اليوم وفي ظل تكنولوجيا المعلومات، يظهر لنا المصمّمون التقنيون بديلًا عن الفنّ التشكيلي الإبداعي، ويمارس المبدعون التشكيليون مهنتهم بصورة عملية أكثر من كونها مهنة إبداعية لرسم لوحات ونحت على الحجر والكلس وغيره.
لا يزال محترفو الفنّ التشكيليّ، الشباب، يمارسون مهنتهم الإبداعية؛ بطريقة سكولائية (مدرسية) في "معهد جميل غانم للفنون الجميلة" في عدن، أو في بقية أقسام الفنون في الجامعات اليمنية، أو ما ندر من إقامة معارض لا يلتفت إليها أحدٌ من المتذوقين أو المسؤولين عن شؤون الثقافة والفنّ، فقليلًا ما نسمع عن تنظيم معرض لفنان أو لمجموعة من التشكيليين الشباب.
في ظلّ الجفاف القاحل الذي يسود عالم الفنّ التشكيلي في اليمن، أُقيمَ مؤخرًا، معرضًا تشكيليًّا بعنوان (ريشة نادية)، وهذا حدثٌ لَعَمري أكثر من مهم؛ لكونه يقيم معرضًا متكاملًا للوحات تشكيلية، وثانيًا لأنّ منظِّم هذا المعرض فتاةٌ عدَنيّة؛ هي نادية المفلحي، التي خرجت علينا من تحت غبار الزمن واستفاقت من حالة موات تشكيلي، كخروج العنقاء من الرماد، وتصنع بإرادتها الحرة عالَمَها التشكيلي في معرض متكامل حظِيَ بما لم تحظَ به أية فعالية خاصة لمبدع.
الأهمية في هذا الأمر، أنّ الفنانة نادية المفلحي كسرت "تابو" التحريم الذي غلَّف عددًا من المبدعين التشكيليين الذين انكفَؤُوا، واختار بعضهم مهنةً أخرى، وتركوا ريشتهم وألوانهم ولوحاتهم للصناعة التجارية.
والأهمية الأخرى أن تأتي هذه الجمالية في صفع غيبوبتنا الإبداعية في فن التشكيل من فتاة لم تستسلم للجو العام القاهر للإبداع، وإنما اندمجت مع موهبتها وريشتها وحركة يدَيها وعقلها، لتأتي بما عجز عنه شيوخ هذا الفن المؤجَّل عن الممارسة حتى استيقاظٍ إبداعيّ عام.
فمن المعروف أنّ ممتهِنِي هذا الفنّ الجميل والأنيق -على قلَّتهم- هم من الرجال، ولم نسمع عن فنّانات تشكيليات في عدن إلا واحدة أو اثنتين على الأرجح. وبالعموم، فإن مهنة ومهارة الفن التشكيلي لم يكن للمرأة يد طولى فيه إلا من حيث جمعه مع مهارة التطريز النسائية. جاءت نادية المفلحي ببراءتها وعفويتها ومهارتها الفطرية لتنتج هذا العالم الجميل من الفنّ التشكيلي، وتقاوم كلَّ ظروف المجتمع والأسرة وقيود العائلة باعتبارها زوجة وأمًّا.
قالت لي وهي تحضِّر لمعرضها: "كنتُ أرسم بيد، ويد أخرى على طفلي أهدهده للنوم. وكم رسمتُ وأولادي يشاغلونني بألعابهم وحركاتهم. كنت أستغلّ كل لحظة أقتنصها من وقت البيت لأمارس هوايتي في الرسم".
هذه الأم التي تقوم بواجبها الأسري، كعادتنا نحن -الشرقيين- في ترك أعباء البيت وواجباته للزوجة والأم، لم تستسلم للحالة الأسرية النمطية، بل قاومت كل ظروف التحكم الأسري وعاداته، لتقتنص وقتًا جميلًا لممارسة هوايتها وسكب إبداعاتها في الشكل واللون والعقل المستنير.
