تراثنا الغنائي في مهب الريح

بيروقراطية الثقافة أفشلت جهود المسح والتوثيق
جابر علي أحمد
August 10, 2024

تراثنا الغنائي في مهب الريح

بيروقراطية الثقافة أفشلت جهود المسح والتوثيق
جابر علي أحمد
August 10, 2024
.

في ستينيات القرن الماضي، ظهر في الأفق اهتمام عالمي بالتراث عمومًا والغنائي منه على وجه الخصوص. ولأنّ هذا الاهتمام كانت وراءه منظمة اليونسكو، تحركت كثيرٌ من الدول البعيدة عن هذا الاهتمام باتجاه التعامل مع هذه الدعوة الدولية. وفي ظل ضغط منظمة اليونسكو، راحت الدول النامية تفتش عمّا في جعبتها للتماهي مع هذا التوجه.

على أنّ هذه الدول لم تسِر كلها على نفس الوتيرة من حيث درجة ونوع الاهتمام بالتراث الغنائي؛ فثمة بلدان سبق لها أن اهتمت بتراثها قبل تحرك منظمة اليونسكو، ودول أخرى لم تتحرك لمواجهة ذلك لأسباب مختلفة. وفي اليمن ظهر شيءٌ من التفاعل مع تلك الدعوة، ولكن في ظل انعدام الكادر المؤهل لأمر كهذا. وأتذكر أنه في شمال الوطن (الجمهورية العربية اليمنية سابقًا) تفتق ذهن وزارة الإعلام والثقافة حينئذٍ عن إجراء قضى بتكليف الشاعر عثمان أبو ماهر والفنان أيوب طارش للقيام بزيارات ميدانية لمحافظات وقرى لاستكشاف ما تزخر به أفياؤها من تراث شعبي. أما في جنوب الوطن (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقًا)، فقد كلفت وزارة الثقافة والإعلام آنذاك كلًّا من الفنان محمد مرشد ناجي، والفنان فيصل علوي، للقيام بذلك.

من الواضح أنّ الإجراءَين لم يعكسا فهمًا علميًّا بطبيعة المشكلة، ويبدو أنّ معيار الاختيار كان فنيًّا بالدلالة العامة للكلمة؛ ولهذا فقد تمخض الجبل وولد فأرًا، وانتهى كل شيء. على أنّ اليمن الديمقراطية استعانت لاحقًا بخبير إثنو ميوزيكولوجي من ألمانيا الديمقراطية، اسمه (إلسنر) على ما أتذكر. قام هذا الخبير بزيارات ميدانية لبعض القرى في جنوب الوطن، وتمكّن من تسجيل كثيرٍ من الأغاني الشعبية، وسلّمها لوزارة الثقافة والإعلام. وحتى الآن لم يُعرف شيءٌ عن مصير تلك التسجيلات. لقد توقفتُ عند هذين الإجراءَين لأبيّن مدى قصورنا في التعامل مع قضايا تراثنا، بشقيه الشعبي والتقليدي.

بين التجربتين اليمنية والتونسية

شرعت تونس في تأسيس (مركز التراث الشعبي) في ستينيات القرن الماضي؛ وذلك من خلال توجه جادّ لوزارة الثقافة التونسية، حيث كلفت الوزارة العالم الموسيقيّ الجليل صالح المهدي، للقيام بهذه المهمة. أمّنت الوزارة كل ما يلزم لتنفيذ هذا المشروع الذي حالما ظهر إلى حيز التنفيذ، شرع في وضع برامج المسوحات الميدانية في ربوع تونس، معتمدًا على كادر وطني مؤهل لهذه المهمة. كان من نتيجة تلك المسوحات أن أصبح لدى مركز التراث الشعبي التونسي عددٌ لا يستهان به من تسجيلات صوتية ومرئية لعناوين كثيرة من التراث الغنائي الشعبي التونسي. وبعد ذلك قام المركز بإجراء العمليات اللاحقة (الوصف - التحليل - التصنيف - الفهرسة - الأرشفة). وأصبح بالتالي جاهزًا لاستقبال الباحثين المحليين والأجانب الراغبين في البحث عن أسرار هذا التراث.

والجدير بالذكر في هذا الصدد، أنّ إدارة المركز أوصت بضرورة إصدار تشريع يقضي بتجريم أي تعامل شخصي أو عشوائي مع أغاني التراث التونسية، وما كان من وزارة الثقافة إلا الاستجابة لذلك. ومن حينها، أصبح التراث الشعبي والتقليدي التونسي في حماية الدولة التونسية.

كان من حسن حظي أن زرت هذا المركز قبل خمس عشرة سنة، واطلعت على تفاصيل عمله من خلال كادر مؤهل جدًّا، ويتمتع بقدر عالٍ من الثقافة الموسوعية اللازمة لمهمة كهذه.

