هطل المطر بصورة مستمرة لأكثر من ساعتين في ظهيرة نهار بدأ مشمسًا، كنت فيه أقوم بالإشراف على تنفيذ أحد برامج المهارات الحياتية للنساء في محافظة تعز، وبسبب هطول الأمطار اضطررت للمكوث لما يقرب من ثلاث ساعات في منزل إحدى المتدربات.
كانت سلوى تسكن في منزل والدها الطيني الصغير وترعى والديها الطاعنين في السن، بعد أن غادر إخوتها الثلاثة وزوجاتهم الى المدينة منذ سنوات، سلوى فتاة لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، حُرمت من التعليم، متزوجة منذ ما يقرب من خمس سنوات، وعن قصة زواجها تقول: "وصل أحد أبناء قريتنا من السعودية بعد غربة عشر سنوات للبحث عن عروس، وكنت أنا من وقع اختيار والدته عليها، فأخبرَتْ والدي بذلك فوافق على الفور، وأتم عقد الزواج دون أن أعرف، ثم زفوني في اليوم التالي له كـ"نعجة" -على حد قولها- توقفت هنا قليلًا ثم أضافت: "لقد سامحت والدي، فهو رجل فقير ولم يكن يمتلك أي مصدر للدخل، وأغراه مهري على قلته"، تقول سلوى: "مكث معي زوجي لمدة شهر وأنا طفلة لم أعِ بعدُ أي تفاصيل عن الحياة الزوجية والتزامات النساء تجاه أزواجهن، ثم سافر مرة أخرى إلى السعودية وإلى اليوم لم يعُد!".
بعد مرور ثلاثة أشهر من زواجها، قررت سلوى العودة إلى منزل والدها المسِنّ بسبب مشكلات بينها وبين والدة زوجها، لكنّها إلى اليوم لم تطلب الطلاق، رغم عدم تواصل زوجها معها أو مع أهلها ألبتة غير أنه ما زال ومن خمسة أعوام، يرسل لها عبر والدته مصاريف شهرية، كما تقول بمبلغ خمسة آلاف ريال أي ما يعادل 20 دولارًا آنذاك، وتبرر استمرارها في الزواج بقولها: "من سيعطيني خمسة آلاف ريال شهريًّا إذا طلبت الطلاق؟!".
تشكل النساء في اليمن نصف عدد السكان البالغ وفق الإسقاطات السكانية للعام 2023، ثلاثين مليون نسمة(1) أي إنّ عدد النساء يقدّر بـما يقرب من 15 مليون نسمة،
وبحسب كتاب مؤشرات التعليم في الجمهورية اليمنية للعام 2012/2013 الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء، فإن نسبة الطالبات في اليمن لا تتجاوز (37%) من إجمالي عدد الملتحقين بالتعليم، كما توضح الوثيقة الوطنية لتشجيع تعليم الفتاة أنّ عدد الفتيات المتعلمات في المناطق الحضرية تصل إلى (59%) في حين لا تتجاوز نسبة المتعلمات في الريف (24%) (2)، وبحسب تقارير أممية تبلغ نسبة الأمية في أوساط اليمنيات 65%،(3)أي إنّ ما يقرب من 10 ملايين امرأة يمنية تعاني من الأمية.
وترجع أسباب حرمان الفتيات من التعليم في اليمن لأسباب عدة، من أهمّها: الثقافة المجتمعية التي ما زالت إلى اليوم ترى أنّ تعليم الفتيات ليس بأهمية تعليم الفتيان، بل ويعد تعليم الفتاة في بعض المناطق النائية بالأخص بعد المرحلة الأساسية عيبًا اجتماعيًّا، كما يشكّل الفقر سببًا رئيسيًّا لتسرب الفتيات من التعليم، فلا تعليم مجاني في بلد تقول الإحصائيات الدولية إنّ ما يصل إلى 78% من سكانه يعيشون في فقر، بينما يحتاج 80% إلى نوع من الحماية الاجتماعية مثل المساعدات النقدية، ويلعب تدهور البنَى التحتية، وبُعد المدارس وافتقارها لدورات المياه أو لمعلمات، دورًا في تسرب الفتيات من التعليم بعد العام 2015، في مجتمع يتسم بأنه مجتمع محافظ.
