يقول علي ولد زايد
ما يردع البرد رادع
إلا الزبيب والهريسة
وإلا جهيش الروابع
وإلا عسل لونه أبيض
من حق علان وسابع
ذاع صيت العسل اليمني في العالم واكتسب شهرة واسعة، نظير جودته وفوائده الصحية الكثيرة، ومحليًّا يحظى بأهمية كبيرة، حيث لا يُعدّ سلعة تجارية نقدية فحسب؛ بل يرتبط بالثقافة الشعبية لدى أفراد المجتمع، الذين يتداولون الكثير من الأمثال، والأقوال الشعبية، والحكم، حول العسل وفوائده بلهجتهم العامية المتنوعة.
العسل مادة أساسية في خلطات الطب الشعبي، قديمًا وحديثًا، لأغراض التداوي، والتسمين، وفي وصفات التجميل الخاصة بالنساء، ويحضر كذلك في موائد اليمنيين المزدحمة بالأكلات الشعبية.
"الشيبة يرجع شباب"
"يُقَوِّي الرُّكَب"؛ مقولةٌ شعبية متداولة في اليمن، تأتي غالبًا كناية عن فائدة العسل في القوة وزيادة القدرة الجنسية لدى الرجال؛ ولذا يقول اليمنيون، إنّ أفضل هدية يمكن أن تقدم لعريس وعروس سيتزوجان: "دبة عسل يمني من الأصلي"، بل ويبالغون -مجازًا- بأن للعسل قدرة عجيبة في جعل الشيبة (كبير السن) شبابًا، في صحته الجسدية والعقلية، فيصفون فائدة العسل بأنّها تُعيد الشيبة شبابًا.
والعسل، مادة أساسية في خلطات الطب الشعبي، قديمًا وحديثًا، لأغراض التداوي، والتسمين، وفي وصفات التجميل الخاصة بالنساء، ويحضر كذلك في موائد اليمنيين المزدحمة بالأكلات الشعبية.
في واحد من الإعلانات التجارية، وظّف بائع عسل شهير، الثقافةَ الشعبية المرتبطة بالعسل، في تصميم إعلانه، وربطها بحدثٍ كان رائجًا وقتها، حيث يظهر في الإعلان رجل كبير في السن، وكأنه بقوته في عمر الشباب، يجر خلفه سفينة ضخمة، في محاكاة لسفينة الحاويات التي جنحت في قناة السويس في مارس عام 2021، وتسبّبت في إغلاق القناة، وجرت حينها محاولات تعويمها عدة أيام، وفي هذا الإعلان كُتِب مع الصورة المرفقة عبارة: "ما لها إلا الحاجّ يحيى"، وهنا إشارة إلى فائدة العسل الصحية للإنسان، وكيف أنه يمنح الجسم قوة أكبر.
مؤخرًا، انتشر التسويق الإلكتروني للعسل اليمني بشكل كبير ولافت، حيث يعتمد بائعو العسل على منصات التواصل الاجتماعي في ترويج وعرض ما لديهم، بأساليب وأفكار بعضها يُقتبس من الثقافة الشعبية والإرث الثقافي، يقول بائع العسل، حمزة بادي لـ"خيوط"، إنه يقدّم ويعرض المعلومات الخاصة بالعسل لديه، ثم يأتي الزبون مقتنعًا وجاهزًا للشراء.
في الفيديو الذي نشره اليوتيوبر الأردني، جو خطاب، في يونيو الماضي عن زيارته لمحافظة حضرموت (شرق اليمن)، المشهورة بأجود أنواع العسل، ظهر المؤرخ المعمر جعفر محمد السقاف، من مواليد 1918، عمره الآن وصل إلى 106 أعوام، يتمتع بصحة جيدة، يتحدث ويسمع ويرى دون مشاكل صحية، وكان يقود سيارته، حتى إنه تزوج حديثًا قبل أربع سنوات، ومن ضمن ما قاله عن السر في قوته وصحته، مواظبته صباح كل يوم على تناول العسل، إضافة إلى حبيبات التمر.
يُقبل اليمنيون على شراء العسل مع دخول فصل الشتاء، فهو بنظرهم أفضل مكافح للبرد، يغنيك عن وصفات الأطباء، ويمنحك المناعة الكافية لمقاومة أمراض الشتاء وتقلبات الطقس.
أفضل مكافح للبرد
اتساقًا مع ما يعتقده الناس في اليمن حول العسل وفوائده، يزيد إقبال اليمنيين على شراء العسل مع دخول فصل الشتاء، فهو بنظرهم أفضل مكافح طارد للبرد، يغنيك عن وصفات الأطباء، ويمنحك المناعة الكافية لمقاومة أمراض الشتاء وتقلبات الطقس، وهنا نشير إلى قول علي ولد زايد: "ما يردع البرد رادع"، وذكر منها: "والا عسل لونه أبيض، من حق علان وسابع".