ما حصل في تونس منذ ستينيات القرن الماضي، دفعني لعقد مقارنة مع ما جرى عندنا من موقف جهات الاختصاص الإدارية من قضية التراث الغنائي. ألمحت سابقًا إلى أنّ وزارتَي الإعلام والثقافة في صنعاء وفي عدن تحركتا على وقع دعوة اليونسكو العالمية للاهتمام بالتراث الغنائي، بغية المحافظة عليه. على أنّ ذلك التحرك خضع لممكنات حالت دون وصوله إلى المبتغى، والإدارة العامة للمصنفات الفنية في صنعاء، ظلت هي المعنية بوضع محددات التعامل مع التراث الغنائي دون توفر ما يؤهلها لذلك. ظل الأمر على هذا المنوال حتى دخلنا في تسعينيات القرن الماضي، حيث سعى الأنثروبولوجي الفرنسي جان لامبير لعقد الندوة العلمية الأولى للموسيقى اليمنية. تحرك جان لتنفيذ ذلك من خلال صلاته الخاصة بالقطاع الخاص اليمني، وبدعم قوي من السفارة الفرنسية في صنعاء، عقدت هذه الندوة في شهر يوليو ١٩٩٧. دُعي للندوة باحثون يمنيون وعرب وأجانب ممن كانت لهم علاقة بالنشاط البحثي الميوزيكولوجي والإثنو ميوزيكولوجي في اليمن. خرجت الندوة بكثير من التوصيات، لعل أهمّها التوصية الخاصة بتأسيس مركز التراث الموسيقيّ اليمني.

المؤسسة الرسمية ممثلةً بوزارة الثقافة، ما زالت خارج الاهتمام الجدي بقضايا التراث الغنائي اليمني. وما زاد الطين بلة أنّ الأحداث السياسية في اليمن منذ ٢٠١١ وحتى الآن، غيّبت تمامًا أيّ اهتمام جديّ بهذا الموضوع الحيوي للغاية؛ ممّا جعل تراثنا الغنائي في مهب رياح مدّعين متسلحين بكل شيء إلا التأهيل اللازم لمواجهة هذا الأمر.

تأسيس المركز وتقييد حركته

كان وزير الثقافة حينئذٍ، عبدالملك منصور، الذي أوكل مهمة دور الوزارة في هذه الندوة إلى هشام علي- وكيل الوزارة، الذي شاطر المنتدين ضرورة تنفيذ التوصية المتعلقة بضرورة تنفيذ إنشاء مركز التراث الموسيقي اليمني. وعليه صدر القانون الوزاري الخاص بإنشاء المركز عام ١٩٩٨. كان ذلك على الورق طبعًا، وبعد فترة قصيرة من صدور القانون، فاتحني الوكيل بمقترح تعييني مديرًا عامًّا للمركز. 

وافقت فورًا، متخليًا عن عملي (مدير عام مكتب الثقافة لمحافظة صنعاء). لن أدخل في التفاصيل المتعلقة بالتأسيس، ولكن الأمر المهم أنّ الوزارة حدّدت مكانًا خاصًّا لمركز التراث الموسيقيّ في المركز الثقافي بصنعاء. أمّا عن الكادر فقد تم اختياره من ديوان الوزارة.

من الواضح إذن، أنّ المركز ظلّ من اختصاص وزارة الثقافة، التي لم تتمكن من استكمال هيكلته إداريًّا وماليًّا على النحو الذي يجعله قادرًا على وضع خطط المسوحات الميدانية في ربوع اليمن؛ ممّا جعل حركته مقيدة تمامًا. كان الأنثروبولوجي جان لامبير مهتمًّا بمسألة تفعيل دور مركز التراث الموسيقي؛ ولهذا سعى إلى تأمين مشروع ممول من اليونيسكو ومن الصندوق الاجتماعي للتنمية، أطلق عليه (مشروع اليونيسكو للحفاظ على الغناء الصنعاني). بُدِئ بتنفيذ المشروع عام ٢٠٠٦. على أنّ العلاقة بين الوزارة ومركز التراث الموسيقيّ ظلّ يشوبها نوعٌ من التوتر، أثّر سلبًا على عمل المركز بصفته جهة معنية بالمسح والجمع والأرشفة.

خلاصة القول؛ إنّ المؤسسة الرسمية ممثلة بوزارة الثقافة ما زالت خارج الاهتمام الجدي بقضايا التراث الغنائي اليمني. وما زاد الطين بلة أنّ الأحداث السياسية في اليمن منذ ٢٠١١ وحتى الآن، غيّبت تمامًا أيّ اهتمام جِدي بهذا الموضوع الحيوي للغاية، ممّا جعل تراثنا الغنائي في مهب رياح مدعين متسلحين بكل شيء إلّا التأهيل اللازم لمواجهة هذا الأمر.

•••
جابر علي أحمد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English