ووفق تقارير أممية فإنّ أكثر من 2500 مدرسة لا تعمل في اليمن حتى نهاية العام 2018،(4)وبينما يعد زواج الأطفال واحدًا من آليات التكييف التي يلجأ إليها عددٌ مقلق من العائلات في اليمن للتعامل مع تزايد حالة اللااستقرار لديهم، يعد أيضًا أحد الأسباب الرئيسية لتسرب الفتيات من التعليم، مثله مثل شحة المياه التي تعد مسؤوليةُ جلبِها إحدى مهام النساء والفتيات اليومية في اليمن واللواتي ترك عددٌ منهن التعليم لجلبها من مناطق بعيدة نتيجة النزوح، أو نضوب مصادر المياه بسبب التغيرات المناخية، وتعد قلة الوعي بأهمية التعليم وأثره على التنمية المستدامة والاستقرار العام أحد الأسباب التي تجعل بعض العائلات في اليمن تعده غير ذي أولوية.
تسعى الدول النامية في العادة إلى اللحاق بركب الدول الصناعية الحديثة، لكن وصول تلك الدول إلى ما هي عليه الآن تطلَّبَ وجود قوة عاملة متعلمة وماهرة، وقاعدة عريضة من المواطنين الملمين بالعلم، "باختصار هذا هو المفتاح لتعزيز مجالات العلوم والتقنية والابتكار، وتواجه البلدان النامية عقبات للوصول إلى ذلك، ففي عام 2015، كان ما يقرب من 40 بالمئة من جميع الأطفال والمراهقين غير الملتحقين بالمدارس في العالم، يعيشون في أقل البلدان نموًّا، وكانت نسبة الالتحاق الإجمالية في التعليم العالي أقل من 9 بالمئة في عام 2013، مقارنة بنسبة 33 بالمئة في جميع أنحاء العالم"(5)، ويبدو أنّ غالبية هذه النسب في اليمن تشمل الفتيات والنساء للأسباب التي ذكرناها سابقًا؛ فهل يمكن أن تسعى دولة كاليمن لوضع خطط للتنمية المستدامة أو الاكتفاء الذاتي أو التعافي، والفتيات والنساء، اللواتي يشكّلن نصف عدد السكان، يعانين من الأمية والحرمان من التعليم؟ وهل يمكن لمجتمع أن يصل إلى الاستقرار الاقتصادي ونصفه تقريبًا عاطل عن العمل، بل ويشكل عبئًا ماليًّا على النصف الآخر؟ وإذا كانت هذه الأسئلة بُنيت على نسب وإحصائيات معظمها جُمعت قبل العام 2015، فيبدو أنها ستكون اليوم أشد تأثيرًا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في اليمن، ورغم الأثر الذي يتركه حرمان الفتاة من التعليم على الدخل القومي والقوى العاملة والاقتصاد ككل، فإن هناك آثارًا أخرى مباشرة وغير مباشرة؛ فعلى مستوى الأسرة تتولى الأم العبء الأكبر في تربية الأطفال، بل هي الأكثر تأثيرًا في حياتهم وقيمهم ومعارفهم وقناعاتهم، ذكورًا وإناثًا، فكيف لها في عصر الانفتاح الإعلامي وزحف وسائل التكنولوجيا الحديثة وفي مطلع الحياة الرقمية والذكاء الاصطناعي أن تربي جيلًا سويًّا قادرًا على تحمل المسؤوليات والبناء والتنمية، وهي حتى لا تجيد القراءة والكتابة؟ وكيف لها وهي التي ترتبط بشكل يومي باستخدام الطاقة والوقود والغذاء ومصادر المياه والطبيعة بمختلف مكوناتها أن تتعامل بمعرفة مع التغيرات المناخية والدعوات للاقتصاد الأخضر دون أن تكون متعلمة تعليمًا يؤهلها لمواجهة كل تلك الأزمات والكوارث؟
وعلى مستوى المجتمع تعد الدول التي تعاني فيها النساء والفتيات من الحرمان من التعليم دول لديها اختلالات هيكلية في بُناها السياسية والقانونية إذ توجه إليها اتهامات بأنها لا تحمي عدالة الفرص وتكافؤها بين الجنسين، حيث تنعكس عدالة الفرص التعليمية على عدالة الفرص قي المشاركة المجتمعية ككل، لأن تعليم الفتيات يقتضي عملهن مما يقود الى مزيد من آليات إدماجهن في إدارة مؤسسات الدولة وخلق شراكة فاعلة بين الرجال والنساء في بناء مجتمعاتهم وتلبية الاحتياجات العامة من منظور تكاملي وشامل يشارك فيه كافة أفراد المجتمع.