نادية المفلحي نموذجٌ للمرأة التي قاومت على عدة جبهات، بقلب لا ينكسر أمام التحديات؛ فالتحدي الأول كان في احترافها شأنًا يحوم حوله كل أنواع الإهمال واللامبالاة وعدم التشجيع بل تطاله فتاوى التحريم، ومن جهة استطاعت (نادية) أن تكسر قيد الاحتكار الذكوري لهذا الإبداع الجميل، وتقنع كلَّ من حولها أنها تمتلك موهبة فطرية تعبر عن حالة إبداعية تعيشها هذه الفتاة بعيدًا عن تفاهات ومشاغل الدراسة النمطية أو مشاغل الحياة التي تحيط بأي فتاة مثلها، وتجابه بريشتها وقلمها عادات ونمطيات لا تحبذ للفتاة أن تمارسها، وثالثًا أنها سَعْيًا نحو استكمال عنصر مقاومتها الاجتماعية بصفتها أمًّا وزوجة وربة بيت، جعلت من الإبداع أيقونة منزلية بجوار مشاغلها اليومية.
هذه ثلاث تحديات تجعل من الصعب التكهن بنجاح مقاومتها إلا بتوحد الإرادة وسلطة الإبداع التي لم تفارق كينونتها حتى في أصعب الظروف.
لا أستطيع القول إنّ نادية المفلحي قد جلبت القمر وأجلسته أمامها، ولكن يمكن القول إن حركة المبدع الحقيقي لا يمكن أن توقف جريانه أية تحديات، ما دامت الموهبة ساكنة في القلب والضمير، ومعشعشة في الدماغ، وبلحظات تتحول إلى ريشة متحركة أو قلم متجول يسيل حبرًا وألوانًا تعكس ما في داخل هذه المبدعة من هواجس فطرية تترجمها إلى لوحة أو إلى كلمات قصيدة.
ولو أني تمنّيت أن تخلص للريشة، أكثر من توزيع الطاقة في أكثر من إبداع!
سألتُ الابنةَ نادية: هل درستِ الفن التشكيلي وتعلمتِ مهاراته من دراسة فنية؟
أجابتني بالنفي؛ بأنها لم تدرس قطُّ الفنَّ التشكيلي، وإنّ ما تُنتِجه نابع من مهارة فطرية خالصة، وتعجبت كيف أنّ هذه الرسامة تختطّ لنفسها طريقًا لممارسة الإبداع من باب الهُواية ومن إمكانات الفطرة الإلهية.
قلت لها: بعض اللوحات، وخاصة الرصاصية والجرافيكية، فيها قوة التعبير أعلى مقامًا من بعض اللوحات الملونة.
لم تجبني على ملاحظتي، والسبب أنّ مبدعة فطرية وموهوبة لا تستطيع تفسير ما تصنع وتبدع، فهي في جنون إبداعها لا تولي هذه التقسيمات والشروحات السفسطائية والتقييمات المدرسية والنقدية أهمية.
إنّها حاليًّا تبدع وتمضي قُدمًا مخلّفة وراءها ما يسمح للآخرين أن يتحدثوا ويناقشوا ويتفاعلوا مع ريشتها ولوحاتها وألوانها وأقلامها الرصاصية أو الجرافيتية، وهي لا تأبه للنقّاد وما يقولون.
الفطرية وسلاسة الموهبة هو ما يميز أعمال الفنانة الشابة نادية المفلحي، فلا هي تخرّجت من معهد تشكيلي، ولا هي تتلمذت على يد مدرس أو أستاذ في الفنّ التشكيلي، ولا تنتمي لأي مدرسة فنية من مدارس الفنون التشكيلية الانطباعية أو الرمزية أو السريالية، بل لا تدرك أية معلومات عن مدارس بيكاسو، وسلفادور دالي، إلخ.
الفنانة حتى اللحظة، مستسلمة لغواية الإبداع الفطري، وهذا عنوان إبداعيتها؛ أن يتسلح الفنان بالموهبة الجامحة والمعبرة عن الشكل التعبيري، لوحةً أو قصيدةً أو قصة، وقد أجادت الفنانة في خلق حالات تصويرية لمعانٍ إنسانية وقيم مجتمعية، من دون أن يسعفها الإدراك الواعي بذلك.