والمقصود بـ"عسل علان وسابع": العسل الذي ينتج في الشهر العاشر والحادي عشر من السنة الميلادية، حيث تزداد طلبات الشراء على العسل بشكل أكبر؛ لأن فيهما يكون موسم السدر.
العسل في الأغنية والأمثال
في الأغنية اليمنية، يأتي ذكر العسل بصفته رمزية جمالية عند وصف الحبيبة، بتعابير جريئة أحيانًا، كما في مطلع هذه الأغنية: "اسقيتني الشهد من فمك، ريقك عسل نوب دوعني"، وفي أغنية أخرى، تقول كلماتها: "منك يا عسل دوعن، قوت العاشقين"، وكذلك: "يا عسل في صياني مرح مسكوب".
وفي الأمثال الشعبية، يحضر العسل كثيرًا في عبارات لا تخلو من النصائح والحكم، أشهرها: "لو حبيبك عسل، لا تلحسه كله"، و"لو حبيبك عسل، خلّي منه وسل"، و"من يريد العسل، يصبر على لسعة النوب"، و"يا عسل في صيني، لحسوه النيني"، ولكل مثل شعبي، استخدامٌ ودلالة معينة.
كان التجار الدواعنة ينقلون العسل من جميع الأودية التي تتبع المديرية ويبيعونه خارج المديرية والمحافظة، وهكذا طغى اسم العسل الدوعني على العسل الحضرمي بشكل عام.
ثنائية دوعن والعسل
ارتبطت دوعن بالعسل، وهي مديرية في حضرموت (شرق اليمن)، فيها وادي دوعن، أو وادي العسل، كما يسميه بعضهم، يقع غرب المحافظة، واقترن العسل ذو الجودة العالية باسمها، فيقال هذا "عسل دوعني".
سألت "خيوط" تاجر العسل بحضرموت، سالم عمر الرامي، عن سبب هذا الارتباط وشهرة عسل دوعن، يقول سالم: "إنّ ارتباط دوعن بالعسل في السابق وقديمًا، كان بسبب أنّ جميع وديان حضرموت وقتها كانت تحت إدارة دوعن، مركز المديرية، وكانت دوعن تضمّ وادي دوعن نفسه، ووادي عمد، ووادي يبعث، ووادي العين، وجميعها أودية منتجة للعسل، إضافة إلى وديان أخرى مجاورة خارج حدود المديرية".
وكان التجار الدواعنة -بحسب سالم- ينقلون العسل ويبيعونه خارج المديرية والمحافظة. وفي مدينة الهجرين الواقعة في منتصف الطريق، كان التجار يتوقفون مع قوافلهم، للتزوّد بالمؤن، وكانت المدينة سوقًا يُباع فيه العسل، وهكذا طغى اسم العسل الدوعني على العسل الحضرمي بشكل عام، واشتهر بين التجار والمستهلكين المحليين، ثم ذاع صيته في العالم.
يوم العسل اليمني
وكما أنّ للنحل يومًا عالميًّا يصادف 20 مايو من كل عام، فإنّ للعسل اليمني يومًا مميزًا خاصًّا به، حيث يقام للعام الثالث على التوالي، في الأول من شهر أغسطس، المهرجان الوطني للعسل اليمني، ومنتجات النحل، في حديقة السبعين بأمانة العاصمة صنعاء.
ووفق القائمين على مهرجان العسل الثالث، هذا العام، الذي يستمر ستة أيام، فإنه يهدف إلى الترويج للعسل اليمني، وإحياء مكانته في المحافل الدولية والارتقاء في تسويق الماركات اليمنية من هذا المحصول النقدي عالميًّا، إلى جانب تعزيز دوره في النمو الاقتصادي والوصول بمنتجاته إلى الاكتفاء الذاتي.
ويسعى أيضًا إلى إيجاد نقطة اتصال بين منتجي ومسوقي العسل اليمني للارتقاء بتسويقه محليًّا ودوليًّا عبر إبراز جملة من ماركات ومنتجات النحل بما يحفظ مكانته وشهرته العالمية التي عرف به. كذلك يسعى المهرجان للحفاظ على الإرث التاريخي لإنتاج العسل اليمني وتسويقه، إلى جانب احتواء منتجي العسل في جمعيات، ومسوقي العسل في شركات متخصصة.
أغلى الأنواع وأنفعها
يوجد في اليمن أكثر من 16 نوعًا من العسل، منها أنواع تستخدم للعلاج وأخرى غذائية، ينتجها نحّالو اليمن المنتشرون في جميع المحافظات، وكل نوع له شهور معينة وأزهاره موجودة في مناطق محددة، وفق ما قاله بائع العسل حمزة بادي، ويأتي عسل السدر، الذي يطلق عليه "الذهب السائل"، في مقدمة هذه الأنواع من ناحية فائدته وسعره الباهظ؛ فلماذا عسل السدر بهذه القيمة والأهمية؟
يُعرف اليمن بإنتاج العسل ذي الجودة العالية، ويُعدّ العسل الذي ينتج من نبتة السدر التي تنمو في الأراضي البرية والصحراوية في اليمن، من الأفضل في العالم، وعسل السدر ذاته له أنواع عدة، بحسب منطقة النبتة التي استخرج منها، أفضلها جودة عسل السدر الحضرمي، وحضرموت (شرق اليمن)، اشتهرت بتصدير العسل فائق الجودة إلى العالم.
