فجرت الصور الأكثر دقة كما تم وصفها، التي نشرتها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، موجة واسعة من الاندهاش والنقاش والجدل والتساؤلات والتحليلات على كافة المستويات في مختلف دول العالم، ومنها اليمن الذي شهد تفاعلًا واسعًا في مواقع وسائل التواصل، وعلى مستوى المجتمع اليمني في كل مكان.
وكشفت وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" في مؤتمر صحفي عقده الرئيس الأمريكي جو بايدن، عن صورة للكون التُقِطت من قبل التلسكوب جيمس، بطيف الأشعة تحت الحمراء، وهي أشعة لا يمكن رؤيتها بالعين البشرية، لذلك يتم التقاط الصور بالأبيض والأسود ثم تلوينها بالألوان التي نعرفها كي تظهر للعين، إضافة إلى أربع صور أخرى قالت "ناسا" إنها لسديم القاعدة "كارينا" وخماسية مجرات ستيفن.
ربما كمجرد شخص عادي، لن تدرك مدى أهمية وعظمة تلك الصورة، إلا أنها بالنسبة للعلماء خطوة عظيمة جدًّا وفائقة للحدود. كل نقطة بتلك الصورة تمثل مجرة مختلفة تحوي مليارات من النجوم، وكل نجم منها به الكثير من الكواكب المختلفة التي قد تتشابه مع كوكبنا، وكل كوكب قد يُحتمل أن تسكن به حياة أخرى وكائنات معقدة في مكانٍ ما. تبعد عنّا تلك المجرات بمسافة 13 مليار سنة ضوئية؛ أي إننا نراها الآن كما كانت منذ 13 مليار سنة. تلك الصورة هي أدق صورة تم التقاطها للكون المرئي، وهي أول صورة يقوم بالتقاطها التلسكوب.
توصيف الحدث
قام محسن سيف، وهو معلم ومتخصص في مجال الفيزياء، بما قال إنه شرح مبسط لتقريب المسألة للقارئ حتى تكون الصورة أكثر وضوحًا.
في حقيقة الأمر -وفق محسن- عندما ننظر إلى السماء، فنحن لا نشاهد النجوم كما لو أنها هي في هذه اللحظة، بل ما يتم مشاهدته هو ضوْؤُها الذي وصل إلينا قبل مئات بل آلاف السنين من اللحظة الحالية، بعبارة أبسط: نحن نشاهد النجوم في الماضي .
امتزج تفاعل اليمنيين بالانتقاد لهذا التفاعل مع صورة "ناسا" للكون، بحجة الوضع في البلاد التي تعيش على وقع حرب وصراع طاحن منذ نحو ثماني سنوات، وتردٍّ معيشي يطال غالبية السكان، لكن من وجهة نظر آخرين، فالطبيعي أنّ الناس تتفاعل مع الحدث وتحاول فهمه، إضافة إلى الضجة التي أثارها في جميع أنحاء العالم.
الأمر والفكرة ذاتها هي ما يقوم به تلسكوب جيمس ويب، الذي لديه قدرة عالية جدًّا على التقاط الصورة حتى من خلال الغبار الكوني الذي يجعل الرؤية غير واضحة للتلسكوبات الأخرى .وبالتالي فإن "التلسكوب" قادر على تغطية مدى واسع جدًّا من الفضاء، وبعيدٍ أكبر بكثير من التلسكوبات المناظرة له .من هنا سيلتقط التلسكوب صورًا لمجرات ونجوم وأحداث في الكون تبعد عنا مسافة مليارات السنين الضوئية .
بعبارة أكثر وضوحًا، فإنّ الصور التي ستصل إلينا من خلاله ستكون صور لمجرات، لكنها حسب بعض المواقع الإخبارية تبعد عنا مسافة 4,6 مليار سنة ضوئية .هذا يعني أنّ علماء الفلك سيكون بمقدورهم مشاهدة صورٍ قديمة للكون بمقدار 4,6 مليار سنة من الآن، وسيساعدهم في خلق رؤية عن طريقة تشكُّلِ الكون .لذا، كما يخلص محسن، فالأمر لا يعني التقاط صورة للأرض من هذه المسافة الزمنية.
كتب صابر حزام، طبيب يمني في اليابان، هذه الصورة التي أعلن عنها، تعد أعمق وأدقّ صورة بالأشعة تحت الحمراء للكون البعيد حتى الآن، التقطها تلسكوب جيمس ويب التابع لناسا. تظهر الصورة آلاف المجرات أو ما يعرف بعنقود مجرات SMACS 0723 كما ظهر قبل 4.6 مليار سنة.
