمزها والتي بدأت مؤشراتها تأخذ في الانتشار، من الخطاب السياسي والإعلامي إلى الأدب والفنون المجاورة. ونلمح ذلك في الدراما والتشكيل والاهتمام بالرموز التاريخية مثل الكتابة المسندية (الخط الحميري القديم) ورمزية الوعل في التاريخ والثقافة اليمنية، وكذلك الاهتمام بالبن المتصل بالهوية التاريخية والتراثية، وغير ذلك من الرموز القومية الحضارية التي تعضد الهوية التاريخية والجمعية في مواجهة خطابات التشظية والطائفية في مرحلة الحرب الأهلية اليمنية الآن.
في إطار الرواية في اليمن ظهرت موجة الكتابة الروائية التاريخية أو تخيل التاريخ بمختلف العصور والحِقب، الحميرية القديمة والإسلامية والوسيطة، والعثمانية وما بعد العثمانيين. غير أن العودة بالتخيل التاريخي إلى تاريخ اليمن في ما قبل الإسلام ربما يشكل الظاهرة الجديرة بالتأمل في ظل السياقات والظروف التي أنتجت نصوصها، ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى رواية علي البعسي (على خطى ملشان إريم) بوصفها آخر الأعمال الروائية التاريخية التي صدرت مطلع هذا العام (2024) وتقدم متخيلًا تاريخيًا تحاول توظيفه في إنتاج دلالة خطابها الروائي. وهي إذ تقفز بأحداثها إلى مرحلة مقاومة اليزنيين للغزو الحبشي، فإنها تعيد بناء أحداث الماضي في ظل معطيات ومشكلات الواقع المعاصر والتباساته المتعددة، أي إعادة تشكيل الماضي في ضوء معطيات الواقع بأسلوب أقترح أن نطلق عليه مماهاة الماضي بملامح الحاضر، وفيه يكون تأويل الماضي وتسريده من خلال أسئلة الحاضر، وهي عملية تختلف عن أسلوب التوظيف والإسقاط التي جرت عليها الروايات التاريخية في السابق، التي كانت تسقط الماضي على الحاضر، قصد البحث عن إجابات لمشكلات وتحديات معاصرة في أحداث الماضي واستلهامها في مواجهة الحاضر، فالمماهاة هنا تعني الذهاب بالحاضر في حيرته وأسئلته إلى الماضي، إنها الإسقاط العكسي، الذي يؤدي فيه التاريخ دور الخلفية التأطيرية التي تجري عليها أحداث وشخصيات متخيلة بسمات الحاضر وملامحه، ولعل الرواية في اليمن هي الأجدر في الاشتغال على هذا اللون من الروايات التاريخية، لأنها تتكئ على ميراث تاريخي حضاري عظيم، حافل بالأحداث والرموز والشخصيات والأساطير، وقابل للتشكيل والتأويل، وتعيش في واقع مثخن بالهزائم والتشوهات والالتباسات والحروب والصراعات التي تولد العديد من الأسئلة المتصلة بالهوية والوجود والمستقبل، وهنا مكن المفارقات التي يمكن أن تلهم الكتاب في إنتاج كتابات روائية تستنطق التاريخ بأسئلة من الحاضر.
وإلى جوار خطاب الحرب وسردياتها تقفز الرواية بفكرة حقوق الأقليات والموقف من الآخر، ومواجهة التمييز وقضايا المهمشين والحريات والانحياز إلى القيم الإنسانية الكبرى وغير ذلك من خطابات الحاضر، تقفز بها إلى الماضي المتخيل.
ورواية (على خطى ملشان أريم) تنقلنا في رحلة سردية إلى أزمنة موغلة في التاريخ اليمني، حيث الملك اليزني ملشان أريم الذي تحدثت عنه النقوش التاريخية في مقاومة الغزو الحبشي، مع مجموعة من الأقيال اليزنيين المتحالفين في مرحلة ما قبل سيف بن ذي يزن. وتظهر شخصيات لهمان وريدان ومبروك ومسرور وعمير وغيرها مما لها أدوار ووظائف في السرد، تدخل في حيّز التخييل، وتبدو كأنها شخصيات معاصرة، تُمرّر من خلالها الرواية خطاب المماهاة؛ فهناك العدو الذي يزحف على الأرض ويلتهمها ويشكل تهديدًا وجوديًا للجميع، وهناك الحروب بما يعتريها من انتصارات وتحالفات وخيانات، وبطولات وهزائم، وحرب أخرى مستعرة في داخل الحرب الكبيرة، ووجود المليشيات والبلاطجة وكل ما يؤخر الانتصار.
وإلى جوار خطاب الحرب وسردياتها، تقفز الرواية بفكرة حقوق الأقليات والموقف من الآخر، ومواجهة التمييز وقضايا المهمشين والحريات والانحياز إلى القيم الإنسانية الكبرى وغير ذلك من خطابات الحاضر، تقفز بها إلى الماضي المتخيل.
وفي البنية السردية تتخذ الشكل السَّيري على مستوى الأدوار والوظائف، لحياة القائد القيل الشاب لهمان بن يحصب من لحظات الطفولة إلى ساحة المعركة الأخيرة، وفي أثناء ذلك تنمو الشخصية وفق تقاليد البناء السَّيري، حيث الإعداد الخاص في الطفولة والتنشئة، والمرور بسلسلة من الاختبارات التي تكون سببًا في تأهيله لقيادة الجنود، وإلى جواره تظهر الشخصية الثانوية المساعدة ريدان، حيث تؤدي وظيفة الشخصية الثانوية المعيارية؛ المصاحبة والمساعدة والعاكسة والمنافسة والمشابهة.. وكذلك قيام السرد على حبكة تسير في بناء زمني خطي تتشكل من خلاله الأحداث والشخصيات، وفي إطار حيز جغرافي يستمد مقوماته من النقوش والمواقع التاريخية، في لغة سردية تعتمد على إبراز التعدد الصوتي والحوارية التي تتيح للآخر وللخطابات المتعارضة أن تتشكل في داخل اللغة السردية.
ومن المهم القول إنه في إطار ظاهرة التقييل (من الأقيال) ستحمل الرواية على المستوى البصري للغلاف ما يعزز هذه الظاهرة، منذ تشكيل غلافها بالنقوش والرسوم التاريخية وصورة الوعل، فضلا عن تكييف الحرف العربي في مكونات الغلاف والعنوان ليتلائم مع شكل الخط المسند الحميري، وتندرج في إطار الظاهرة العامة الآن العديد من الأعمال، حيث النزوع في تشكيل كتابة عناوين الكتب والأعمال الدرامية بما يشبه خط المسند واستخدام مختلف الرموز المستلهمة من النقوش اليمنية القديمة.