في حضرموت، يبيع النحّال، الكيلو الواحد من عسل السدر بنحو 250 ريالًا سعوديًّا، أمّا التجار فيبيعونه بسعر 300 إلى 400 ريال سعودي.
وتوضيحًا للقيمة الكبيرة في السعر والفائدة لعسل السدر، يقول النحّال عبدالجبار الغولي، لـ"خيوط"، إن في عسل السدر مضادات أكسدة، فهو أغنى عسل في العالم يحتوي على هذه المضادات. هذا ما أكده أيضًا تاجر العسل بحضرموت، سالم عمر الرامي، الذي أوضح لـ"خيوط"، أنّ السبب متعلق بما يحتويه عسل السدر من كميات كبيرة من المضادات الطبيعية، كما يمكن للجميع تناوله، دون أيّ أضرار جانبية، بمن فيهم مرضى السكر، والأمراض المستعصية.
وأنقى عسل سدر، هو ذاك المستخرج من نبتة السدر في المناطق التي تكون أمطارها موسمية، وغير صحراوية؛ لسببين -بحسب تاجر العسل سالم عمر- الأول أن المناطق التي تكون الأمطار فيها موسمية، تتوقف فيها الأمطار قبل موسم السدر، فتموت جميع النباتات والأزهار، أو تصبح يابسة، عدا شجرة السدر، فيتم استخراج العسل صافيًا من السدر فقط.
السبب الثاني أنّ المناطق الصحراوية، مثل صحاري محافظة شبوة تحتفظ بالمياه مدة أكثر، وأثناء ذلك تنبت أشجار أخرى كالعلقاء، وتستمر عدة أشهر، ويتزامن معها موسم السدر، وبهذا يكون العسل المستخرج مخلوطًا من نبات السدر والعلقاء، وليس صافيًا.
الحال ذاته في المناطق شمال اليمن، التي تشهد في الأغلب أمطارًا متواصلة، حيث تنبت أشجار وأزهار مختلفة من بينها السدر، يُستخرج منها العسل، فيكون العسل خليطًا منها.
استُخلص عسل السدر الحضرمي بالطرق التقليدية من مناطق في مديرية يبعث، بينما استُخلص عسل السدر العصيمي من محافظة عمران (شمالي اليمن)، وعسل السدر الجرداني من جردان، محافظة شبوة.
ثلاث جوائز لعسل اليمن
في 6 يوليو الجاري، فاز العسل اليمني بثلاث جوائز دولية، واحدة بلاتينية وذهبيتين في مسابقة لندن الدولية لجودة العسل 2024 London International Honey Awards، التي تُنظم سنويًّا لاختيار العسل الأفضل جودة في العالم.
وفاز عسل السدر الحضرمي بالجائزة البلاتينية، وهي أعلى جائزة تُمنح في هذه المسابقة الدولية الخاصة بجودة العسل، إذ حقّق درجة تتراوح بين 95.5 و100، في حين فاز كلٌّ من عسل السدر العصيمي وعسل السدر الجرداني بالجائزتين الذهبيتين.
وشارك في المسابقة نحّالون وممثّلون لشركات إنتاج العسل من نحو 36 دولة، وبأكثر من 295 عينة من أنواع العسل المنتج في العالم.
وعسل السدر الحضرمي الذي فاز بالجائزة البلاتينية استُخلص بالطرق التقليدية من خلايا النحل الطينية والخشبية (الأجباح) من مناطق في مديرية يبعث بمحافظة حضرموت (شرقي اليمن)، بينما استُخلص عسل السدر العصيمي الذي فاز بالجائزة الذهبية من محافظة عمران (شمالي اليمن)، وعسل السدر الجرداني الذي فاز بالذهبية الأخرى من محافظة شبوة (جنوب شرق اليمن).
وعيّنات العسل التي شاركت في المسابقة اختُبِرت وحُلِّلت معمليًّا في لندن وأُثبِت جودتها، قبل أن تخضع لاختبار التذوق من لجنة تحكيم مشكّلة من 12 خبيرًا من المملكة المتحدة وإيطاليا وتركيا وألمانيا وصربيا وسلوفينيا وكرواتيا وبيلاروسيا.
وتُصنّف جودة العسل وفق خصائص مُعينة؛ كَاللّون والنقاء والرائحة والملمس والنكهة واستمتاع المتذوق، كما أنّ اختبار التذوق الأعمى يسير وفق القاعدة التي تشترط على الخبير تذوق العسل دون معرفة نوعه، وعقب ذلك يسجل رموزًا خاصة بالعينات، لضمان التنافس الشفاف.