تمكن تلسكوب ويب أيضًا من خلال مرآته الذهبية التي يبلغ عرضها 6.5 أمتار، وأدواته فائقة الحساسية بالأشعة تحت الحمراء، من الكشف في هذه الصورة عن الشكل المشوّه (الأقواس الحمراء) للمجرات التي كانت موجودة بعد 600 مليون سنة فقط من الانفجار العظيم (يبلغ عمر الكون 13.8 مليار سنة).
يصف الخبير العربي في علوم الفيزياء والمتنبئ الجوي، صادق عطية، الصورة التي نشرتها "ناسا"، أنها أدقّ وأبعد صورة تم تصويرها لأعماق الكون في التاريخ البشري بكل عظمتها وبهائه، ويقول: "لو أحضرت حبة رمل، ورفعتها أمام عينيك، وفتحت ذراعك حتى ترفعها أمام السماء، ستساوي بالضبط قطر مساحة الصورة التي أنت تراها، يعني كل الذي أمامك هو مجرد مساحة أصغر من حجم ذرة رمل، بالمقارنة بحجم السماء والأفق كله".
المبهر هنا أنّ الصورة هي -حرفيًّا- أعمقُ وأدقّ صورة تم التقاطها للكون البعيد غير المرئي، في ترددات الأشعة تحت الحمراء، وكل ما تم مشاهدته، هي صورة مجرات قام تلسكوب جيمس ويب بتجميعها في لقطة تصوير بأقل من يوم واحد.
التوظيف والسخرية
امتزج تفاعل اليمنيين بالانتقاد لهذا التفاعل مع صورة "ناسا" للكون، بحجة الوضع في البلاد التي تعيش على وقع حرب وصراع طاحن منذ نحو ثماني سنوات، وتردٍّ معيشي يطال غالبية السكان، لكن من وجهة نظر آخرين، فالطبيعي أنّ الناس تتفاعل مع الحدث وتحاول فهمه، إضافة إلى الضجّة التي أثارها في جميع أنحاء العالم.
كان هناك حضور للجانب الفكاهي والسخرية اليمنية المعتادة أو توظيف الحدث في التعليق على قضايا ومواضيع وأحداث عامة، فكتبت وداد البدوي تصف صورة نشرتها لمدينة تعز تم التقاطها من جبل صبر المطل على المدينة؛ "تظهر أعمق نقطة في مدينة تعز، بقية التفاصيل في موقع ناسا". وعلّق أحدهم عليها: "لو تصل هذه الصورة إلى وكالة ناسا ستضيف لها ألوانًا وتعمل منها قصة عالمية، ويطلع بايدن يعلن عن اكتشاف جديد لوجود حياة على ظهر "كوكب جبل صبر"، داخل مجرة درب التبانة".
وعبّر أوراس الإرياني بطريقته منتقدًا إقدام "الحوثيين" في صنعاء، على إغلاق إذاعة "صوت اليمن" مرة أخرى بعد عودتها بيومين بحكم قضائي من المحكمة المتخصصة بالصحافة والمطبوعات، وقيامهم بنهب جهاز البث الخاص بالإذاعة؛ "نشتي تلسكوب للقضاء".
وفي منشور كتب أوراس: ""البلطجة" تجاهلت القضاء، وفرضت سلطتها على الصديق مجلي الصمدي (مالك ومدير إذاعة صوت اليمن). تضامني الكامل معك ضد هذه "البلطجة" التي تحارب لقمة عيش".
أحمد الولي عبر عن إحباطه من عدم شعوره بالإثارة بخصوص صور ناسا للخليقة قبل 13 مليار سنة، الأمر محرج قليلًا كما يقول: "لم أتذكر مرة أنني تابعت باهتمام ظاهرَتي الخسوف والكسوف! يجتاحني رهاب من الأفلام الخاصة بالكواكب. فكرة الأنين القادم من شيءٍ ما مجهول يتحرك في الفلك، ويبعد عنك 600 مليون كيلو متر يصيبني بالقشعريرة. أما حكاية الأعاصير الشمسية على بعد 150 مليون كيلومتر، فهي تصيبني حتمًا بالتعرق حتى في فصل الشتاء".
الجدل الديني
السجال الديني كان حاضرًا وبقوة في منشورات ونقاشات اليمنيين، بعد محاولة البعض ربط هذا الحدث بالجانب الديني وأسبقيته في التطرق إلى الكون والفضاء والنجوم والكواكب. في هذا الجانب، يرى حسين الوادعي أنّ الخبرات المتاحة في الجمع بين العلم والإيمان، تقول إن البعض جمع بينهما لكن بثمن.