هذه الفطرية جلية في رسومات المفلحي، وهي قد تجاوزت حدود البدايات لتصل إلى مرحلة التكون الشامل، بَيْدَ أنّ ما ينقص هذه المبدعة النادرة هو أن تتحصل على قدر من الدراسة المنهجية التي تساعدها على تأصيل إبداعها بالشكل والمضمون الذي يخرج من قمقم الفطرة، ولا يغادر متعتها طبعًا، إلى تحصيل معرفي في مجال هوايتها ومحيط شغلها، ليرفده بمعارف تُضفِي على المنتوج معنى معرفيًّا.
فالفنانة نادية حتى اللحظة، مستسلمة لغواية الإبداع الفطري، وهذا عنوان إبداعيتها؛ أن يتسلح الفنان بالموهبة الجامحة والمعبرة عن الشكل التعبيري، لوحةً أو قصيدةً أو قصة، وقد أجادت الفنانة في خلق حالات تصويرية لمعانٍ إنسانية وقيم مجتمعية، من دون أن يسعفها الإدراك الواعي بذلك.
والسؤال المطروح: إلى متى يستمر بنزين الفطرة وحدَه في صناعة لوحات أو أشكال ذات معنى تخييلي ومعرفي يُسهم في إضفاء المعنى التجريدي للإبداع بصفته قيمة تعلو على ذاتها، أكثر من كونها تعبر عن كذا وكذا، بل الحاجة مستقبليًّا أن يرافق موهبتها الفطرية ثقافة مهنية في فنون التشكيل ومدارسه وتجلياته، وثقافة عامة تمنح المنتوج البصريّ معنى قيميًّا.
لذا قلت للابنة نادية: لا بد أن يُتوَّج هذا الإبداع الجميل معرفةً جمالية وثقافية، تُسهم في معرفة ماذا أُنتِجَ من عمل تشكيلي وإلى أي مدرسة فنية ينتمي. وكل ذلك لا يمكن تحصيله إلا بدراسة جامعية منهجية، تستحقين أن تكوني على مقعد الإفادة منها؛ لزيادة في المعارف، ولتنمية العقل بما يسهم في توجيه الإبداع الوجهةَ المعرفية الواعية، من دون الاستغناء عن الفطرة الإلهية التي وهبها الله لكِ.
فلا بدّ من سبيل للخروج من مأزق البدايات، على ما فيه من جمالية وتفوق وإبهار ودهشة لروعة اللوحات؛ لأن ذلك قد ينطفئ باستمرار إعمال الفطرة وحدها دون إرفاقها بالثقافة المعرفية للمهنة التشكيلية، وزاوية النظر التي تجعل من المبدع ما هو أكثر من كونه صائغ أشكال وألوان، وتحيله إلى صانع معرفة وموقف من خلال اللوحة ذاتها.
فكم ستستمر الموهبة في أن تصوغ الجديد والمبدع؟ حتمًا ذات يوم ستقع في حبائل النمطية المكررة.
نادية المفلحي، الفنانة التشكيلية الناهضة من أعلى درجات الإبداعية الفطرية، تحتاج إلى تجديد ريشتها بجانبٍ معرفيّ يقودها إلى اكتمالٍ في الموهبة والمعنى في الإبداع.
لقد نصحتُها بدون مواربة: ابنتنا نادية، بموهبتكِ الرائعة تحتاجين منحة دراسية في الخارج؛ لصقل الموهبة وتطويرها، وإخراج كنوز الإبداع المتجدد من داخلك الثائر بالنشاط والموهبة.
قالت لي وهي تمضي مازحة: "على يدك، أستاذ".
قلت: ما حيلتي وأنا المنظِّر والمتفلسِف على فتاة فاقت موهبتها كل توقع، وأخاف عليها أن يأتي يوم تسقط فيه في النمطية أو العمل التجاري البحت؟!
فهل تعي فتاتنا المبدعة الفنانة التشكيلية، نادية المفلحي، هذا الفخ الناعم؛ كي تتجاوزه إلى عالم من الإبداع والمعرفة؟ فاللوحة التشكيلية ليست صورة للفرجة والإعجاب والدهشة أو للتفسير النمطي فحسب، بل هي موقف ودلالة وحالة معرفية.