يقضي الرجال أعمارهم في حماية بناتهم وتوفير سبل عيش جيدة لعائلاتهم، ويرى البعض أن حرمان فتياتهم من التعليم والعمل إحدى طرق تلك الحماية الأسرية، وبالرغم من أن غالبية الرجال في اليمن وتماشيًا مع العُرف المجتمعي لا يزالون هم من يعولون النساء، ولو بالحد الأدنى الذي يوفر الاحتياجات الأساسية لهن، في ظل متطلبات حياتية تتزايد يومًا بعد يوم، لكنهم لا يدركون أنّ الحماية الحقيقية والأكثر استدامة التي يمكن تقديمها للفتيات والنساء في اليمن هي تعليمهن، فالحياة مليئة بالمتغيرات التي تجبر في كثير من الأوقات الرجل أن يبتعد عن أسرته؛ إما بسبب عمله أو هجرته أو لأسباب مصاحبة للكوارث والأزمات السياسية أو لوفاته أو لزواج بناته وأخواته إلى مناطق خارج محيطه الجغرافي، لتصبح الفتيات والنساء في مواجهة ظروف قاسية وأشخاص مختلفين عن أولئك الذين شملتها حمايتهم منذ نعومة أظافرها، ليجدن أنفسهن في كثير من الأوقات عاجزات عن تلبية احتياجاتهن الشخصية أو احتياجات أطفالهن، مما يدفعهن لتقبل أوضاع معيشية سيئة تنتهك أبسط حقوقهن فقط لأنهن لا يمتلكن تعليمًا يمكنهن من العمل والاعتماد على أنفسهن، فضلًا عن تعرضهن لأزمات معيشية تتطلب منهن الكثير من المعرفة والعلم، في وقت أصبحت النساء والفتيات فيه أكثر عرضه للابتزاز، لذا تقع مسؤولية تعليم الفتيات على عاتق أهاليهن كحماية ذاتية لهن وسلاح يمتلكن إشهاره متى اقتضت الضرورة، وتقع على عاتق الدولة ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص مسؤولية توفير بيئة تعليمية تناسب الفتيات وتلبي احتياجاتهن بل وتقدم لعائلاتهن حوافز نقدية أو عينية كمشاريع النقد أو الغذاء مقابل التعليم، وتقع على عاتقهم جميعًا مسؤولية ردم الفجوات التعليمية الناتجة عن تسرب الفتيات من التعليم لفترات طويلة من خلال مسارات متعددة تتمثل في بناء وإصلاح وترميم البنَى التحتية ورفع وعي المجتمع اليمني بأهمية تعليم الفتاة، وإنشاء مراكز محو الأمية ومراكز التأهيل والتدريب الحرفي للنساء على مستوى المجتمعات المحلية، ليتمكنَّ من اللحاق بسوق العمل، ولتعزيز الشراكة المجتمعية الفاعلة للنساء والرجال على حدٍّ سواء في البناء والتنمية.
الهوامش:
(1) السكان في اليمن، موقع فيماك. 12 أغسطس2020. https://fanack.com/ar/yemen/population-of-yemen/
(2) أمل صالح، تعليم الفتيات في اليمن بين السلطة الذكورية والقانون.https://mediasac.org/ar/gender/girls-education-in-yemen
تقرير دولي: نسبة الأمية بين نساء اليمن 65%. مأرب برس. 21 مارس.2021https://marebpress.org/news_details.php?sid=23603(3)
(4) الصراع في اليمن يخلف آثارًا مدمرة على التعليم: مليونا طفل محرومون من التعليم، موقع أخبار الأمم المتحدة، 27 مارس 2018، https://news.un.org/ar/story/2018/03/1005081
(5) جسر الفجوة التقنية في أقل البلدان نموًّا، وقائع الأمم المتحدة، https://www.un.org/ar/44911