يتفق الوادعي مع البعض، في أنّ الإيمان الديني ليس له تأثير في بعض فروع العلم كالهندسة وبعض فروع الكيمياء والطب والتقنية، لكن عندما نأتي لعلم الفلك والكيمياء الحيوية والهندسة الجينية والفيزياء النظرية يصبح التعارض بين الرؤيتين حتميًّا. ولحل هذا التناقض يلجأ العلماء إلى طريقتين: الفصل بين حياة العالم وحياة المؤمن، والعيش بعقليتين متناقضتين في الحياة والمعمل، أو الخلط بين الرؤيتين الدينية والعلمية وإبطاء التطور العلمي.
أضاف الوادعي معلقًا على صور "ناسا": "أقرب مجرة لنا تصل صورها إلينا بعد 25000 سنة، أي إننا عندما نراها فإننا نرى وضعها قبل 25000 سنة. بعض الصور التي التقطها جيمس ويب تعود إلى 6 مليارات سنة و13 مليار سنة؛ أي أقرب لحظة من لحظات الانفجار العظيم. مثل هذه المهمة لها أبعاد فلسفية عميقة إلى جانب أبعادها العلمية". فهل تدعم ضخامة الكون والفراغ الواسع فيه والظلمة اللامتناهية ومليارات المجرات الخالية من الحياة تصورات التصميم الذكي.
جمال حسن يرى أن صور الكون الموشى بالمجرات، وضعتنا أمام حقيقة مؤلمة ما زلنا نتعامل معها، هي عداء التزمُّت الديني للعلم. حتى إنهم ينكرون البصر ويقولون إنه ليس هذا الكون الذي ما زلنا نعجز عن سبره. هكذا وقفت أوثان العقل حاجزًا أمام العلم لتبقينا في خرافات ترتدي الدين، وبحسب جمال؛ "فإن أتاهم الرب ليخبرهم بأنها صورة غير زائفة، لَكذّبوه".
ويقول الأكاديمي عبدالرحمن الصعفاني، أستاذ الأدب والنقد بجامعة صنعاء: "علينا أن نعترف أننا تأخرنا علميًّا إلى حدٍّ مُخزٍ للغاية، وأنّ الغرب سيّد هذا العصر علميًّا وتكنولوجيًّا بامتياز، وهذا حق لا يماري فيه إلا جاهل أو مكابر، لكن لماذا لا نتوازن أيضًا وننصف في الموقف والقول، فنعظم الاكتشافات العلمية المبهرة للغرب، ونعطي علماءها وأبطالها حقهم من الإجلال والاعتراف بالسبق والإنجاز؟!".
وفي الوقت نفسه، وَفْقَ الصعفاني؛ "نعطي للحضور القرآني اللافت في بعض التفاصيل -كما في آيات خلق الكون ونشأة الإنسان- حقَّه من التأمُّل والدراسة بكل المحبة والتقدير والبحث دون تمحُّل أو تعصُّب أو مجاملة، بعيدًا عن لغة المعايرة والتهوين والتعريض الذي يمارسه بعضنا لكأنه خصم وعدو ومنتقم من تراثه وقرآنه ومجتمعه، لا ناقد يحاول الإنصاف وتحقيق المسائل بهدوء وموضوعية". "إنّ هذا البعض يقع فيما يقع فيه المتشددون في الطرف الآخر من تسفيه الآخر والتقليل منه وعدم الاعتراف به، لكن بلغة تزعم العقلانية والتنوير".
بدوره، سامي الكاف طرح التساؤل التالي: "أليس مثل هذه الصورة، أهمَّ صورة في العصر الحديث، كنتيجة ماثلة أمام الجميع، إن لم تدعُ إلى التفكير في ماهية الكون، فإنّها تدعو إلى تأمله؟!"، وهناك من تساءل: لماذا لا يقوم تلسكوب جيمس ويب بتصويرها في النهار، فكان الردّ: "لا يدري أنّ الظلام المعتم هو المادة الأصل للكون، وتأثير ضوء النجوم فيه كتأثير ضوء سيجارة في صحراء أو محيط".
أما هذه الصورة فقد التُقطت بالأشعة تحت الحمراء التي ترصد الإشعاعات الضوئية الدقيقة والباهتة، وقد تم التعديل عليها وتلوينها لوصف جزء من تفاصيل الكون المثيرة للدهشة.